السيمر / الأربعاء 28 . 06 . 2017
هاتف بشبوش
(الحبّ هو الفرصة الأخيرة التي تستحقّ التشبّث بها في هذه الأرض…لويس أراغون)…….
إحسان عبد الحسين أبو شگاگ حطّ من كوكب الأمومة في هذه الأرض في عام 1956 حيثُ تنفّس النّفس الأولى في السماوة ، ثمّ حبا و لهى و شابَ و لاقى من الأهوال حتّى استطاع أنْ يُمارس موهبة الكتابةِ خفيةً و بشكلٍ شخصيّ دون الإعلان عن هذه الموهبة بسبب أوضاع البلد من حروب و دمار و بوليسيات في زمن البعث، كلّها انعكستْ على الواقع العراقيّ المُعاش فلمْ يستطع الاستمرار ، و بعد سقوط النّظام تفجّرتْ لديه موهبةُ الشّعر من جديدٍ، و هو في عمر الخمسينيات حتّى أثمرتْ بكتابه قيد دراستنا:
” ومضات من حجر…نصوص نثرية ” و هي نصوصٌ متأرجحة بين الشّعر و القصّة القصيرة جدّا .
إحسان الشّاعر المُحترف الذي يصدحُ من بقاع الجنوب العراقيّ ، المعطاء الذي لا يبخل قدر إمكانه في الحديث عن الحريّة و هموم النّاس ، بوقفته الرّشيقة و الأنيقة في ملبسها الشّعري قد سطّر لنا ما الذي يجبُ أنْ يُقال في حقّ الوطن و المرأة و الحبّ.
إحسان الشاعر الثريّ مالاً ، هو من القلّة القلائل ، من طبقة الأثرياء الذين ناصروا الفقراء ، والقضيّة الأدبيّة التي بالأساس هي دربُ الألم، فهو على طريقة نبلاء القرون الوسطى حيثُ كانت الفصاحة تقتصر عليهم في التّعليم ، بينما الفقراء لا يحقّ لهمْ التعلّم و الفصاحة ، مع الفارق أنّ إحسان مناصرًا للفقراء بلْ يريدهم أنْ يكونوا في الصفّ الأوّل من التّعليم .
أحببتُ الأسلوب الذي يكتب به إحسان و الانزياحات و التوريات الخفيفة التي تناولها ممّا زاد في كتاباته جمالاً و ألقًا و شكلاً و مضمونًا .
إحسان في كتابه مدار دراستنا هذه ( ومضاتٌ من حجر) يكتبُ المكثّف الواضح الذي لا يثقلُ على القارئ في فكّ رموز شفرات المعنى و أنا شخصيًّا أميلُ إلى حبّ الشّعر الواضح الذي يعطيني مساحةً من الطّرب أثناء قراءة النّصوص عكس الشّعر الغامض الذي يُثير في نفسيّتي الغثيان و الضّجر. الشعرُ أكثرُ جمالاً حين يكون واضحًا ، ثمّ إنّ الغموض يعني عدم إمكانية المعني أنْ يكتبَ شعرًا ، لأنّه لوْ كتبَ الوضوح فإنّه سيجدُ نفسه منزلِقًا في الكلام اليوميّ و أبجديات الشّارع و المقهى ، يعني هذا أنّ الكثير منّا كان يتصوّر أنّ بإمكانه أنْ يكتبَ نُصوصًا واضحةً على غرار نزار قباني أو الماغوط لكنْ هذا النّوع من الكتابة صعبٌ للغاية فهو ينتمي إلى عوالم البساطة السحريّة لكنّه في غاية التّعقيد و أصعبُ بكثيرٍ من الشّعر الغامض المقيت، فالكتابة الواضحة تتطلّب مهارةً عاليةً خصوصا في قصيدة النّثر ، لأنّها تعتمدُ على فكرة معينة موجزة و عليه فإنّ الكاتب فيها لا يمكنُ أن يكون كذّابًا على عكس ما هو عليه في بقيّة الأجناس الأدبيّة التي منَ الممكن أنْ يكذب فيها الأديب مثلما في القصيدة العمودية التي أصبح الكثير من كتابها نسّاجون كذابون لأنّهم يعتمدون على شكل القصيدة و ليس المعنى و الجوهر و الهدف و الغاية ( مثل العاهرة التي نراها جميلة في تزويقها لكنّها من الدّاخل مشوّهة و مبعثرة)،لذلك أنا أؤيّد فكرة أن يكون الشّعر واضحًا لأنّ مهمّة الشّعر هي الالتصاق بعامّة النّاس .
أنا أستطيعُ أنْ أكتبَ يوميّا عشرة نصوصٍ غامضة و أدّعي أنّها القصيدة القصيدة… فهل منْ مبارز ؟؟؟؟؟؟… حتّى أدونيس تحوّل إلى كتابة النصّ الواضح بعدما شبِعنا من نُصوصه التي تسدّ النّفس . أمّا سعدي يوسف فهو منذ البدء واضحًا سلسًا، ثمّ محمود درويش، و كلّ شعراء المقاومة الفلسطينيّة الذين تغنّينا بأشعارهم المُطربة للنّفس. فألفُ تحيّةٍ لإحسان ، لنهجه هذا الأسلوب السحريّ الواضح و الجليّ ؛ كما النّهار لكنّه المتينُ شعرًا و فصاحةً و لغةً يستطيع صاحبها الإفتخار بها .
الشّاعر إحسان في ( ومضات من حجر) استطاع أنْ ينقلَ لنا حقائق كنّا نجهلها أو نسمعُ عنها دون أنْ نُصدّقها نظرًا لهولها و فداحتها ، لكنّنا قرأناها عن تجربة واقعيّة لشخص مرّ بكلّ ما حدث هناك و تألّمَ جسده و انقبضتْ روحه بأنينٍ واضح من خلال النّصوص البديعة .
الشّاعر إحسان حينَ يحلمُ فهو كحال الأدباء الآخرين فما باليد من حيلةٍ غير الحلم لأنّ الواقعَ مريرًا لا يُطاق و لذلك تتحقّق الكثير من الصّعاب في أحلامنا فإذا ما إستفقنا نجدُ أنفسنا تكدّرنا منْ جديدٍ ثمّ نحلمُ و نستفيقُ و هكذا دواليك و هذه بحدّ ذاتها دواءً شافيًا للعللِ و الأمراض التي تُصيبنا و لوْ لفترةٍ وجيزةٍ .
الحلمُ هو الملاذُ الوحيد لكلّ من استعصى عليه الوصال من حبيبٍ فارقه ذاتَ يومٍ مضى، الحلمُ يصيرُ على أشكالٍ عدّة، ربّما على هيئةِ أطنانٍ من القُبلِ لكثرة ما عاشهُ الحبيب من جفاءٍ و هو يتمنّى لقاءها على فراشٍ وثيرٍ ، الحلم هو اللّقاء الوحيد مع من أحبّه دون رؤيا النّاس لي و حسدهم و عذلهم، الحلم هو المضاجعةُ المثلى التي تجعلني في خدرٍ لا نهائي من الانتشاء ، هو الجنسُ الذي أحلمُ أن أمارسَهُ بكلّ قوّتي على غرارِ أفلام البورنو التي تزرعُ السّعادة في الآخرين من الذين عجزوا أنْ يُؤدّوا الحبّ و المضاجعة بالعذوبة و رقّة الأحاسيس مع الإفتخار بالقوّة الرّجوليّة التي يُراد لها أنْ تكون بمستوى إرضاء الرّغبات . لكنّ إحسان لهُ نظرةً أخرى في الحلم علاوةً على ما قلناه كحال محمّد الماغوط الذي يقول (أيّها النّساجون. ..أريدُ كفنًا واسعا لأحلامي). لنقرأ الكاتب إحسان في أوّل ثيّمةٍ له من هذا المنجز عن الأحلام بعنوان ( ابن آوى) :
أكل ابن آوى لحمَ البطِّ ..
و ترك لنا الريش
الذي صنعنا منه وسادة ..
لكنّ شبحه ظلّ يطارد أحلامنا !
ــــــــــــــــــــــــ
الثيمة أعلاه تناغي القرّاء الذين لاقوا الكثير من الظّلم على أيدي المجرمين الذين لمْ يُبقوا لهم شيئا غير الخوف من بطشهم بعد أنْ أكلوا الغث و السّمين . و يستمرّ الكاتب، و لمْ يتوقّف عن قول الحقّ في مناصرة الضّعيف لنرى ما يقوله أدناه في نصّ ( تفّاحة):
قشّر المشرّعُ الرجيمُ تفاحة اللّذةِ ..
قضمَ منها ثلاثة أرباعٍ و نصفا ..
طلبوا منه القشور..
ضحك و بقيَ ممسكًا بالسّكين
محدّقًا بما تبقّى من التّفاحة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
برنادشو سألوه يومًا عن الظّلم و التّوزيع غير العادل للثّروات بينما ينظرُ إلى صلعته و لحيته الكثّة فقال : ( غزارةٌ في الإنتاجِ و سوءٌ في التّوزيعِ ) .
يستمرّ الكاتب في مؤازرة الفقراء في شذرته البديعة أدناه ( غفلة) :
الرّجل الذي فوّضَ أولاده و اتمنهم على أملاكه
استيقظ من شدّة الجوع ..
لمْ يسعفه دفء الموقد ليهدأ جرحه ..
لقد تعلّم مع الوطن كيف يريح خدّيه براحتَيْ كفّيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع هذه النّغمة والسيمفونيّة الجائعة التي خطّها المبدع إحسان حول فقراء الكون الذين و هُمْ في غفلةٍ منهم إستطاع ويستطيعُ الجشعون أنْ يجعلوا منهم جياعًا طالما الجهل متفشٍ بين هذه الطبقة المسحوقة على الدّوام في الكثير من الدّول على غرار الصومال و العراق و اليمن وسوريا بينما الجشعون و على رأسهم الإمبرياليّة العالميّة و سماسرةَ الخليج هم الآداة القمعيّة بيدها و التي لمْ تزل تنفّذ كلّ الخططِ المجرمة التي تُحاك في دوائرِ مخابرات الدّول الكبرى على غرار أمريكا عدوّة الشعوب و أذنابها التي ناصبتْ العداء للطبقات المسحوقة بلْ تنظرُ إليهم كنوعٍ منَ المسخ ، هكذا هو دأبُ المُستغِلّين ضدّ المُستغَلين .
هؤلاء الجشعون لا يتورّعون منْ أنْ يفعلوا أيّ شيء بحقّ الإنسان ، لا يعرفون لغة النّدم بلْ التّمادي في الإجرام و همْ يقظونَ ، لعلّهم يتعلّمون منْ السّكارى الثّملين في لحظة التّفكير بارتكاب الخطيئة ، فيتراجعون عن الفعل الشّنيع ، مثلما وصفهم الكاتب أدناه في نصّه ( حثالة الخمر) :
ترنيمة اللّيل أوحتْ لشارب الخمر أنْ يرميها و ابنتها خلف أسوار المواويل الثكلى ..
العيون خائفةٌ !
تنتظر رؤية ديك الفجر معلنًا عن الصّباح المرتجى
عسى أن يشفع له ندمه فيتخلّص من ثقل جبل الخطيئة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاربُ الخمر في أغلب الظنّ لا يمكنه أنْ يفعل الرّديئة مهما ثملَ أو سكر لأنّه يخاف من غضب إله الخمر ديونيسيس ، بلْ هو ذو القلبِ الطيّب المعطاء ولذلك تراجع إحسان في نهاية النصّ و اعترف كلّ الاعتراف بأنّ هناك من الأمل أنْ لا يفعلها عند مطلع الفجر حيث الرّجاء صانعُ المعجزات .و مع ذلك يبقى الرّجل في شعوبنا الشرقيّة هو صاحبُ الكلمة في البيت و في كلّ أمور الحياة لأنّ المجتمعات هناك هي مجتمعاتٌ رجوليّة بحتة . حتّى في الحبّ الذي يستمرّ فترات طويلة نرى هناك ما يتحكّم به الرّجل لأنّ السّلطة تجري في عقله الباطن لنقرأ مايخبرنا الكاتب في نص( حبّ) :
بَعدَ ثلاثِينَ عاماً مِنْ زواجِهِما
كلَّمَها بِنبرةٍ سَاخِرة :
سَأبحَثُ عَن امرأةٍ غَيركِ !
قالَتْ : يا رَبيعَ الحَياة
فِي البَحرِ يَنامُ القمر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرأة هي الشّجن و كلّ ما فيه من جمالِ الرّوعة و الطلّة و النّغمة التي تحكي قصصًا وجدائل النّساء الجميلات الحنونات و الثكالى و ما أكثرهنّ في هذا الكون المأساويّ بحقّ.
( المرأة لو تعرضّت لإغراء رجلٍ فعليه أنْ يجتاز الجبال لكيْ ينال قلبها ، أمّا المرأة إذا أرادتْ إغراء رجل لا يتطلّب الأمر سوى إجتياز حاجز ورقي ….مثل صيني) .
العلاقة بين الرّجل و المرأة في بداية الأمر و حتّى في مشوارها المتقدّم لا يمكنُ لها أنْ تكون بدروبٍ مبلّطة ، بلْ أغلب الطّرق شائكة ، و حتّى يصلان إلى برّ الحبّ تراهما ينسجان الخيالات حول الدّخول في قلبَيْ الآخر و مهما يكنْ منْ أمرٍ فإنّ الرّجل تستهويه حتّى شمّة واحدة من عطرها لكنّها تظلّ الكتاب الذي يجبُ أن يتوغّل في قراءته أكثرَ منْ مرّةٍ بلْ عشراتُ المرّات ، و الرّجل الشّجاع ليس ذاك الذي يغوي أكثر من امرأة بل هو الذي يستطيع أنْ يغوي المرأة نفسها أكثر منْ مرّة . و لذلك حينما يمازحها حول تركها و الرّكون إلى حبّ امرأة أخرى فإنّه يأتي من باب الهزار و الحبّ الحقيقيّ ، و إنْ حصلَ الجدّ فهذا يعني أنّك أطلقت عليها رصاصةَ الرّحمة التي لا يُمكن أنْ تغفرها لكَ ، لأنّ الرّجل حين يبحثُ عن امرأةٍ أخرى غير سيّدته فهذا يعني أنّه يقول لها إنّكِ أصبحتِ غير جميلة و غير جديرة بي و هنا مأساةُ المرأة الحقيقيّة في عالم حبيبها أو زوجها، و لذلك هناك بعض رجالات الدّين المنفتحين قدّموا طرحًا رائعًا حول قضيّة زواج الرّجل على امرأته أو خيانتها دون أن تدري و ما هو الأفضل لها في هذيْن الأمريْن المريريْن عليها ، فيقول رجل الدّين هذا منْ أنّ خيانة الزّوجة دون أنْ تدري هي الأفضل من أنْ يتزوّج عليها مرّة أو أكثر لأنّه حين يتزوّج عليها بدرايتها و بما تكفّلُ له الشّريعة الإسلاميّة .. هذا يعني قولاً صريحًا من قبله أنّها أصبحتْ قبيحة و لمْ تعد بذاك المستوى من الإغراء و الأنوثة و هذا بحدّ ذاته يعني أنّه قد أصابها مقتلاً .
يتبــــــــــع في الجـــــــــــزء الثانــــــــــي