السيمر / الاحد 24 . 02 . 2019
د . مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
أصيبت القيادة الروسية على كل المستويات السياسية، ومعها الكثير من المراقبين والمتابعين والمهتمين بالشأن الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي في روسيا الاتحادية بالصدمة، وانتابتهم مشاعر مختلطة بالحزن والأسى والضيق والألم، نتيجةً للصورة السلبية التي رسمها ممثلو القوى والتنظيمات الفلسطينية، الذين اجتمعوا في موسكو بدعوةٍ من مركز الاستشراق التابع لوزارة الخارجية الروسية، إلا أنهم لم يقدروا الجهود الروسية، ولم يعيروها الاهتمام اللائق بها، ولم يحترموا الضيافة الروسية والاستعدادات الرسمية الكبيرة التي قاموا بها لاستضافة الوفود الفلسطينية، وتوفير كل السبل الممكنة ووسائل الراحة اللازمة لضمان نجاح حوارهم، واتفاقهم على برنامج عملٍ مشتركٍ يخرجهم من الأزمة التي يعيشون فيها، وينتشلهم من دائرة الاختلاف والانقسام الذي شتت شملهم ومزق صفهم، وأضعف قوتهم، وأظهرهم في صورةٍ بائسةٍ محزنةٍ. لم يبالغ الروس في غضبهم، ولم يتظاهروا بالخروج عن طورهم، ولم يفتروا على الفلسطينيين المجتمعين في دارهم ويفتأتوا عليهم، فهم فعلاً قد تعرضوا للإهانة، وشعروا بأن صورتهم قد اهتزت وكرامتهم قد خدشت، فقد استخف الفلسطينيون بهم وبجهودهم وهم دولةٌ عظمى، لها وزنها وعندها دورها ولها تاريخها الكبير ونفوذها الواسع، وهي صادقة في دعمها للفلسطينيين وتأييدها لحقوقهم، إذ أعلنت للمجتمعين في بيتها أنها مع ما يتفقون عليه، ولن تقبل بأقل مما يريدون ولن توافق أبداً على ما يرفضون ويعارضون، ولكنها تريد منهم رأياً موحداً وإطاراً جامعاً يحفظهم ويوحدهم، كي يعزز جهودها في الدفاع عنهم، ويساعدها في تبني مواقفهم ومساندتهم في نضالهم العادل وسعيهم المشروع لنيل حريتهم واستعادة أرضهم وبناء دولتهم المستقلة. عبَّر بعض الروس بصورةٍ غير رسميةٍ عن غضبهم من الوفود الفلسطينية التي فشلت في الاتفاق، وتعمدت الاستهتار بالجهود الروسية والاستخفاف بها، برغبته في أن يحتجز المشاركين جميعاً في بقعةٍ نائيةٍ في سيبيريا، وسط البرد والثلج والصقيع، فلا يقدم لهم أحدٌ عوناً، ولا يخف لمساعدتهم أحد، حتى يجدوا لأنفسهم حلاً، ويضطرون للتوافق فيما بينهم، وتجاوز مشاكلهم للنجاة بأنفسهم والخروج من مأزقهم، وقد لاقت هذه الرغبة الغاضبة استحساناً من كثيرٍ من العرب والفلسطينيين فضلاً عن الروس أنفسهم. بعيداً عن الاختلافات الداخلية التي تعصف بالأطراف الفلسطينية، وبغض النظر عن ضخامتها وجسامتها، وأنها أصعب من أن تحل في جلسةٍ واحدةٍ أو لقاءٍ يتيمٍ، أو تذوب وتتلاشى بمساعي وسيطٍ أو جهودِ راعي، فالخلافات مستعصية، والمواقف متشنجة، والنفوس حانقة، والتراكمات كثيرة، والتدخلات الخارجية كبيرة، والاعتراض على الاتفاق متعدد الأطراف، إلا أن هذا الواقع لا يبرر الفضيحة التي وقعت في موسكو، ولا يجيز نشر “الأوساخ” الفلسطينية على الحبال أمام العامة والخاصة، فقد أضر ما حدث بالصورة الفلسطينية، وزاد في تشويه قضيتهم وتلويث سمعتهم، وقد كان حرياً بالفرقاء الفلسطينيين أن يحترموا الضيافة الروسية، وأن يقدروا جهودهم، ويشكروا لهم مبادرتهم، وأن يردوا عليهم التحية بأفضل منها، شكراً وعرفاناً، وتقديراً وامتناناً. ألا يحق لنا أن نتساءل لماذا أجهضت الجهود الروسية، ولماذا أفشلت مساعيهم، وهم على الأقل أكثر صدقاً ونزاهةً من كثيرٍ غيرهم ممن يدعون الوساطة والرعاية والصدقية والنزاهة، وهم أبعد ما يكونون عنها، وأقرب ما يكونون للعدو تحالفاً وحرصاً على مصالحه، ورعايةً لظروفه وتحقيقاً لرغباته، فمن المستفيد من حالة الحرج التي وقع فيها الروس، ومن هو المعني بإفشال الروس وتحقير دورهم، وهل هناك قوى تدخلت وأمرت، ومرجعياتٌ أمرت وهددت، وكيف يمكننا استعادة ثقتهم فينا وحرصهم وإيمانهم بمصالحنا. نتساءل من الذي تعمد فضح الملفات وتلغيم المواقف، ووضع أمام المتحاورين العقبات والعراقيل، وعمل في الخفاء والعلن على إفشال الحوار، ومن الذي سرب البيان وغَيَّرَ البنود، ومن الذي حرص على تغيير الصيغة المقترحة وتبديل المسودة الروسية، التي حرص معدوها على مراعاة مواقف مختلف الأطراف، وضمان المصالح الوطنية الفلسطينية، ولماذا تم التعريض ببعض القوى وتهديدها، وفرض المقاطعة عليها ورفض أي حوارٍ أو اجتماعٍ قادمٍ معها. ربما ينبغي على الفلسطينيين محاسبة قادتهم، وعدم الاطمئنان إليهم، والتشكيك في جهودهم ومحاولاتهم، فهم يتحملون فيما جرى في موسكو المسؤولية عن فقدان نصير وخسارة سندٍ، بغض النظر عن درجة إيجابية وصدقية السياسة الروسية تجاه القضية الفلسطينية، وهم بفعلتهم هذه يحبطون غيرهم من الوسطاء الصادقين، ويدفعونهم للإحجام عن القيام بأدوار الوساطة والرعاية، مخافة الفشل والحرج، وفي الوقت نفسه يفرحون العدو ويسعدون رئيس حكومته، الذي يتذرع دوماً بعدم وجود مرجعية فلسطينية، وغياب القيادة الموحدة للشعب الفلسطيني، وعدم وضوح الرؤية لدى الفلسطينيين أنفسهم متهماً إياهم بأنهم لا يعرفون ماذا يريدون. لا أساوي هنا أبداً بين الفرقاء المخالفين في موسكو، ولا أتهمهم جميعاً بتعمد تشويه الصورة وإظهار الخلاف، ولكنني في الوقت الذي لا أبرئ فيه أحداً من سوء ما فعلوا وعيب ما ارتكبوا، فإنني ألوم العاقل الحصيف وأسكت عن الجاهل السخيف، فقد كان حرياً بالحاضرين الحكماء، وممثلي القوى الراشدة المسؤولة، أن يكون لهم هناك موقفٌ معلنٌ، يشكرون فيه موسكو على جهودها، ويمتنون لهم فضلها، ويقدرون دورها، ويصرون على إعلان موقفٍ عامٍ وبيانٍ للرأي العام مسؤولٍ، يعلنون فيه حرصهم على مواصلة الحوار واستمرار اللقاءات، وبذا يظهرون أمام الجميع بصورةٍ لائقة، ويشعر الروس بالرضا والانتشاء أن دورهم مقدر ووساطتهم محترمة، وفي الوقت نفسه يطمئن الفلسطينيون إلى حكمة قادتهم ومسؤولية سلطتهم وأحزابهم، وإلا فلا يلومن أحدٌ على الروس أو غيرهم، إن هم نعوا للشعب الفلسطيني قيادته وأعلنوا له وفاتها أو فقدانها لصلاحيتها. **** بيروت في 24/2/2019