السيمر / الاثنين 25 . 02 . 2019
د. نضير الخزرجي
لكل مجتمع وأمة وحضارة مجموعة مفاهيم تتقيد بها وتعمل على هداها وبها تتميز عن غيرها، وهذه سنة طبيعة في الحياة، لا تقتصر على المجتمع الصغير أو الأمة الكبيرة، وإنما هو أمر جارٍ في العشيرة وفي الأسرة وفي الفرد الواحد، لأن التميز حاجة فطرية يعمل لها صاحب الهمة ويتقاعس عنها فاقد العزيمة، وهذه واحدة من عوامل إختلاف البشر والمجتمعات والأمم، فهناك مجتمع عامل وآخر خامل، فالعامل يخترق الأعاصير ويجتاز الأعالي حتى يصل القمة، في حين أن الخامل يأنس بما عنده وإذا أخرج له الدهر من كنانته بعض أسهمه أوجد لنفسه المعاذير ورمى التقصير على القدر والقصور على الدهر ليخرج منها خالي الأثر، يرمي بكرة اللوم على الآخر ليحمي مرماه من ثقل القهر، وإذا نظر إلى الأعلى عادة بخيبة البصر، حيث تسلق الآخر قمة النجاح وهو في الدرج الأول من سلم الفلاح.
وإذا كان للتميز إيجابياته فله سلبياته، ذاتية وموضوعية، فمن الثانية قلق الآخر من نجاحه فيعمل على هدمه مستنفذا كل السبل والطرق كردة فعل من الفشل الذاتي في التميز، ومن الأولى طغيان المتميز بحيث لا يرى إلا نفسه وحتى لا يرتقي إلى مرتبته أحد يعمل على تخريب ما ينجزه الآخر ولا يتوانى عن استخدام كل الطرق والسبل ما أمكنه ذلك ليحافظ على تميزه.
وما الخراب الذي تشهده البشرية منذ آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة إلا بسبب الفهم الخاطئ للتميز والتعالي على الآخرين تحت بريق الأنا المندكة بالنفعية الذاتية، وما الحروب الموضعية والإقليمية والعالمية التي شهدها تاريخ البشرية إلا واحدة من آثار التميز الخاطئ الذي يعطي لجهة الحق في التعالي على أخرى تحت وقع الجنس أو القومية أو المكان أو المعتقد.
فالطموح والسعي للتميز حالة فطرية مشروعة، ولكن التعالي على الآخر وترجمته الى عمل منظم لوأد الآخر وتخريب انجازاته، هو ما يتقاطع وأصل الحياة البشرية القائمة على التنافس البناء لإعمار الأرض، وهو ما حذرت منه كل المعتقدات والشرائع العقلائية.
وحيث يدعو الدين الإسلامي أتباعه الى التولي لما أمر الله به والتبري عما نهى عنه كواحدة من مراقي التميز، فإن الفهم الخاطئ للتولي والتبري قد يقود مجموعات الى مقاطعة الآخر وإظهار العداء له والعمل على محاربته، وهو ما لا يدعو إليه الإسلام بوصفه دين الرحمة للناس أجمعين، هذه الحقيقة الناصعة التي قد تغيب عن البعض يتابع المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مسائلها في كراس “شريعة البراء” الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة متضمنا 77 مسألة فقهية تناقش مفهوم البراء والتبري مع 74 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، سبقتها مقدمة للناشر ومثلها للمعلّق وتمهيد للكرباسي.
حصانة وتعايش
يمثل مفهوم (البراء) الخط الثاني لمفهوم (الولاء)، فلا يتحقق تيار الإعتقاد الصحيح إلّا بسالب البراء وموجب الولاء، وإلا يبقى مصباح الإيمان عاطلا ليس له قيمة ضوئية في سوق العبودية لله وطاعة أوليائه.
ولا يقتصر المفهوم على الدين الإسلامي، فلكل دين أسلوبه في التعاطي مع الآخر المغاير، لكن الثابت في الأول أن البراء يتوجه إلى مشهري العداء والعاملين على تقويض دين الله، وإلا فإن البراء لا ينبغي أن يفهم منه العداء للآخر، بل بالعكس أن الرحمة الإلهية والفطرة الإنسانية تقتضيان دفع الإنسان إلى إصلاح الأرض وإشاعة الخير بالتعاون البناء بغض النظر عن المعتقد والمذهب، ولهذا نزلت آيات الله تخاطب عموم البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات: 13، من هنا يحدد الفقيه الكرباسي وهو يتطرق في التمهيد إلى معالم البراء أنه: “النفور والقطيعة كما فسّره اللغويون، وأما الفقهاء وأرباب الشريعة فقالوا بأن المراد به التمتُّع بحالة الإنزجار عن المعادي لله والرسول وما أنزل إليه وأوصيائه، والإبتعاد عنهم”.
ويعود الكرباسي ليؤكد: “إن البراء والتبري لا يعني بشكل مطلق رفض الآخر، بل لكل مجاله وحقوقه وواجباته من موقعه .. وهذا لا يتطلب رفض التعامل مع الآخر وعدم التماس معه، ولكن ما دام يخالفك في العقيدة لا يمكن أن تميل إليه ميلة الولي الحميم، لأن ذلك يتنافى مع حالة الإنقياد للقيادة الصالحة ويؤول إلى التشرذم، كما لا يطلب منك العزلة عن الآخر والتجنب منه، لأنك مدعو إلى هداية الناس وإلقاء الحجج عليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإن الدين الذي نعتقد به رسالته عالمية ولكل البشرية”، ويزيد في المسألة رقم (17): “يجب مساعدة غير المسلم إذا كانت حياته في خطر إذا لم يكن محاربًا”، (وذلك بالوجوب الكفائي لو قلنا به لمكان الإنسانية) كما يعلق الفقيه الغديري.
فالحصانة المجتمعية الذاتية أمر على غاية في الأهمية تمارسها كل الشعوب والأمم، وهي لا تتعارض مع التعاون مع الآخر، بل كما يؤكد الفقيه الكرباسي: “لم ينه الإسلام عن التواصل مع الآخر (العدو) ولا الذي يخالفك في الرأي والعقيدة، بل الشيء المنهي عنه هو تمكين النفس والقرار والدولة والحكم إلى العدو، إلى الكافر الذي لا يبتغي إلا مصلحته، سواء كانت ثقافية أو إقتصادية أو غير ذلك، وأما سائر التواصل فلم يمنعه الإسلام أبدًا .. فإلاحسان والمعروف للكافر وغيره مطلوب، ولا تجوز الإساءة إليهم بأي شكل من الأشكال”.
وفي العادة فإن الذي ينصب العداء للآخر بسبب وبغير سبب ويجتهد في هذا الأمر إنما هو يعبر عن نفسية مريضة وذات سيئة، وبتعبير الفقيه الغديري وهو يقدم لشريعة البراء: (إن العداء من الصفات الخبيثة الباطنية والتي تستقر في النفس ولا تفارقها، فالمتلبس بها تشتغل نفسه بأمور شيطانية وأعمال مضادة للموازين الإنسانية والملكات الفطرية التسليمية)، ومثل هذا كما يضيف المعلق يجب التبري منه وعدم موالاته لأن: (البراء عنه يتبع به أثر عميق في نفوس الآخرين، ولأجل ذلك عدّت البراءة من أعداء الله وأعداء الرسول (ص) وأعداء أئمة أهل البيت(ع) من الأسس الإعتقادية).
قلعة الإستقلال
ثبت بالتجربة أن القوات المحتلة يساعدها ضعاف النفوس من داخل البلد المحتل على تمكين المعتدي منه والإستحواذ على البلد وشعبه وخيراته ومقدراته، فمنهم من يدفعه جهله إلى أن يكون حصان طروادة للعدو المحتل، ومنهم من تأسره المادة ويزغلل عينيه أخضر الدولار، ومنهم المنافق والمتربص والمعبر عنه بالطابور الخامس أو الخلية السرطانية المتحفزة، فالعدو المحتل مهما أوتي من قوة وهيمنة لا يستطيع أن يحتل بلدا تماسك شعبه وأعطى رباط الولاء للقيادة الشرعية والحكومة المنتخبة، لأن من حتميات الولاء الصادق هو البراء الصادق من أعداء الوطن يترجمه الفعل الثوري والنضال الدائب لمواجهة العدو الغاشم، وحتى لو تمكن العدو من احتلال البلد، فإنه لا يستطيع أن يتأقلم مع شعب عقيدته البراء من الآخر المعتدي، وهو يدرك أنه أمام مواجهة حتمية مع غضبة الشعب.
وقد تسالمت الشعوب على رفع العلم في المدارس والمعسكرات وفي الطرقات والأماكن العامة كتعبير طوعي عن الولاء للوطن والبراءة من أعدائه، والخدمة العسكرية التي يُساق إليها المواطن يعبر عنها بخدمة العلم للدلالة على حماية البلاد والعباد والمعتقد يسوق الناس إلى الإنشداد إلى الوطن، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (في الحقيقة كما ان التولي هو ضامن للوحدة الحضارية والرقي الواعد، فإن التبرِّي هو حصانة للأمة ودليل للإلتزام)، وهو في الوقت نفسه حصانة من إختراق العدو عبر ضعاف النفوس والخلايا النائمة (السرطانية المتحفزة) التي تعمل على نخر جدار الوطن وتمزيق نسيج الأمة.
والبراء في حقيقته معلم بارز من معالم كرامة الأمة وعزتها، لأن رفض الآخر المعتدي هو في حقيقته تعبير عن التمسك والولاء والإعتزاز بالذات دون تكبر أو تعال، فالأمة التي تتبرأ ممن يريد لها الويل هي أمة تدرك معنى الإستقلال والعيش بحرية، وكما يفيدنا الكرباسي في التمهيد بأن الحديث عن الإستقلال والسيادة في أخذ القرار هو في واقعه عين: “الحديث عن الكرامة والعزة التي يريد الإسلام أن تتحصن الأمة بها، فإذا كان التولي حصنا حصينا للوحدة الوطنية فإن التبري هو حصن حصين للإستقلال والكرامة، ففي التعادل السياسي بين هذين المفهومين تتحقق صيانة البلاد والعباد من الإحتلال الجغرافي والإحتلال الثقافي ونجنب الأمة والوطن من الخطر الذي يداهمنا”.
من معالم البراء
قد يتساهل البعض في التعاطي مع مفهوم البراء، ولا يدرك أنها واقعة على الفرد المسلم موقع الوجوب العيني بوصفها عبادة عينية كما يؤكد الفقيه الكرباسي ومن ذلك أن: “التبرّي لا يتحقق دون قصد القربة إلى الله، وهو عبادة وفعله واجب وتركه حرام”، فهما أي: “التولي والتبري واجبان عينيان، ولا مجال للقول بأنهما واجبان كفائيان”، وعدم التكتم على ذلك إلا لضرورة ولهذا يعد: “الإظهار بالتبري واجب شرعي إلا أذا أوجب ذلك خطرا على حياته أو أهله أو مصالحه”، والمصالح كما يعلق الفقيه الغديري: (سواء كانت المصالح مادية أو إجتماعية أو أخلاقية أو عائلية وغيرها شرط أن لا تكون غير شرعية)، ولأنّ البراء عبادة فإن الغديري يضيف معلقا على نوعية الوجوب: (وذلك عينًا كما في العبادات كالصلاة والصيام إذا كان هناك مانع قوي للإظهار فيقتصر بالميسور لأنه لا يسقط بالمعسور)، ولعل أقل الإظهار هو بالقلب، وإن: “يجب إظهار التبري حيث إنَّ وجوبه لا يختص بالقلب بل في الإظهار والإنزجار، وهو تكليف شرعي إلا في حالة الخوف والإجبار والإكراه”.
ويواصل الفقيه الكرباسي في بيان تفاصيل المسألة فيما إذا كان المسلم يعيش في بلده المسلم أو في بلد آخر تحكمه قوانين الشرق أو الغرب، فمادام البراء هو من الشخص المعادي المعلن لعدائه فإن الأمر سيان مع وجود بعض الجزئيات الخاضعة لحيثيات الزمان والمكان، ولذا فعلى سبيل المثال: “في الدول الغربية التي تعتمد فيها حرية المعتقد لا ينبغي الإنعزال عن الشعوب غير المسلمة إلا ذا كانت مراودتهم تضر بالعقيدة والسلوك غير الشرعيين”، ومع قوة العقيدة والعزيمة والتحصن الذاتي تعد المخالطة مسألة لها دورها الإيجابي ولا سيما إذا أحسن المسلم في عكس حقيقة الإسلام من خلال سلوكه وتعامله، لأن الآخر، إن كان معتقدًا بدين أو بلا دين، يرى في المسلم كتابا مفتوحا يقرأه كل حين، والأمر خاضع للمسلم فيما يرغب أن يقرأه الآخر عنه وفيه، إن أساء في التعامل والسلوك أساء إلى إسلامه والبلد القادم منه، وإن أحسن أفاد الآخر بأن وضعه على الطريق الصواب لقراءة الإسلام قراءة جديدة بعين مجردة من المؤثرات العدائية التي تبثها وسائل الإعلام والدوائر المعادية للإسلام، وبتعبير الفقيه الغديري معقبا: (ولكن من دون الولاء مع غير المسلمين، وذلك لا ينافي التعامل معهم في الحياة الإجتماعية كأفراد من البشر بل ويمكن أن يكون الإنعزال موجبًا لضعف الإسلام وعدم إنتشاره في تلك المجاميع فيحرم حينئذ).
فالسلوك هو المعيار، ومن هنا يتوجه الإمام السادس من أئمة المسلمين الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بالنصيحة قائلا: (كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول)، ومثله وصية الإمام الحادي عشر من أئمة المسلمين الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام: (اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنّا كل قبيح).
ولا يقتصر الولاء والبراء على الآخر النوعي الضدي خارج محوطة بلد السكنى، بل يشمل الذي يعيش بين ظهرانيهم من منافق أو محارب، فكما لا يجوز إطاعة أو احترام أعداء الله والرسول (ص) وآله(ص) فإنه: “لا يجوز مجاراة المنافق واحترامه وموالاته”، لأن المنافق صاحب وجوه خداعة فخطره على وحدة المجتمع والأمة عظيم للغاية، وهو مرتع للمؤامرات الداخلية والخارجية، وهو مطية المحتل والقوى الغاشمة، من هنا يعلق الفقيه الغديري قائلا: (بل وجب التباعد عنه مهما أمكن في شؤون الحياة الإجتماعية لكونه أكثر ضررًا من الكافر والمشرك، ولذلك أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله بالجهاد حينما قال: ]يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم[ سورة التحريم: 9).
ولأن البراء معلم للإستقلال ومدعاة للوحدة المجتمعية، فإنه لا يقع من المسلم تجاه أخيه المسلم، ولذلك: “لا يجوز تضعيف الأخوة الإسلامية وما يوجب التفرقة في إطار التشرذم وبراء أحدهم من الآخر”، وعليه: “لا يجوز أن يضيع المسلم حقّا من حقوق أخيه المسلم بأي شكل من الأشكال”، وإذا كان البراء من الآخر المعادي واجبا عينيا فإنه يحرم مقاطعة المسلم، ولهذا: “أي أمر عُرفي أوجب المقاطعة سواء في عيادة المريض أو المسافر أصبح حرامًا”، وأكثر من ذلك: “يحرم مقاطعة المناسبات الدينية في الأفراح والأتراح إذا تسبب ذلك إلى الإبتعاد عن الأجواء الدينية الموجبة للولاء والتعاطف مع المسلمين ومناسباتهم”، ولهذا فإن: “من مظاهر البراء، إحياء المناسبات ذات الطابع الذي يُظهر فيها التبري من أعداء الله ورسوله والأئمة والإسلام”.
بالطبع لا يفهم من الوجوب العيني للبراء أن تظل الحلقة قائمة مُحكمة الشد حتى وإن تغير سلوك المعادي، ولذا: “إذا زال عداؤه سقط البراء، وإن تحوّل وليًّا حميمًا أصبح الولاء له واجبًا”، وهذا هو في واقعه محور الولاء والبراء، فالإسلام ليس دينا مناطقيا ولا دينا قوميا، وإنما هو خيمة سقفها سقف الكرة الأرضية وطبقة أوزونها يستظل تحتها البشر تقيهم برد الجبت وحر الطاغوت، عمودها المبعوث للناس أجمعين وما أُنزل عليه: ]تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً[ سورة الفرقان: 1، وهو رحمة الله في أرضه وسمائه: ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[ سورة الأنبياء: 107.
الرأي الآخر للدراسات- لندن