الرئيسية / مقالات / السياسة الاقتصادية  لمجموعة بريكس الدولية      

السياسة الاقتصادية  لمجموعة بريكس الدولية      

السيمر / فيينا / الجمعة 02 . 12 . 2022

 د.ماجد احمد الزاملي                                                             

جاءت سلسلة الأحداث بعد أن عصفت الأزمة المالية الحادة بالاقتصاد الأمريكي ، والاقتصاديات الأخرى المرتبطة به، وازدياد قوة بعض الفاعلين الأساسيين في النظام الدولي، وخاصةً التكتلات الاقتصادية الدولية،لذلك فرضَت إعادة طرح العديد من التحاليل ذات الصلة بطبيعة النظام الدولي الراهن، وما يمكن أن ينحو إليه ,ولا يخفى على أي مراقب مدى تأثير بعض القوى الصاعدة وبعض التكتلات الاقتصادية الدولية الجديدة على مستقبل النظام الدولي والأطراف الفاعلة فيه، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي يرى فيه العديد من المراقبين بداية نهاية الإمبراطورية الأميركية التي وصلت إلى ذروة المناعة والسيطرة مع انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة. وللمتغير الاقتصادي دور في تغيير مسارات ومستقبل العلاقات الدولية، ويبرز أهمية هذا المتغير من خلال الدور الكبير الذي لعبته الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة ثم انتشرت لتمس كل دول العالم ، في تغيير خارطة توزيع القوى على المستوى العالمي. وكان للأزمة المالية التي حصلت عام 2008 نقطة مفصلية في تراجع أو صعود اقتصاديات الدول العظمى وبالتالي تزايد المكانة أو تراجعها لدى العديد من هذه الدول، ويظهر ذلك من خلال استقراء ومقارنة التداعيات الاقتصادية للأزمة العالمية على مستوى المؤشرات الاقتصادية لهذه الدول وتأثير ذلك على حركة صعود أو نزول مستويات النمو لاقتصاديات الدول التي تُمثِّل أقوى الاقتصاديات ,الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العالمية الأولى ، الصين باعتبارها القوة الاقتصادية الثانية على مستوى العالم ، ثم الإتحاد الأوروبي باعتباره مرشحاً قوياً لخلافة أميركا وهيمنتها على العالم. عدم قدرة الولايات المتحدة بمفردها على تحمّل تكلفة دور القيادة العالمية، فمع أنها مازالت القوة العسكرية الأولى في العالم دون منازع، فإن إمكاناتها الاقتصادية تتقلص بشكل نسبي مما دفعها ابتداءً من حرب تحرير الكويت في 1991م، إلى طلب مشاركة حلفائها في أوروبا والخليج في “تحمل الأعباء”، وأصبح ذلك نمطاً متكرراً في السياسة الأمريكية. ولم يظهر إلى الوجود نظام اقتصادي أقوى من هذا الذي تنتهجه طبيعة القوة الأميركية معقدة ولها عدّة أبعاد. فهي مزيج من القوى الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بالإضافة إلى سلطة جهاز إعلامي مؤثر جداً وشبكة مصالح مع الدول الصناعية الكبرى.                      

 إن أكثر التكتلات الاقتصادية التي تُصنَّف ضمن موجة الإقليمية الجديدة سارت على نهج واحد لتحقيق التكامل الاقتصادي، حيث بدأت من تحرير التجارة ثم توحيد التعريفات الجمركية، وحرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال، وتنسيق السياسات الاقتصادية الكلية، وصولًا إلى توحيد هذه السياسات وايجاد سلطة إقليمية عليا وعملة موحدة، لكن بريكس على الرغم من اعتمادها المدخل الاقتصادي لتعاونها، إلا أنها لم تتبع هذا الطريق المتسلسل، بل عززت التجارة البينية والاستثمار فيما بينها، وأقامت مشاريع مشتركة في حقول عدة ودعمت تعاونها على مختلف الأصعدة بآلياتها الخاصة. إن ظهور بريكس يعبِّر عن عملية تحوّل سلمي عميق وتدريجي من نظام “بريتون وودز”، الذي اتسم بدرجة كبيرة من المركزية والتحيز لمصالح الدول الصناعية الغربية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، إلى نظام يتسم بدرجة أكبر من التعقيد والتعددية، ونشر عملية صنع القرار، ودرجة أكبر من التعبير والتمثيل لمصالح القوى الصاعدة والناشئة. كل ذلك بدون أية مواجهات عنيفة داخل النظام العالمي. لذلك نلاحظ أنَّ أُولى الخصائص لأي نظام دولي تتمثل في أن رابطة قوى (أي مجموعة قوى دولية) كل واحدة منها على درجة كافية من القوة تمّكن (رابطة قوى) بحكم عامل إنتظام به ، على الأقل، من الاستمرار في الوجود، وهو أيضاً الانتظام فيه, انتظامه بتحقيق توازن قواها القطبية التي تقود الرابطة. إن الطبيعة الدولية والقانونية لمجموعة البريكس أنها رابطة تكاملية جديدة تجعل من الممكن من نواحٍ كثيرة التنبؤ بتطورها في المستقبل. ولأن الترابط الاقتصادي بين الدول هو مدخل من مداخل تحقيق التعاون السياسي ، فمن هنا بدأت دول “بريكس” بتشكيل مجموعة من المؤسسات والأنظمة ، فأنشأت بنكاً جديداً موقعه شنغهاي الصّينيّة سمّي ” بنك التّنمية الجديد ” وصندوقاً أُطلِق عليه ” صندوق بريكس”، ليكونا بديلين للبنك الدّوليّ وصندوق النقد الدّولي ، وتم إنشاؤهما لدعم النّموّ والتّنمية على المستوى الدولي ، ما يُمثّل الخطوة الأولى في مخطّطها لخلق نّظام عالمي جديد، ولعل الهدف غير المعلَن يتمثّل في إنشاء مؤسّسات دوليّة رديفة للمؤسّسات الاقتصاديّة الدّوليّة الحالية ، أي : البنك الدّولي وصندوق النّقد الدّولي ، لتحرير العالم من قيودهما وتأثيراتهما ، ومن المعلوم أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تتحكم في رسم سياستهما العامة بما يخدم مصالحها .        

في حزيران عام  2009 كانت  أول قمة بين رؤساء الدول الأربع المؤسسة لمجموعة بريكس   (البرازيل وروسيا والهند والصين) في مدينة يكاترينبورغ في روسيا، تمخَّض الاجتماع عن الإعلان عن تأسيس “نظام عالمي ثنائي القطبية”، يدعو إلى تمثيل أكبر للاقتصادات الناشئة الرئيسية على المسرح العالمي، ويقف ضد “هيمنة غير متكافئة للقوى الغربية على العالم“. وأكدت القمة على أن العالم ليس كله أميركا أو أوروبا التي فرضت عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي، خصيصاً أن كلاً من قادة البريكس تجنبوا إدانة روسيا صراحة. فيما اتخذت بكين موقفاً قوياً تجاه روسيا.أن العديد من الدول الناشئة قد تكون مهتمة بالانضمام إلى هذا النادي، خصوصاً تلك التي كان لها موقف مغاير للموقف الأميركي من روسيا. في قمة مجموعة البريكس السادسة التي عُقِدَتْ في مدينة فورتاليزا البرازيلية في يوليو/تموز 2014، أعلنت البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا رسمياً عن إنشاء بنك للتنمية الجديدة وصندوق ترتيب احتياطي للوحدات. وصوّرت الوثائق الرسمية المبادرتين على أنهما تُكملان المؤسسات المالية والاقتصادية القائمة. بيد أنها ستعزز، في الأجل القصير من الاستقلال الذاتي للبلدان النامية فيما يتعلق بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقد تُمثِّل على المدى الطويل التوصل إلى واقع ملموس لمجموعة جديدة من المباديء التي ستوجِّه العلاقات الاقتصادية بين الدول في القرن الحادي والعشرين. وساهمت ثلاث قمم واجتماعات لوزراء الخارجية والمالية والزراعة والصحة وقطاعات أخرى في تعزيز أواصر التعاون بين دول بريكس.  ولعل برامجها للتنمية ومحاربة الفقر تحتل مرتبة أعلى باهتمامات أعضاء بريكس منها في الدول الغربية.            

وآلية بريكس هي إطار متعدد الأطراف للتعاون العملي ملتزم بمواكبة اتجاه العصر. منذ بداية القرن الحادي والعشرين ، يشهد اتجاه التعددية القطبية والعولمة الاقتصادية تغيرًا جذريًا. تلعب الأسواق الناشئة والبلدان النامية الآن دورًا متزايد الأهمية في الشؤون الدولية ، حيث أصبحت قوة رئيسية في تغييرات النظام الدولي ، وتطور المشهد الدولي. في هذا السياق ، ولدت آلية البريكس. في عام ٢٠٠٦ ، اجتمع وزراء خارجية الصين وروسيا والبرازيل والهند لأول مرة ، لتبدأ التعاون الأصلي لمجموعة بريكس. عندما انضمت جنوب إفريقيا رسميًا إلى المجموعة مما جعلها بريكس ، عقد قادة خمس دول بريكس أول اجتماع غير رسمي على الإطلاق قبل قمة مجموعة العشرين في كان ، فرنسا في عام ٢٠١١ حتي الآن ، عقد قادة دول البريكس 14 قمة وتسعة اجتماعات غير رسمية. ووقعت حكومات دول بريكس أيضًا على اتفاقية حول التعاون في الحقل الثقافي، والتي تُشجِّع وتُنظم التعاون الثقافي بين دول بريكس، كتدريب محترفي الفن وممارسي التراث الثقافي، وتسهيل تبادل العاملين في المجال العلمي والبحثي والطلاب والخبراء، وتبادل معلومات حول النشاطات الثقافية التي تحدث في كل بلد، والحفاظ على حقوق الملكية الفكرية وغيرها من أوجه التعاون.                      

وهناك بُعد سياسي من هذا التحالف يتعلق بفكرة تكوين نموذج اقتصادي جديد متعدد الأقطاب بعيدًا عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يكون بداخله بعض النواحي السياسية، لا سيما في ظل وجود روسيا والصين، في محاولة تكوين استراتيجية اقتصادية جديدة تتعدد فيها الأقطاب بدلاً من القطب الواحد.حيث ان العالم يعيش الآن مرحلة التكتلات بين الدول التي تجمعها المصالح المشتركة والقوية والمؤثرة في محيطها الإقليمي، والولايات المتحدة الأمريكية شريكة في العديد من التكتلات مع دول بعيدة عن جغرافيتها مثل إنجلترا وأستراليا واليابان، وكذلك الهند، وهو الأمر الذي دفع الصين للتفكير في خلق تكتلات اقتصادية وسياسية لها دور كبير على الساحة الدولية.  فيما يتعلق بالتبادلات الثقافية والشعبية ، عززت دول البريكس الحوار والتعاون فيما يتعلق بحوكمة الدولة ، والأحزاب السياسية ، ومراكز الفكر ، والثقافة ، والتعليم ، والمرأة والشباب. وقد عملت مجموعة متنوعة من الاتحادات التي شكلتها دول البريكس ، بما في ذلك مجلس أعمال البريكس ، ومجلس بريكس للمفكرين ، ورابطة جامعات بريكس ، وتحالف تعاون بريكس للتعليم والتدريب التقني والمهني ، وتحالف بريكس سيدات الأعمال ، كمنصات حوار رئيسية للتبادلات عبر القطاعات وإجماع أقوى بشأن التعاون بين دول البريكس. وقد ضاعف من أهمية الصعود الاقتصادي للبريكس أن ارتبط به إدراك دول المجموعة لأهمية دورها في إصلاح النظام الاقتصادي العالمي وتوسيع عملية صنع القرار داخل هذا النظام، الأمر الذي دفعها إلى محاولة تمثيل أكبر عدد ممكن من الاقتصاديات الناشئة والمهمة، وهو ما انعكس في اتجاهها إلى استحداث صيغة تضمن تحقيق هذا الهدف، والتي دشنتها القمة الأخيرة للمجموعة تحت مسمى (بريكس بلس), والتي دعُيت في إطاره كل من مصر، والمكسيك، وطاجكستان، وتايلاند وكينيا. وتأتي أهمية هذه الصيغة أنها تمثِّل، من ناحية، إحدى الصيغ المهمة التي تمت تجربتها داخل عدد من المجموعات والترتيبات الإقليمية، مثل (الآسيان بلس)، والتي حققت نجاحًا ملحوظًا كما تمثل، من ناحية أخرى، صيغة لاستيعاب الدول المهمة، والاقتصاديات الواعدة، التي لم تنضم بعد إلى فئة الاقتصاديات الصاعدة.

إن مشاركة مجموعة البريكس في مناقشة أهم قضايا التنمية التكاملية تخلق أساساً قانونياً أكثر موثوقية لمنع المخاطر القائمة وتجعل من الممكن تنفيذ المصالح الوطنية للبلدان ذات الاقتصاديات النامية على نحو أكثر فعالية.  وقد تمتلك دول مجموعة “البريكس” مقومات قوة تؤهلها لتشكيل قطب دولي فاعل وقادر على وضع قواعد لهذا النظام ، وبالمقابل لديها ما يكفي من عوامل الضعف التي قد تؤثر في عملها ، لاسيما علاقة بعض دولها الوطيدة مع الولايات المتحدة، ورغم هذا يرى مختصون أن عناصر القوة هذه ؛ بإمكانها التغلب على نقاط الاختلاف وعوامل الضعف للحد من هيمنة النظام الدولي الأحادي القطب. والتعاون الاقتصادي في إطار الرابطة عبر الإقليمية، أو الرابطة المرنة هو إحدى أولويات السياسات الوطنية لبلدان مجموعة البريكس المرتبطة بالتغلب على آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والمتوازن والقدرة التنافسية في التنمية العالمية. وعلى الرغم من تحقيق الشراكة الاقتصادية، فإن العوامل المقيّدة للمجموعة هي النزاعات والخلافات القائمة بين بعض تلك الدول كالهند والصين، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دولة مثل البرازيل ولعل هذا برز جلياً إبان الجائحة العالمية. أيضًا الاختلافات في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية لبلدان مجموعة البريكس قد تبدو حجر عثرة، إلا انه يمكن القول إنها لا تمثل تهديدًا للمجموعة، بل إنها تميزه عن تكتلات الغرب التي هي ذات طابع ديمُقراطي. أيضًا، قد يعوّق عدم تجانس الأولويات الاستراتيجية للسياسات الاقتصادية للبلدان اكتمال تكوين هذه المجموعة. وبالتالي، فإن اتجاهات التنمية وآفاقها التي يحددها الأساس المؤسسي والقانوني للتفاعل تعتمد إلى حد كبير على مدى قوة وتنوع الشراكة الاقتصادية داخل مجموعة البريكس. ونُشير إلى المصالح المشتركة في مجال التجارة، والتكامل بين عدة صناعات، وانعدام المنافسة المباشرة، بوصفها العوامل الإيجابية التي تسهم في تعزيز وتوسيع التعاون التجاري والاقتصادي.                

والرئيس بوتين وجَدَ أن نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة قد إنتهى. وتسعى روسيا والصين وحلفاؤهما للعب دور رئيس فيه. أي أن العالم أمام نظام عالمي جديد يتشكل بتحالفات اقتصادية ومالية، ومنها دول “بريكس”. في المقابل تسعى الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عبر تشكيل تحالفات عسكرية واقتصادية  مثل “اوكواس” وأيضا محاولة إدماج إسرائيل ضمن دول المنطقة العربية من خلال تعزيز مشروع التطبيع وانشاء “حلف شرق أوسطي” رحبت به بعض دول المنطقة لتأسيسه، فضلاً عن توظيف أوراق القوة، واستمرار خرق المواثيق والمعاهدات الدولية بلا رادع  أوعقاب، وتدخلاتها في شؤون الدول، وشن الحروب كما فعلت في حروبها ضد أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وإيران وغيرها، وهو ما تعتبره الإدارة الأمريكية بالحروب الاستباقية حسب وصف إدارة بوش الابن.        

ولم يُشِر تجمع بريكس في أي نص من نصوصه الرسمية أن هذا التجمع هو لمناهضة الولايات المتحدة الاميركية أو الدخول في تحدٍ معها، بل كانت التصريحات الرسمية تؤكد العكس وأن بريكس هو تجمع اقتصادي بحت وليس في مواجهة أحد، لكن في إطار الترابط بين السياسة والاقتصاد واستحالة الفصل المطلق بينهما، لا يو جد تكتل اقتصادي دون أبعاد سياسية، فالقوة الاقتصادية هي أحد أهم عناصر القوة الشاملة للدولة ولا بد أن تنعكس في نفوذ سياسي متزايد، لكن هذه الأبعاد السياسية قد تكون بارزة أو مستترة يتأخر تمييزها وتبلورها، وهذا بالطبع ينطبق على بريكس التي تحمل مضمون سياسي قبل كل شيء، وذلك ما أعلنه صراحة ” سيرغي لافروف ” وزير الخارجية الروسي قائلاً  “بأن بريكس تجمع جيوسياسي قبل كل شيء فالتجمع يسعى إلى إنهاء تفرد الواليات المتحدة الأمريكية في تسيير النظام العالمي القائم ومؤسساته وفق مصالحها الخاصة، وتعظيم الوزن التفاوضي للتجمع بحيث تؤخذ مصالح دوله بالحسبان عند التسويات الدولية والمشاركة في هذه التسويات، فضلًا عن كسر الإحتكار الغربي عموماً للقرار الدولي”، وسعي الصين لضم جنوب إفريقيا دون سواها, يُقدِّم دليلًا إضافياً يدعم هذه الفكرة.                        

اترك تعليقاً