فيينا / الجمعة 06 . 06 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
محمد علي محيي الدين
في أزقة الحلة القديمة، وتحديدًا في محلة جبران، ولِدَ جعفر جواد الكواز سنة 1937م، وقد ارتبط اسمه بلقبٍ شعبيٍ صميم، جاء من مهنة جده الذي كان يبيع المواد الفخارية، فغدا يُعرف بـ”جعفر الكوّاز”. وكأن هذا اللقب الشعبي الذي التصق به منذ النشأة، قد حمل في طياته رمزًا للمثابرة والارتباط بالتراث، إذ تحوّل لاحقًا إلى فخّارٍ من نوع آخر، يصوغ الذاكرة العراقية لا من طين، بل من حبرٍ وفهرسةٍ وأرشفة.
نشأ جعفر في الحلة، المدينة التي تفتح أبوابها مبكرًا على الثقافة والفكر، وتلقّى فيها مبادئ القراءة والكتابة على يد الشيخ هادي عطيوي، ثم أكمل تعليمه في المدرسة الشرقية، فمتوسطة الحلة، ومنها إلى دار المعلمين الابتدائية في بعقوبة حيث تخرّج سنة 1956م، ليبدأ مسيرته في التعليم من مدرسة “البصيرة” في جنوب الحلة، معلّمًا للغة الإنجليزية والتربية الفنية. لكنه لم يكن مجرد موظفٍ في سلك التعليم، بل مربٍ رسالي، يحمل في قلبه حبًّا للعلم، وفي عقله شغفًا بالفهرسة والمعرفة.
لقد جمَع جعفر الكوّاز في مكتبته الخاصة كنوزًا معرفية، ما بين أمهات كتب التراث، وأعداد نادرة من المجلات العراقية والعربية، جُلِّدت بعناية، واحتُفظ بها وكأنها مخطوطات نفيسة. وقد أنشأ مكتبة صوتية نادرة أيضًا، مازجًا بين الكلمة المكتوبة والمسموعة، كما لو أنه كان يحاول أن يحفظ لذاكرة العراق أصواتها وصورها وحروفها، خشيةَ أن تبتلعها العتمة.
لقد تأثّر الكوّاز بأساتذة كبار في علم الفهرسة والأرشفة، أمثال عبد الحميد العلوجي وكوركيس عوّاد، وسار على خطاهما، فأنجز أعمالاً خالدة في هذا المضمار، من أبرزها:
فهارس مجلة الأقلام العراقية – الجزء الأول.
فهارس مجلة المورد (1977-1982).
فهارس مجلة التراث الشعبي.
حامل الهوى تعب – ذكريات.
أما مقاله الدوري “من أساتذتي”، الذي نشره في جريدة الجنائن الحلية، فكان أشبه بسيرة ذاتية متقطّعة، تُروى من زوايا المدارس التي درس فيها، وأروقة الطفولة والصبا، لتقدم مشهدًا وجدانيًا مفعمًا بالوفاء لمن علّموه.
النقّاد الذين وقفوا عند أثره لم ينظروا إليه بوصفه مجرد مفهرس، بل رأوا فيه حاملًا لهمّ ثقافيّ كبير. فقد وصفه أحدهم بأنه “ذاكرة حيّة للأرشيف الثقافي العراقي”، فيما شبّهه آخر بـ “بوّاب المعارف” الذي جعل الفهرسة جسرًا بين الباحثين والمعرفة، في زمن كانت فيه الفهارس تُنجز يدويًا، وتحتاج إلى صبرٍ ودقة أشبه ما تكون بعمل النسّاخين القدماء.
ومما يزيد من رمزية شخصيته، أنّه أوصى بأن تُودَع مكتبته في مؤسسةٍ ثقافية، ولم يشأ أن تؤول إلى الورثة كما يفعل كثيرون. وهكذا أودعها صديقه المخلص السيد حسام الشلاه، الذي قام بإهدائها إلى متحف الحلة المعاصر عند تأسيسه، لتُفرد لها إدارة المتحف ركنًا خاصًا، جعل من هذا الكنز المعرفي متاحًا لكل من أراد التماس الحكمة من زمن الورق.
توفي جعفر الكوّاز في الحلة يوم 22 آب 2006، ودُفن في النجف الأشرف، تاركًا وراءه إرثًا صامتًا لكنه ناطق في وجدان كل باحثٍ أو قارئٍ أو دارسٍ مرّ ذات يوم بين رفوف مكتبته.
في زمنٍ تفرّقت فيه الذاكرة، كان جعفر الكوّاز يجمعها، يجلّدها، ويصونها. وفي زمنٍ ضاع فيه الأرشيف بين الإهمال والنسيان، بقي هو شاهدًا على جدوى الصبر، وعلى عبقرية التنظيم، وعلى قدسية الحبر إذا اقترن بالنية الطيبة والعمل المتقن.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات