الرئيسية / مقالات / ماذا لو كنت سأموت غدا؟

ماذا لو كنت سأموت غدا؟

فيينا / الأثنين 19. 05 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية  

عبد الرحيم الجارودي

سؤال بسيط بمحتوى مرعب، يشبه صفعة توقظك من غفوة طويلة. سؤال يخترق كل الدفاعات التي أسسناها لنحتمي من هشاشتنا، ويضعنا وجها لوجه مع الحقيقة التي لا نحب مواجهتها، أننا فانون وأن الطرق التي نشقها قد لا تتمهد ولا تكتمل، وأن ما نؤجله من الأمنيات قد لا تجد غدا تنجز فيه، لأن هناك مسافة موجعة، بين ما نريده من الحياة، وما تفرضه علينا إكراهاتها.

لو كنت سأموت غدا، لوددت أن أصلح كل ما انكسر في داخلي وأحب دون قيد، أسامح من ظللت أعاتبه بصمت، أعانق أبنائي مطولا، أمسك يد من أحب في هدوء بلا خوف. لكن الحياة ليست عرضا رومانسيا ومسارا سهلا ولا هي عادلة دوما.

على مسرحها تحاصرنا الوظيفة والفواتير والقلق على الأبناء والخوف من الغد، كذا ثقل الالتزامات، وأحلام تُقمع تحت ضغط الواقعية، فنؤجل الحديث الذي نريد لأننا مرهقون. نؤجل الرحلة لأن المال المدخر لا يكفي. نؤجل الكتابة لأن الوقت مرهون لالتزام أكثر واقعية، كما نؤجل الاعتذار، لأن الكبر يغلبنا. نؤجل الحب لأننا لا نريد أن نتألم مرة أخرى. ولأننا نظن دوما أن الوقت معنا، نؤجل الحياة ذاتها.

نرتدي أقنعة تحاكي مظاهر القوة، لنكتم دمعة خوف، ونؤجل اعترافا بالضعف والعجز. فالاكراهات تسرق منا أصواتنا ومشاعرنا الحقيقية.

ماذا لو كنت سأموت غدا؟ سؤال مرهق ومؤجل، فنحن بالكاد نجد وقتا لنتنفس، كيف نصغي لما تريده أرواحنا، ونحن نركض خلف ما تريده الحياة منا.

لكن هذا لا يعني أن السؤال لا يراود أرواحنا المنهكة، بل يجب أن يطرح لأنه ضرورة وجودية وبوصلة تذكرنا، أن ما نحن فيه ليس كل الحكاية، وأننا لم نخلق لنستهلك فقط، بل لنحلم ونحب ونعطي … لنكون.

ليس في المتناول العيش كل يوم وكأنه الأخير، فتلك مراتب غير متاحة للجميع، ومخيال جميل لكنه ليس واقعيا دوما. المفترض فقط أن ننتبه وألا نؤجل كل شيء. أن نحاول اقتناص لحظات الصدق والحب والامتنان، لحظات نكتب فيها لأنفسنا رسائل دون قيد ولا رقابة، لحظات نضحك فيها رغم أنف الخوف. فالحياة رغم قسوتها، تمنحنا فرصا صغيرة لا تطرق الباب بصوت عال، بل تهمس. هي لحظة صادقة لا تقبل التأجيل.             

إن كل إنسان منا يحمل أمنية لم يفصح عنها، أمنية لم تجد وقتها بعد، رغم بساطتها، أن يحب كما هو، أن يركض في الحقول، أن يرسم دون أن يحاسب، أن يكتب قصيدة، أن يقول “أنا لست بخير” دون أن يشفق عليه أحد.

فلو كنت سأموت غدا، لوددت أن أعود إلى أمنيتي الأولى، تلك التي تركتها منذ سنوات على رف الإهمال. أعود لها كما يعود العاشق إلى أول حب، بشغف وندم وامتنان، لأن الحقيقة بكل بساطة، والتي نحاول إنكارها، هي أن الغد ليس مضمونا، وأن اليوم، رغم كل ما فيه من إكراهات، هو الفرصة الوحيدة التي نملكها لنكون أقرب إلى أنفسنا.

لو كنت سأرحل غدا، فأول ما سأفعله الليلة، أن أرسل رسالة إلى من أحبهم، بلا مقدمات ولا مبررات، فقط أقول لهم: أنا ممتن لأنكم كنتم جزء من قلبي، من أيامي، من ضحكتي.

سأعود إلى والدتي وأقبل جبينها دون مناسبة، أُخبرها أنني كنت أتظاهر بالقوة، بينما كنت كلما نظرت في عينيها أعود طفلا يجد في حضنها الأمان الذي لا يشبهه شيء.
سأُمسك بيد والدي، ذلك الرجل الذي أرهقته الحياة وهو يصنع لي دربا أمشي عليه وأعتذر له عن صمتي، عن برودي حين كان ينتظر مني كلمة حب أو حتى نظرة امتنان.

لو كنت سأموت غدا، لتمنيت أن أنظر في المرآة للمرة الأخيرة، لا لأصفف شعري أو أختار ما أرتديه، بل لأقول لنفسي: لقد كنت شجاعا، حتى في أكثر أيامك انكسارا، فلا بأس إن أخفقت، لا بأس إن تعثرت، لقد حاولت، وهذا يكفي.

لو كنت سأموت غدا، لما أرهقت قلبي بمواقف لم تعد تعنيني، ولا بأشخاص لم يكترثوا لوجعي. لذهبت إلى البحر وجعلت الموج يسمعني وأنا أصرخ بما كتمته طويلا. لجلست تحت شجرة أعرفها منذ طفولتي، وقلت لها كل ما لم أجرؤ على قوله لأحد، عن خيبتي، عن الأحلام التي لم تكتمل، عن الشعر الذي لم أكتبه، عن الأصدقاء الذين رحلوا قبل أن أقول لهم كم أحببتهم.

لو كنت سأرحل غدا، لتمنيت أن أنام الليلة قرير العين دون قلق أو ندم، دون قتال داخلي مع ما فات.
كنت سأمسك كتابا تركته منذ سنوات وأقرأ منه بصوت عال حتى تسمعني روحي وتطمئن. كنت سأستمع إلى الأغنية التي كنت أهرب منها، لأنها تذكرني بمن رحل، وأسمح لها أن تبكيني.

ولو كانت هذه الليلة الآخرة لي، لعشتها كما لم أعش قبلها، بلا أقنعة، بلا مجاملات، بلا تأجيل.
سأُطفئ كل الشاشات، وأجلس مع نفسي، أحادثها بهدوء، وأخبرها أنني لم أكن مثاليا، لكنني كنت حقيقيا. كنت سأسامح كل من أخطأ في حقي، لا لأنهم يستحقون، بل لأن قلبي يستحق أن يرتاح.

نحن لا نولد وفي جيبنا جدول زمني للمغادرة، لذلك، فان أصدق ما يمكننا فعله هو أن نحاول كل يوم العيش بطريقة تجعل الموت إن جاء فجأة لا يفزعنا، بل يجدنا ونحن في حالة صدق وسلام.

أحيانا، لا نحتاج إلى خطط عظيمة لنعيش كما نحب. نحتاج فقط إلى لحظة صدق واحدة مع أرواحنا، فلا نجعل الأمنيات كلها مؤجلة، ولا ننام على خلاف، أو صمت، أو ندم، أو حلم مؤجل. 

فلو كنت سأموت غدا، لكان هذا اليوم هو أجمل أيامي، لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأخير، لأنه سيتحرر من قيد التوقعات، ومن حسابات الربح والخسارة ومراعاة الناس، وأكتب رسالة بخطي المرتبك وأضعها في درج مكتبي، فيها بقايا حلم وبعض من ذكرياتي وكلمة أخيرة إلى نفسي: لا تنس أن تسامح نفسك.

سيكون هذا اليوم لي وحدي، كهدية وداع، أرتب فيه قلبي، وألملم فيه روحي، وأعتذر فيه عن كل ما أُهمل، وأقول أخيرا: لقد عشت على طريقتي كما أردت، قدر ما استطعت، ولقد حاولت رغم الإكراه، أن أكون صادقا مع الحياة، وأقبل على الله الغفور الرحيم.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً