السيمر / الأربعاء 12 . 10 . 2016
صالح الطائي
وأنا أنجز هذا الكتاب، لا يسعني إلا أن أتقدّم بالشّكر الجزيل والثّناء الجميل إلى:
• الأخ الأستاذ ماجد الغرباويّ رئيس تحرير ومدير موقع صحيفة المثقّف الذي كان السّبب والواسطة في تعارفنا ـ سعود وأنا ـ من على منبر صحيفته الغرّاء المباركة صحيفة المثقّف.
• الأخ الأستاذ الشّاعر الكبير سعود الأسدي، لأنه صديقي، ولأنه تقبّل فكرة الكتاب برحابة صدر، وتعاون معي في توثيق بعض المعلومات، وقرأ الكتاب وراجعه، ووافق عليه وعلى فكرته قبل أن أرسله إلى الناشر.
• كافّة الزّملاء والأصدقاء في صحيفة المثقّف؛ الذين لولا أسلوبهم المائز في تداول المداخلات البينيّة لما كان لهذا الكتاب أن يولد.
بهذه الكلمات افتتحت كتابي الجديد “سعود الأسدي سيد اللغتين” الذي تناولت فيه نوعا من الإخوانيات، يختلف عن ذاك الذي نعرفه، حيث يتبادل الشعراء قصائدهم فيما بينهم، إذ اقتصرت مواضيعي على السرد النثري، لكوني لست شاعرا، بينما كانت مواضيع سعود الأسدي قصائد غاية في الجمال والعذوبة والطيبة، ولذا افتتحت مقدمة الكتاب بهذه القصيدة الجميلة:
أُهْدِيكَ يا صَـالحَ الأَعْمَالِ من جُمَلِي
ما شِئْتَ يا صَادَقَ الأَقْوالِ وَالعَمَلِ
يا ابْنَ العِــرَاقِ وَعِرْقي مِنُهُ أَثّلَنِي
وَأَثْلَتِي منهُ أَهْدَتْ شُعْلَـــةَ الأَمَــلِ
حُبُّ العِرَاقِ وَمُنْذُ البَدْءِ أَثْمَلَنِي
أَسْعَــى إليْــــهِ بَقَلْبٍ بِالهَوَى ثَمِلِ
وَجَدُّكمْ حاتِــــمٌ وَالدَّهْرُ يَذْكُرُهُ
أَنْحَى على الخَيْل لِلضِّيفانِ والجَمَلِ
وَمَنْ يُضَحِّ بأَغْلَى ما لَدَيْهِ فلا
يَبْخَلْ بِسَرْجٍ ولا رَحْلٍ لِمُرْتَحِلِ
إذا أَتَيْــتَ لِبَيْتِي زَائِــرًا فأنا
لَكُمْ أُضَحِّي وَمَا عِنْدِيْ سِوَى حَمَلِ
لأدخل من خلالها إلى صلب الموضوع الذي جاء بمجموعه بفضل ثورة الانترنيت التي قربت المسافات، وأتاحت لنا ما كنا عنه عاجزين من قبل، حيث أصبح تبادل الأفكار فوريا بلا حائل أو مانع.
لقد شجع الانترنيت على البوح وطرح الرُّؤى والأفكار دون تقييد، وأسهم في تلاقح الأفكار وتنمية الوعي المعرفيّ، وتحوّل في بعض جوانبه إلى خاطبة تجمع بين العرسان، وصفحة تعارف تجمع بين الخّلان؛ الذين ما كان لهم أن يلتقوا لولا المنافذ التي فتحها لهم، ودلّهم عليها، ثم كان المرسال الذي يوصل ما في قلب أحدهم إلى الآخر بلمح البصر، وكأنّه جنّ من جنّ سليمان.
أمّا بالنّسبة لي فقد كان اكتشافي لدنيا الانترنيت أحد أكبر الانجازات وأعظم اللحظات في حياتي بعد أن كنت قد قيّدت حراكي وتنقّلي وكلامي سنين طوال خوف أن يفسّره الذين عيّنهم النّظام لمراقبتي من رجال الأمن تفسيرًا مغلوطًا، يودي بي إلى سوء العاقبة، فمن يقع بين أيديهم، يتحوّل إلى مجرد لعبة، ينفّسون بتعذيبها وإهانتها عن غضبهم وانحراف نفوسهم المريضة، فهم على العموم كانوا صغارًا ويعرفون ذلك، لكنّك حينما تقع تحت سلطتهم، يشعرون بنوع من التّعملق الكاذب، يدارون به تفاهتهم، ويثبتون من خلاله كبير ولائهم وإخلاصهم للنّظام ولسيّدهم الهمام.
ومن محاسن المصادفة أنّ الانترنيت كان من الأبواب التي تعلّمت الولوج من خلالها إلى دنيا الثّقافة من خلال مجموعة مواقع أدبيّة منها: موقع صحيفة المثّقف ومواقع أخرى، ونشأت بيني وبين الانترنيت علاقة ودّ متينة، فضلا عن ذلك، فتح لي الدخول إلى موقع صحيفة المثقّف بحد ذاته بابًا للقاء كمّ كبير من المفكّرين والباحثين والأدباء والسّياسيّين؛ الذين تحوّلوا جميعهم بما فيهم رئيس تحرير الموقع الأستاذ ماجد الغرباويّ إلى إخوة وأصدقاء أعزّاء، اتفقنا على كثير من الأمور، واختلفنا على أمور أكثر، ولكن خلافنا لم يفسد لودّنا قضيّة.
من بين الوجوه التي التقيت بها في موقع صحيفة المثقف، كان وجه سعود الأسديّ الشّاعر الفلسطينيّ الكبير بارزًا، يحتّل موقعًا في الصّدارة، ينشر مقاطع وقصائد فيها الكثير من العذوبة والسّحر، بدأت تروق لي كثيرًا، وأصبحت من المتابعين المدمنين لما ينشر، ومع كل قصيدة جديدة كان إعجابي به يزداد ويكبر، فبدأت أعلّق على بعض قصائده التي ينشرها، وكان من مواصفات موقع صحيفة المثقّف التي تفتقر لها الكثير من المواقع الأخرى أنّ المتداخلين جادّون وواعون ومثقّفون حقيقيّون، تعطي مداخلاتهم للموضوع زخمًا وإضافة نتيجة التّفاعل الجادّ معه، أمّا الرّدود عليها فلم تكن بأقلّ منها إجادة وكفاءة وإفادة، لكن استوقفني شيء باهر في ردود الشّاعر سعود الأسدي على مداخلاتي ومداخلات الآخرين؛ وهو أنه كان يردّ عليها شعرًا لا نثرًا، وبقدر ما استغربت من هذه الطريقة، وأسعدت بها، بدأت أشعر أنه يترجم مشاعره الحقيقيّة نحوك في تلك المقطوعات؛ التي تفضح حقيقة رؤيته للإنسان الآخر المقابل له. ومن خلال مقطوعاته المتكرّرة التي استفزّتني كثيرا، وحفزتني على جمع ما سيكتبه لي في كل مرّة. وفعلاً، نجحت بجمع كميّة كبيرة منها سويّة، ثمّ بسبب خلل أصاب حاسوبي، فقدتها مع كثير من كتبي ومواضيعي ودراساتي ومقالاتي، وقد تمكّن أحد الإخوة الأعزّاء المتخصّصين بالحاسوب هو الأستاذ عبّاس الوائليّ صاحب مكتب القمّة للحاسبات في محافظة واسط من استرجاع كميّة كبيرة منها بعد عناء طويل وتعب استمر لمدة تسعة أيام؛ ولكن بشكل مفرّق غير مترابط مما استدعاني إلى بذل جهد كبير في تجميع بعضها، وترك البعض الآخر، وكان ممّا نجحت في جمع بعضه تلك المقطوعات التي أهداها سعود الأسدي لي، ولكي لا تتكرّر حالة الفقدان وعرفانًا مني بجميل هذا الشّاعر الجميل، قرّرت أن أصدرها بكتاب، لكي تُذَّكر أولادي بي، وبهذا الصّديق العزيز.
من هنا .. من أجواء الواقع الافتراضيّ، ومن على صفحات موقع صحيفة المثقّف، نشأت علاقتي بالرّجل الذي يتنفّس شعرًا، الشّاعر الفلسطينيّ الكبير سعود الأسديّ، وهي وإن كانت علاقة خجلة في بدايتها، إلا أنها أصبحت من المتانة والرّصانة لدرجة أنّ كلام سعود معي تحوّل إلى فضاء من الشّعر الوجدانيّ الذي يجمع بين شعر الوصف، وشعر المديح، وشعر الحكمة، وربما يجمع كل أنواع الشعر هذه تحت باب (الإخوانيّات) لأنه يمثل نوعًا من الرّسائل المتبادلة بيننا شعرًا ونثرًا وكان هذا النّوع من الشّعر قد حظي بكثير من الاهتمام تاريخيًا، وجاء متزامنًا مع أيام العزّ والبَطَر العربيّ، حيث يسهل حفظ الرّسائل الشّعريّة وتناقلها من شخص لآخر، بل واستعارة بعضها للتّعبير عن موقف يريده بعضهم. وهو يعيد تصوير وترسيم العلاقة الاجتماعيّة بين الشّاعر والنّاثر لما ينضوي عليه من فنون الشّكر والتّهنئة والاعتذار وربّما العتب والشّكوى. من هنا غلب على شعر الإخوانيّات نوعًا من التّأنّق في المعنى, واصطناع العاطفة التي قد تكون صادقة وقد لا تكون، ولكنها في حالة سعود الأسدي كانت صادقة نقية.
وفاءً لهذا الصّديق العذب؛ الذي أطلقتُ عليه تحبباً أسماءً عدة منها: (جواهرجي الشّعر) و(صائغ الكلمات) و(الساحر) و(رجل يتنفّس شعرًا) بعد أن غرّد لي قصائده فأطربني، وغنّى لي الشّعر فسحرني، وخوفًا على ما جاد به علي من الضّياع، عدت إلى أوراقي القديمة ألملمها، وأبحث بين ثناياها عن مقطوعات شعره، لأجمعها سويّة، وأحوّلها إلى قلادة جمان، وأصدرها على شكل كتاب، أعلّقه على جبين أمّة لم تعد تعرف طعم الحُبّ. بمعنى أنّي حين أجمعها، فإنما أجمعها لا لأفخر بها أمام أقراني فحسب، بل لأنّي أردت لها أن تكون شاهدًا على نوع العلاقة الشّريفة التي كانت تربط العرب فيما بينهم، والتي بدأت تتلاشى وتضيع بعد الجراح التي تركها (الربّيع العربيّ) الخرف على جسد الأمّة؛ التي تفرّقت أيادي سبأ كلّ حزب بما لديهم فرحون، يضمر بعضها الحقد والكراهية لبعضها الآخر، ويقاتل بعضها بعضًا، ويكيد بعضها لبعض، ويتآمر بعضها على بعض، عسى أن تستنهض همم الشّرفاء منهم، ليتحرّروا من واقعهم المزري، ويعودوا إلى تلك الأيام التي جمعت بين العرب على الحلوة والمرّة، يوم كان المرء يفخر بكونه عربيًا، ولاسيّما وأنّ لفظ العروبة اليوم تحوّل إلى وصمة عار، أو عُرّ مُعدٍ تهرب منه النّاس، ولا أدري بما سيتحوّل إليه غدًا!.
والظّاهر أنّي لم أكن وحدي أملك هذه الرّغبة، إذ وجدته وبشكل غير مباشر، يشجّعني على جمعها وترتيبها حتى من دون أن يشعر، ففي عقله الباطن كانت أمنية خلود هذه الأبيات راسخة، لتبقى خالدة في ذاكرة السّنين، وهذا ما لمسته في الأبيات التي قال فيها:
أَخِي صالحُ الطائيُّ غَنَّيتَكَ الشِّعْــرَا
لِيَبْقَى مــع الأيامِ يا صَاحِبي ذِكْرَى
وَإنَّـك إذْ تَـرْعَى عُهُودَ مَحَبَّتِي
لِشَخْصِكَ أَرْعَى ضِعْفَ أَضْعَافِهَا عَشْــرَا
وَهَا هِيَ موسيقــى الوِئَـامِ تَحْوْطُنِي ؟!
وقد رَصَدتْ لِيْ من منابِعِهَــا بَحْــرَا
وَأنـتَ الذي سَيَّـرْتَ فيهِ مَرَاكِبي
علـى لُجَــجٍ خُضْـرٍ بأَشْرِعَـــةٍ كُبْرَى
وَإنَّ مَواويلَ العـــراقِ تَشُدّنِي
وَتَبْقَى بَقَاءَ الدَّهْرِ رُوْحِىْ بِهَا سَكْرَى
أَبُوْذِيّةٌ جَرَّتْ عَتَابا وَإِنَّني
أُغَنِّيْهُمَا لامِثْلَ لِيْ بِهِمَا أَدْرَى
كَأَنِّي احْتَسَيْتُ الخَمْرَ في بابِ بابِلٍ
لَدَى بِنْتِ خَمَّارٍ مُنَعَّمَةٍ شَقْرَا
أَسِيْــرُ إِلى أَرْضِ العــراقِ لِحِجَّـــةٍ
إِليـهِ وَرَبُّ الكَوْنِ يَسَّـرَ لِيْ اليُسْرَى
وَأُوْدِعَ أرْضَ القُدْسِ مِعْرَاجَ أَحْمَدٍ
عليلاً وقد أشْفَى وسُبْحَانَ مَنْ أَسْرَى
أما جملة (سيد اللغتين) فهي تسمية يطلقها أهل مدينة الناصرة على الشاعر الأسدي الكبير لكونه يجيد النظم باللغتين الفصحى والعامية.
صدر الكتاب عن منشورات معالم الفكر في بيروت بواقع مائة وستين صفحة من الحجم الوزيري، تزين غلافه صورة الشاعر الأسدي.
هذا وسيقوم الشاعر بإصدار طبعة ثانية من الكتاب في مدينته الناصرة.
أكرر شكري لشاعرنا الكبير وللأستاذ ماجد الغرباوي ولكافة الزملاء في صحيفة المثقف الغراء.