سليم الحسني
لا يتحمل المواطن البسيط اللوم عندما لا يعرف الدور الذي قام به الدكتور أحمد الجلبي في اسقاط نظام صدام.. لا تتحمل اللوم الطبقة السياسية في استبعاده عن مراكز القرار العليا، فذلك أمر معروف.. ولا كلام مع القوى الطائفية التي أدركت منذ البداية أن أحمد الجلبي يعمل من أجل إنهاء حكم البعث وحفظ الشيعة من القتل والتهميش والظلم على مدى عقود من التاريخ.
…
كان الموقف الأميركي من الجلبي سريعاً للغاية، فبعد فترة وجيزة من تشكيل مجلس الحكم، حددت واشنطن عداءها له، وحاولت تقليص نفوذه وحصره في أضيق زاوية من هامش العملية السياسية، وكان السبب المعلن أنه سرب معلومات خطيرة الى إيران.
لكن الأسباب الحقيقية أكبر من هذا وأعمق، لقد كانت الإدارة الأميركية قد اتخذت قرارها بشأن الجلبي قبل أن يسقط صنم الدكتاتور في ساحة الفردوس، فلم يكن من مصلحة الإحتلال أن يظهر رمز عراقي شيعي ليأخذ الواجهة السياسية كلها في مرحلته الجديدة، لأن ذلك يعني أنه سيأخذ القوة بيديه، وبذلك يتضاءل الدور الأميركي في العراق من خلال السفارة والحاكم المدني.
كان المرحوم الدكتور أحمد الجلبي، قد ذاع صيته في العالم بأنه الرجل الذي أسقط نظام صدام حسين، وأنه سلك طريقاً لم يسلكه أحد من قبله في إقناع أكبر دول العالم على استخدام القوة العسكرية وإرسال الجيوش لإنهاء نظام دكتاتوري عجزت كل الوسائل عن زعزعته بما فيها الانتفاضة الجماهيرية الكبرى عام 1991 (الانتفاضة الشعبية).
…
خطوة الجلبي بهذه الخطورة والجرأة، تقابلها منظومات متشابكة من المواقف إعلامياً وشعبياً ودولياً. فالرجل من جانب صاحب قضية نجح في تحقيق هدفها بإسقاط نظام الظلم والقتل والإرهاب في بغداد، ومن جانب آخر هو الخائن الذي استعان بالولايات المتحدة لتحتل بلاده، وبين التقييمين صخب من الآراء والافعال وردود الأفعال، وتصادم حاد بين التأييد والرفض. لكن النظرة الهادئة للنتيجة تكشف أن كل هذه التشكيلات المعارضة والمؤيدة وما بينهما، كانت تحمل رؤية الجلبي، وقد اعتمدت النتيجة التي صنعها على مدى سنوات صعبة من الاتصالات واللقاءات والاجتماعات السرية والعلنية مع أخطر الدوائر في الولايات المتحدة وغيرها.
فالذين رموا الجلبي بالخيانة والتآمر على وطنه، انضموا الى مشروعه وأيدوه بالطريقتين المباشرة وغير المباشرة. فالسعودية والكويت والامارات وقطر والأردن وتركيا وغيرها من الدول أيدت الاحتلال الأميركي للعراق، وساندته وقدمت التسهيلات عن طيب خاطر للجيوش الأميركية في زحفها نحو بغداد.
كما أن قادة الكيانات السنية التي ملأت الفضائيات تصريحات ثورية ووطنية، كانت سباقة الى عقد الصفقات السرية مع القيادة الأميركية، بما في ذلك تمويل القوات الأميركية بوجبات الطعام والخدمات المتنوعة التي يحتاجها الجيش الأميركي في قواعده المنتشرة في عموم العراق، وتضم هذه القائمة أسماء سنية لامعة مثل صالح المطلك ورافع العيساوي وعلي حاتم السلمان وأسامة النجيفي وجمال الكربولي الى جانب زعماء العشائر السنية في الأنبار.
ثم انكشفت الغبرة بعد أشهر قليلة عن دخولهم في منافسات شديدة ومفاوضات ساخنة من أجل الحصول على الوزارات والمناصب المهمة مثل نائب رئيس الجمهورية ورئاسة البرلمان والوزارات السيادية وغير ذلك. بمعنى أنهم عبروا الجسر الذي صنعه الجلبي، بل أنهم حازوا على مناصب وامتيازات لم يحصل عليها الجلبي نفسه.
لم يكن الموقف الحقيقي لقادة الكتل السنية، معارضاً للاحتلال الأميركي، إنما كان ناقماً على خطوة الجلبي بحل حزب البعث وإدراج فقرة اجتثاث البعث في الدستور، وإصراره على تشكيل هيئة مستقلة تتولى ملاحقة مجرمي النظام السابق ومنعهم من العودة الى الحياة السياسية. لقد شخّصوا أنه رجل سياسة من طراز خاص، يعرف ما يريد، ويصل إليه من خلال استخدام عقله الكومبيوتري في فتح خيارات مفاجئة كلما أغلقوا باباً أو سدوا عليه طريقاً.
وقد اكتشفت الحكومات العربية بأن هذا الرجل يحمل همّاً شيعياً كبيراً، ويريد حفظ حقوقهم، وسيحقق ذلك سريعاً فيما لو بقي يتحرك على الساحة، فكان لا بد من محاربته إعلامياً وسياسياً وهذا ما كان على مدى السنوات التي تلت سقوط النظام حتى وفاته في الثالث من تشرين الثاني الجاري.
…
كان الجلبي واضحاً منذ الأيام الأولى لإسقاط النظام، حيث اعلن بأن المهمة الأميركية قد انتهت، وعلى إدارة البيت الأبيض أن تنسحب من العراق، لتترك للعراقيين بناء وطنهم بإرادتهم. ولم تكن كلماته مثل غيره، فواشنطن التي خبرت الرجل وعرفته عن قرب وعن بعد، تعرف ما سيقوم به، وتعرف كيف سيحشد ضدها الأجواء السياسية الشعبية والدولية للانسحاب. ولعل حادثة بسيطة وقعت في بدايات تشكيل مجلس الحكم كشفت للحاكم المدني بول بريمر أن الجلبي يختلف عن المجموعة الجالسة امامه بهدوء وأدب.
لقد وصلت سكرتيرة المرحوم الجلبي لحضور اجتماع مجلس الحكم، فمنعها ضابط أميركي من الدخول، فما كان من الجلبي إلا أن نهض من كرسيه غاضباً، وأغلظ القول للضابط الأميركي، بأنها هي التي يجب أن تدخل، وأن عليه ـ أي الضابط ـ ان يخرج من القاعة فوراً. جرى ذلك أمام بريمر وأمام أعضاء مجلس الحكم، فانتاب الطرفين الخوف.. أعضاء المجلس أوجسوا خيفة من ردة فعل ناقمة يطلقها بريمر ضدهم.. والحاكم الأميركي شعر أنه أمام رجل لا يعير قوة الاحتلال بجبروتها وسطوتها وسلطتها الإهمية والإحترام.
…
بعد تشكيل الائتلاف العراقي الموحد، وفوزه في الانتخابات الأولى عام 2005، رشح الجلبي نفسه لشغل منصب رئاسة الوزراء، لكنه واجه معارضة شديدة من المجلس الأعلى، واضطر الى الانسحاب لصالح الدكتور إبراهيم الجعفري المرشح الآخر للرئاسة.
لم يكن موقف السيد عبد العزيز الحكيم رحمه الله المعارض لتولي الجلبي منصب رئاسة الحكومة، صحيحاً حسب رأيي، فلقد كان العراق في بداية مرحلة جديدة، لم تتضح معالمها بعد، وكان الشيعة في تلك الفترة يتعرضون لإستهداف طائفي دموي صارخ، مما كان يستوجب أن تأتي للحكم شخصية علمانية لها خبرتها وقدراتها الخاصة مثل الجلبي، فاذا نجح في المهمة فان المكسب سيجنيه العراق، وإذا فشل فأن تبعاته ستكون بعيدة عن الإسلاميين. وكان معروفاً في أيام المعارضة، أن فترة الحكم الأولى بعد سقوط النظام، ستكون شاقة صعبة، وأن مصلحة العراق تستوجب إبعاد الوجه الإسلامي عن مصدر القرار الأول، لأنه سيواجه التحديات والأزمات المفتعلة من السعودية والمنظومة العربية الطائفية، كما ستقف الدول الغربية مترددة في دعمه، لمنع حصول الإسلاميين على مكسب تاريخي. لقد كان ذلك متداولاً وشائعاً بين معظم الأطراف الإسلامية الشيعية، لكن بعد السقوط تبدلت القناعة خلال ساعات قليلة، وكان السيد إبراهيم الجعفري أول الراكضين نحو كرسي الرئاسة.
لكن الجعفري تُسجل له نقطة إيجابية حين استعان بالجلبي ليشغل منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الخدمات، وهو قرار يمتدح عليه الجعفري. فقد استطاع الدكتور احمد الجلبي أن يعيد في فترة وجيزة بعض الخدمات الضرورية التي كانت مدمرة بالكامل. كما ترأس لجنة العقود التي فرضت سيطرتها على اتفاقات الوزراء وصفقاتهم، وهي الفترة التي لم تُسجل فيها على الحكومة حدوث حالات فساد كبيرة كالتي حدثت لاحقاً. ولو لا وجود الجلبي لكانت البلاد قد سقطت في الهاوية بسرعة البرق، فالجعفري كان متفرغاً للكلام والخطابات، وفي ساعات خاصة الركون الى غرفته ينعم بأجمل الساعات وداعة وراحة.
….
كان المرحوم احمد الجلبي معروفاً من قبل الكتّاب والمثقفين العراقيين، لقد أدرك معظمهم قدراته وعبقريته وامكانياته، لكنهم ـ وأنا منهم ـ لم ينصفوا الرجل، لقد كنا تحت تأثير الجو العام، فخذلنا الرجل ونحن نراه يتحرك في دائرة الاستهداف من قبل القوى الطائفية والطبقة الحاكمة والحكومات العربية.
ويبدو أن الجلبي كان يعرف منذ دخول العراق، أنه في طريقه الى الانحسار أو الموت، لذلك لم يكن يشكو تهميشه وإبعاده عن الدور المطلوب.. ولم يأخذ على القادة السياسيين أنهم جاءوا الى الحكم والسلطة والامتيازات بفضل جهوده الدولية.
كان يعرف ذلك بدقة، فسكت عن العتب واللوم، ومضى يواصل نشاطه، وهو يتوقع أن تسقطه رصاصة طائشة أو قطرة سم أو سبب آخر.
…
كان إسلاميو السلطة يعرفون قدراته وقابلياته، ويتحدث قادة الكتل مع رجالهم واتباعهم في جلساتهم الخاصة عن عقليته وذكائه الفذ، لكنهم يكتمون ذلك علناً، بل ويتضامنون فيما بينهم على إبعاده من مواقع القرار، لأنهم يعرفون أن بروزه الى الواجهة سيكشف الفارق الكبير بينهم وبينه.. وسيتضح الخواء من الكفاءة، وسيلمس المواطن العراقي البون الشاسع بين مسؤولين وقادة صناعتهم الكلام والشعارات وبين رجل يعرف كيف يفكر ويشخص ويفعل. والدليل على كلامي، شهاداتهم فيه بعد وفاته، لأنه لم يعد منافساً لهم، فقد تكفّل الكفن والقبر بإزالة مخاوف المنافسة.
في فترات مهمة، كان يتحدث عن نقاط ملفتة عن مستقبل العراق، ولا سيما في الجانب الاقتصادي، مثل الأزمة العاصفة التي ستضرب العراق وتحيله خواءً وفقراً، لكن أحداً لم يسمع.
وفي فترات أخرى وضع اصبعه على الجوانب المخفية من الفساد الأكبر والأكثر خطورة، وضرب على ذلك الأمثال والأرقام، مما وضع كافة المسؤولين أمام إدانة مباشرة، فكانوا يلوذون بالصمت وكانوا يواجهون مذكراته وكتبه الرسمية بالاهمال.
في أشهره الأخيرة تصدى لكشف ما تقوم به البنوك الأهلية من فساد كبير، ومن تدمير هائل للاقتصاد العراقي، وقدم الأرقام الصادمة، ولفت الأنظار الى مساحات كبيرة من الفساد المخفي، فيما ينشغل الرأي العام بقضايا صغيرة من الفساد، وقد كانت تلك نقطة حساسة، بل دائرة من نار يحترق من يقترب منها، لكنه جازف ودخلها، ثم مات فجأة.
انتهت حياة الدكتور احمد الجلبي.. وفي العراق ينال الذين خدموه حقهم بعد حين.
ومثل الآخرين سأكرر هنا تحيتي للزعيم عبد الكريم قاسم الذي اكتشفه العراقيون بعد سنين من وفاته.