السيمر / الاثنين 26 . 03 . 2018
وسام متى/ مصر
من السذاجة الافتراض أن الحاكم، ولا سيما في الديكتاتوريات أو أنصاف الديموقراطيات العربية، سيحلم، يوماً ما، بتقمّص شخصية الرئيسة التشيلية ميشيل باشليه، يوم خرجت من قصر مونيدا، وهي تذرف دموع الفرح، والتأثّر، لتلك العاطفة النبيلة التي أحاطها بها المواطنون، وهم يتسابقون لمعانقتها وتقبيلها قبلة الوداع الرئاسي الأخير، قبل أن تصافح قائد الحرس الجمهوري، وتستقل سيارتها من مقر رئاسي لن تقيم فيه مجددا.
هذا السيناريو، ليس مشهد بطولة بالنسبة إلى الحاكم العربي، ولا حتى لدى المخرجين الرسميين لحكمه، فهو إما رئيس مدى الحياة، إلى أن يتمّم الله إرادته فيه، ميتةً طبيعية، أو رصاصةً في عرض عسكري، أو إعداماً على أيدي «انقلابيين»، وإمّا رئيس عجوز وعاجز، يسعى جاهداً إلى إيجاد سيناريست يكتب له مشهد التوريث، أو في أفضل الأحوال، رئيس مسكون بـ«مرض التجديد الدائم»، يعاند قليلاً، أمام المعادلات السياسية، قبل أن تخرجه هي بنفسها رئيساً منفياً، أو منبوذاً داخل بلاده، حين يصبح المسؤول عن فترات اضطراب وفراغ دستوري طويلة.
بهذا المعنى، لا يمكن، بحسابات المنطق، توقع سلوك رئاسي مختلف في مصر، حيث ستصدر اللجنة العليا للانتخابات، بعد أيام، بيان الفوز المتوقع للرئيس عبد الفتاح السيسي، أمام مرشّح صوري، على شاكلة موسى مصطفى موسى، وذلك بعد إتمام ديكور التصويت، الذي يقترب من الناحية العملية من الاستفتاءات على الطريقة العربية المعروفة.
وبهذا المعنى أيضاً، لا يمكن أن يستغرب المرء أن تتعالى أصوات «الحاشية» و«المريدين»، ابتداءً من اليوم الأول للولاية الرئاسية الجديدة، مطالِبةً بـ«تعديل دستوري»، لتأبيد ولاية «الرئيس المحبوب» و«المنقذ»… إلى آخر تلك التوصيفات التي تحرّك النشوة السياسية لدى الحاكم العربي.
انطلاقاً من ذلك، يُبالغ الكثيرون في إبداء خيبة أملهم من «الانتخابات» الحالية في مصر، التي يفترض المنطق السياسي العام، في عالمنا العربي، عدم التجاوز في مقاربتها، بكثير من التحليلات، طالما أن اختزالها ممكن بعبارة «ولا أيّ اندهاش»، التي حوّلها إعلان دعائي قبل سنوات قليلة إلى «شعار المرحلة».
ومع ذلك، يمكن تفهّم خيبة الأمل السائدة، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالحالة المصرية، التي قدّمت قبل قرابة ستّة أعوام ـــ ومعها تونس بطبيعة الحال ـــ استثناءً رائعاً، أقلّه من الناحية الشكلية، حين اصطف المواطنون في طوابير أمام لجان الانتخاب، لاختيار واحدٍ من بين 13 مرشحاً تأهّلوا لخوض منافسة انتخابية حقيقية، لم يكن باستطاعة أحد توقع مسبقاً هوية الفائز في سباقها النهائي.
ومع أن ثمة الكثير من الالتباسات تجاه ما جرى في انتخابات الرئاسة المصرية، في عام 2000، إلا أنها كانت في الواقع تجربة فريدة، سرعان ما تلاشت، بعد عام واحد، حين استعادت مصر، ذلك المشهد السياسي القديم، الذي بلغ ذروة رتابته، في رئاسيات عام 2010، المرشّحة للتراجع إلى مركز الوصيف، في «الأوسكار» الانتخابي المصري، اليوم.
برغم ما جرى، طوال السنوات الأربع من ولاية السيسي الرئاسية الأولى، إلا أن الخطير في الأمر، أن المجتمع المصري يبدو اليوم مستسلماً لخيبة الأمل، التي إن استمرت، فستتحوّل في نهاية المطاف، إلى مرض نفسي مزمن، يجعل المصابين به، ولا سيما ممّن كانوا يسمّون قبل سنوات «القوى الثورية»، أسرى الرهان على القدر، الذي أنهى حكم جمال عبد الناصر وفاةً (أو تسميماً كما يقول البعض)، وحكم أنور السادات اغتيالاً… وحكم حسني مبارك بثورة شعبية، تخمّرت على مدار ثلاثين عاماً، ولم يكن أحد قادراً على توقّعها، حتى بعد اندلاع شرارتها.
ولعلّ العوارض الخطيرة لخيبة الأمل/ أو ما يمكن تسميته «الإحباط الثوري» قد تبدّى في الانتخابات الحالية، أكثر من أي وقت مضى، حين بات الرهان الأخير، على شخصيات ثار المصريون ضدها بالأساس، كما هي الحال مع «الفريق» أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد حسني مبارك، أو «الفريق» سامي عنان، الرجل الثاني في المجلس العسكري، الذي رفع في وجهه «الثوار» يوماً شعار «كاذبون»!
هذا «الإحباط الثوري»، لا إمكانية للخروج من دائرته المفرغة والمدمّرة، بالبكاء على أطلال «ميدان التحرير» و«محمد محمود»، كما يفعل البعض، ولا بمجرّد السخرية، التي باتت «كوميديا سوداء» يتبارى الكل على الفوز بالمركز «الفايسبوكي» الأول فيها، وإنما بمراجعة نقدية لتجربة ممتدة على مدار سبع سنوات من عمر «ثورة 25 يناير» المغدورة، وتتمّتها في «ثورة 30 يونيو».
تلك المراجعة النقدية، لا بد أن تكون قاسية، على الذات، قبل الآخر، لا بل إنّ نجاعتها تتطلب ربما نقد الثورة نفسها، التي باتت مشوبة، طوال السنوات الفائتة، بنظرية المؤامرة، التي تدفع إلى التشكيك بها، واعتبارها مجرد «تصفية حسابات» داخل «الدولة العميقة» أو «النظام العميق»، و«صراع أجهزة»، كان فيه «الثوار»، ومعهم شرائح واسعة من الشعب المصري، أتوناً لخيارات سياسية قذرة، لا حول لهم فيها، ولا قوة.
كثيرة هي الأسئلة، التي تتطلبها تلك المراجعة النقدية، أولها مقاربة تفاصيل التفاصيل، في محطات الثورة، منذ اندلاع شرارتها، وحتى هزيمتها، بما يكفل تنقيتها من أحاديث «المؤامرة»… أو حتى اتخاذ القرار الشجاع بـ«إدانتها»، إن استقر الأمر على عكس ما سبق.
وأمّا ثاني الأسئلة النقدية، فيتّصل بالمقاربة التي انتهجتها «القوى الثورية» في المحطّات المفصلية في ذلك المسار الانحداري، الذي سلكته ثورتهم، ابتداءً بالسلوكيات «الطوباوية» التي انتهجت، خلال المرحلة الانتقالية الأولى، على حساب «البراغماتية» السياسية؛ مروراً بالعجز الدائم في التوصل إلى رؤى موحّدة بين المكوّنات «الثورية» على برنامج أو قائد أو مرشّح، والرهانات الخاطئة على الكثير من «رموز» تلك المرحلة؛ وصولاً إلى الخيارات الكارثية، التي جعلت أكثر التيارات تخلّفاً، مثل «الإخوان المسلمين» و«السلفيين» الكاسب الأوحد من الموجة الثورية الأولى؛ وحوّلت أكثر مؤسسات الدولة رجعية (سواء في مصر أو باقي دول العالم)، أي المؤسسة العسكرية، إلى الجهة الوحيدة القادرة على قطف ثمار الموجة الثانية، على النحو الذي نشهده اليوم.
تلك المقاربة النقدية الذاتية، قد تكون الفرصة الأخيرة، المتاحة حالياً، لتحديد قواعد الصراع السياسي، بشكل أكثر نضوجاً وتجدّداً، على نحو يفتح كوّة في جدار التغيير، الذي ربما لا يزال ممكناً، طالما أن النظام السياسي ـــ العسكريتاري في مصر، يقترب أكثر فأكثر، من نموذج عرفته أميركا اللاتينية طويلاً، وتحرّرت منه، بعد عقود من القمع، لتستقر الأوضاع فيه، في نهاية المطاف، على مشهد رئيسة تغادر منصبها، بكثير من الحب… لا الدم!
الاخبار اللبنانية