أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / المأثـوات السـومرية .. الخبز يا أنكيدو بهجة الحياة

المأثـوات السـومرية .. الخبز يا أنكيدو بهجة الحياة

الاحد 22 . 11 . 2015

د . علي الشوك

كان المطبخ السومري، مثل الفرنسي، قائماً على الخبز. فالرمز المسماري للأكل، هو علامة (الفم) مع علامة (الخبز) في داخله. وكلمة «أكالو» الأكدية تعني «يأكل»، وكلمة «أكلو» تعني «خبز». وتفيدنا السجلات الآثارية بأن سكان وادي الرافدين القدامى كانوا يصنعون أكثر من ثلاثمئة نوع من الخبز، الفطير وغير الفطير. وعندما تعلم أنكيدو (في ملحمة غلغامش) كيف يأكل مثل سائر بني البشر (بدلاً من ارتضاع الحليب من حيوانات البر)، كان أول شيء تعلمه هو أكل الخبز: «كل الخبز، يا أنكيدو، بهجة الحياة».
كان الطعام العراقي الى وقت قريب سومرياً، وبابلياً، وفارسياً، وعباسياً، وتركياً. لكن ذلك كله ربما يعود الى جذوره السومرية والبابلية. فمأدبة آشور ناصر بال الباذخة لم تكد تستثني صنفاً ولوناً من ألوان الطعام.
وإذا كانت الموسيقى في عهد نبوخذ نصر تتألف من أوركسترا من عدد متنوع من الآلات، فلا بد من أن مطبخه كان باذخاً في تنوعه أيضاً. ولا بد من أن الأخمينيين الفرس استعاروا المطبخ البابلي بعد احتلال هذه المدينة العظيمة، مثلما تعلم ملكهم اللغة البابلية. وهذا انتقل في ما بعد الى الساسانيين، ثم الى العباسيين، الذين كان مطبخهم باذخاً جداً
وكنت أحب أن أعرف ماذا كان أجدادنا العراقيون يأكلون، فرغيف الخبز العراقي الذي يخبز في التنور (وهي كلمة بابلية) كان سومرياً. ولعل خبز العروق المعاصر (وهو خبز بلحم وبصل وتوابل) ذو جذور بابلية أيضاً. ولا بد من أن الكليجة (المعمولة) كانت بابلية وآشورية، إن لم تكن سومرية أيضاً. ولعل وجبة التشريب (حيث يقطع الرغيف ويُثرد في صحن ليتشرب بمرق اللحم، ويوضع فوقه اللحم والبصل والحمص المسلوق) كانت سومرية. ففي وادي الرافدين (شمال سورية) دجنت الحنطة للمرة الأولى، وفي هذه المنطقة دجنت الخراف أيضاً. والمريس: ما مرسته في الماء من التمر ونحوه. لكن كلمة «مرسو» الأكدية تقال لضرب من الكعك (الكيك) كان يصنع من مزج نوع من الأشربة مع الطحين. بل إن كلمة «كعك»، التي نظن انها أصل كلمة cake يقال لها بالأكدية «كعاتو».
وقد صدر حديثاً لجان بوتيرو Jean Battéro الفرنسي كتاب ترجم الى الانكليزية بعنوان (أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في وادي الرافدين)، وذلك بعد ان اكتشف المؤلف ثلاثة ألواح مسمارية في أرشيف جامعة ييل Yale من المسماريات. وتحتوي هذه على خمس وثلاثين وصفة لأنواع من المرق، وهي أصناف مختلفة من اللحم يُطبخ في سائل دهين مع مطيبات حرّيفة وطازجة تضاف في النهاية، مثل الكرات المهروس، والثوم، أو النعنع. ومما يؤسف له ان هذه الوصفات ذكرت بإيجاز: «مرق الغزال. أعِدَّ مقداراً من الماء، وأضف سمناً، وملحاً، وبصلاً، وكراثاً، وثوماً». واللوح الثالث أكثر غموضاً، ويشتمل على ثلاث وصفات: اثنتين لطهي أنواع من الطيور، مع استعمال الخل، والبيرة، للنكهة، أحدهما كعصيدة، لكن يكاد يكون فك رموزها متعذراً. أما اللوح الثاني فيستأثر بفضول جان بوتيرو، لأن وصفاته السبع مفصلة وقمينة بجذب اهتمام ذواقة طعام فرنسي. فهناك فطيرة تُعدّ من الطيور الصغيرة مع القوانص والأحشاء، وتطهى بالبصل، والثوم، والكراث (يبدو ان الكرفس والبقدونس لم يكونا معروفين عندهم يومذاك)، وتقدم على رغيف خبز، مضافاً اليها في اللحظة الأخيرة بعض الكراث والثوم. وهناك وصفة أخرى فاخرة، من الحمام، حيث تُطهى الحمامة في مرقة غنية معدة من احشائها، ثم تمسح بالثوم وتقدم مع الخضار والخل. وتُحمص ساقاها، وتداف بالطحين. وهناك معلومات مفيدة في الوصفة: إزالة الغضاريف، ومسح الحمامة بعد رفعها من القدر ويشير جان بوتيرو الى التوازن المدروس بين مذاق لحم الحمامة، وحموضة الخل، ومرارة الخضار، ويصفه بأنه طبخ على يد ذوّاقة.

مأدبة
وزعم آشور ناصر بال انه عندما افتتح القصر الملكي في كلخ، قصر البهجة الذي كان باذخاً جداً، أقام مأدبة لما مجموعه سبعون ألفاً من الضيوف، من ألف رأس مسمّن من الماشية، وألف عجل، وعشرة آلاف خروف زريبة، وخمسة عشر حمل، ومئات الأيائل، والغزلان، وآلاف البط، والإوز، وأصناف الطيور، وآلراف البيض، والأرغفة، وآلاف الجرار من البيرة، ورواقيد النبيذ، وأنواع الحبوب، والخضار، والزيوت، والأفاوية، والفواكه، وأكواز الفستق، والعسل، والزبدة الخالصة، والحليب، والجبن، والجوز المقشر، والتمر، الخ, الخ.
وفي ختام كتابه، يقول بوتيرو «ليس هناك ما يدعونا الى الاعتقاد بأننا قادرون على تناول العشاء الرباني مع أبناء وادي الرافدين القدامى. فلا أحد يستطيع معرفة النكهة الحقيقية للعشرات من اصناف المواد التي كانت تستعمل في تلك الطبخات». لكنه يعتقد أيضاً اننا نستطيع استرجاع بعض الشيء منها. لكن ما هو هذا الشيء الذي نستطيع استرجاعه؟ هل سيكون في وسعنا ان نتذوق مما كان يأكله ابناء وادي الرافدين عما تحدر الى المطبخ «العربي – التركي»، أو «اللبناني»، أو الشرق أوسطي، الذي نراه اليوم؟
وإذا لم يكن للمطبخ السومري تلك الصلة القوية بمطابخ الشرق الأوسط، فإن نوال نصرالله، الخبيرة بالمطبخ العراقي، ترى ان المطبخ البغدادي يعود في جذوره الى سومر. هذا ما قرأته في كلمة (بي ولسون) عن الكتاب الفرنسي المشار اليه أعلاه. فهي تجد أصداء رافدينية في «حبنا للخبز وفي الباجة pacha، التقليدية مئة في المئة». وهي وجبة تُعد من رأس، وكرشة، وقوادم الخروف بعد سلقها. فهذه الباجة تذكرنا بالطبخات السومرية التي تُعد من لحم الضأن. وأنا أضيف الى ذلك وجبة التشريب، أو ماء اللحم (وبالفارسية آب غوشتا)، فهي لا تكاد تكون معروفة خارج العراق وإيران. ولعل أصولها سومرية. وقرأت قبل سنوات كلمة جميلة عن أصل «الكباب»، في «الحياة»، لا أذكر بالضبط الى أين وصل به الكاتب. لعله رجع به الى العصر العباسي. لكنني أتساءل ان كان اصل الأكلة، وليس الكلمة، يرجع الى أيام بابل. وأنا لا أستبعد ان الكبة أكلة آشورية، وكذلك معظم الأكلات التي تُعد من الحنطة وجريشها… وكنت أفكر في البحث عن جذور «البقلاوة»، فليس من المستبعد ان تكون بابلية. لكنني شُغلت عن اهتماماتي اللغوية والفولكلورية .

الحياة اللبنانية