أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / نهاية “الرجل المريض”‎

نهاية “الرجل المريض”‎

الخميس 26 . 11 . 2015

سمير الفزاع / سوريا

لمن يتذكر، عندما بدأ غزو العراق العام 2003، لم يبق في بغداد الا ثلاثة بعثات دبلوماسية، الروسية والكوبية والسورية. حاولت تلك البعثات لعدة مرات اقناع صدام حسين بمغادرة العراق، حيث تقوم موسكو بتأمين خروجه عبر موكب سيارات السفارة الروسية، وعندما يصل الى الحدود السورية تتكفل سورية بنقله الى مكان آمن، ثم بنقله وطاقم السفارة الكوبية الى هافانا في كوبا حيث سيمضي بقية حياته هناك… لكن صدام حسين كان مقتنع حدّ الجنون بأن واشنطن لن تتخلى عنه وتسقط حكمه لأسباب عديدة، يقف على رأسها أن لا بديل حقيقي له، وأنه السدّ الفعلي أمام تمدد النفوذ الإيراني… ولم يدر في خلده للحظة بأن هناك عالم جديد تشكل لا مكان له فيه.
لماذا أسقطت تركيا الطائرة الروسية؟ وكيف سيكون الردّ الروسي؟ سؤالان يشغلان بال العالم -وله كامل الحق- لأن الإجابة عنهما ستحدد الملامح التي سيتوضع عليها أهم صراع في القرن؛ بل ستحدد شكل القران الواحد والعشرين برمته.

لماذا المغامرة؟:
بصرف النظر عن الوضع الميداني للطائرة الروسية –هل اخترقت الاجواء التركية أم لا- لحظة إستهدافها، إلا أن هناك جملة حقائق ثابتة، منها: قيام تركيا بإسقاط طائرة روسية قاذفة وليست مقاتلة، وقتل أحد طياريها من قبل جماعات تدعمها تركيا، وسقوط هذه الطائرة داخل الاراضي السورية بعمق 4كم، ولم تكن تشكل أي تهديد على تركيا كونها كانت في طريق العودة الى مطار حميميم بعد قصف الجماعات الارهابية، ولم تكن تحظى بأي دعم جوي من طائرات اعتراضية تحميها أو أرضي عبر منظومات دفاع جوي… وهذا يعني بكل بساطة، أن الطائرة كانت هدفاً سهلاً جداً من جهة، وأنها تعرضت لكمين جوي غادر أُعد سلفاً من جهة ثانية… ومن أبرز أسباب هذا الفعل المشين والدنيء:
1- قبل عدة أيام حذّر اردوغان روسيا من عواقب اختراق المجال الجوي التركي وخسارة صداقتها، وان النيتو سيرد على أي هجوم تتعرض له الأراضي التركية… وإن وقع المحظور ستحقق واشنطن وانقرة عدة اهداف بضربة واحدة مثلاً، إذا كان هناك دول غربية –فرنسا مثالاً- تريد أن تأتي إلى المنطقة “لمحاربة” الارهاب ستجد نفسها في موقع يضطرها للدفاع عن تركيا في وجه الموقف المتوتر مع روسيا… واجبار النيتو على الانتشار قرب الحدود السورية-التركية ما يسهل عليهما مهمة انشاء منطقة حظر للطيران، والتحكم بحركة الارهابيين دخولاً وخروجاً وجنسيات… .
2- تدارك الوضع المأساوي لادوات الغزو الارهابية في أرياف حلب حمص وحماه وخصوصاً ريف اللاذقية الشمالي، حيث تنتشر الجماعات الارهابية التي تمثل “قوة اردوغان الضاربة”… فللمرة الاولى لم يتحدث اردوغان وفريقه “للدفاع” عن “المعارضة المسلحة السورية” بل قال بانه يدافع عن التركمان في سورية، وهذا يؤكد بانهم باتوا يلعبون بالورقة الاخيرة، الاقليات، والتي قد تفتح ابواب الجحيم على تركيا ذاتها في قادم الايام… أو الذهاب إلى خيار الحرب الإقليمية الواسعة.
3- تحويل القوات الروسية من قوة تحارب الارهاب الى قوة احتلال تدافع عن وجودها وسيطرتها… وهذا يفسر ما قاله اردوغان قبل ايام عندما طالب مجلس الأمن بحماية ما سماهما “القرى التركمانية في وجه الاحتلال الروسي”.
4- رسالة تركية للاكراد بأن أحد في هذه الحرب لن يكون قادراً على حمايتهم من “النار التركية” اذا ما فكروا باقامة ادارتهم الذاتية.
5- وضع حدّ فاصل “للتفاهمات” الروسية-الامريكية الثنائية، بحيث تؤخذ مصالح تركيا ومطالبها بعين الاعتبار والا فإن تركيا ستفجر المنطقة باكملها… وهذا يظهر حقيقة التصارع ضمن الحلف الامريكي.
6- اظهار تركيا كخط للدفاع عن كامل اوروبا بوجه التمدد الروسي والارهابي لتسريع عملية دمجها ضمن الاتحاد الاوروبي… بعد أن خسر علاقاته مع كامل محيطه تقريباً.
7- وقف تدفق الارهابيين من سورية الى تركيا بشد عصبهم واظهار التاييد القوي والحاسم لهم بوجه القوة الكونية الثانية، روسيا… وهكذا سيضمن بقائهم في محرقة الميدان السوري، والإنتقام من روسيا لقطعها “شريان” التمويل النفطي لداعش وللدائرة القريبة من اردوغان شخصياً.

الردّ الروسي:
1- لا يمكن للرد الروسي أن يكون فردياً ودون التشاور مع حلفائها في المنطقة، وخصوصاً سورية. ومن هنا سيكون الردّ الروسي على عدة مستويات: ردّ روسي خالص بأبعاد سياسية، عسكرية،أمنية،اقتصادية… مثل وقف الحركة السياحية نحو تركيا، وتجميد التعاون العسكري بين البلدين… ردّ روسي في المؤسسات الدولية، مثل تقديم شكوى للامم المتحدة أو مجلس الامن حتى… ردّ دولي، مثل شكوى في منظمة التعاون الاوروبي، شنغهاي… رد ميداني في سورية والإقليم… .
2- في المنطق هناك آلية يتم فيها تعريف الأشياء تسمى التعريف بالضد، كتعريف الليل بأنه عكس النهار وضده مثلاً. تركيا لم تسقط الطائرة الروسية ترفاً؛ بل هناك عمل كانت تؤديه هذه الطائرة يؤذي تركيا ويضعها في مأزق، والرد الفعال ليس بإتمام مسيرة هذه الطائرة فقط؛ بل بإتمامها بقوة واتساع أكبر… أي لا شيء يؤذي تركية أكثر من متابعة مهمة هذه الطائرة تحديداً.
3- احد أهم الردود دهاءاً وقانونية وإيلاماً، أن تترك موسكو لدمشق حريّة الردّ –كونها صاحبة السيادة وفيها ميدان المعركة- بتوفير مستلزمات الرد القوي والفتاك على أي إختراق جوي لحدودها من قبل تركيا؛ بل وحلفائها في النيتو وتحالف واشنطن المزعوم لمحاربة داعش، بتزويدها بنظومات الدفاع الجوي المتطورة مثل صواريخ S-300 التي تعاقدت سورية على شرائها منذ سنوات أو بالمنظومات الأكثر تطوراً مثل S-400… مع توفير مظلة الحماية الدولية لها.
4- التوسع بالحضور العسكري الروسي عبر تشكيلات إسناد ميداني تحافظ على المعادلة التي تحرص روسيا على تنفيذها حتى اللحظة: كسر مشروع واشنطن دون التدخل البري. يكون ذلك بتشغيل قوات روسية لمرابض مدفعية وقواعد صاروخية متطورة ومنظومات دفاع جوي حديثة… تساند الجيش العربي السوري بقوة نارية متفوقة ودقيقة، ودون الانخراط في خطوط النار.
5- فتح الميدان لحلفاء جدد يقاتلون إلى جانب سورية من جهة، ورفع مساهمة الحلفاء الحاضرون بالفعل من جهة ثانية، وانخراط المزيد من القوات العاملة في الوحدات العسكرية السورية الاحتياطية في الميدان ثالثاً… وتغيير قواعد الاشتباك بما يتناسب مع تصريح وزير الدفاع الروسي الأخير: سنسقط اي طائرة نرى فيها تهديداً لقواتنا في سورية.
ختاماً، ما معنى قول وزير الخارجية الامريكي كيري قبل أيام: إن وقف النار المقترح في سورية لن يشمل داعش وجبهة النصرة؟ هذا يعني أن مدينتي حلب وإدلب وريفهما وريف اللاذقية معرضة لهجوم تكلّله شرعيّة ضرب الإرهاب، والقوة الوحيدة التي ستستفيد من هذا الغطاء الجيش العربي السوري وحلفائه، فخاضوا حرباً برية وجوية لإنهاء هذا الوجود الإرهابي… فبدأ انهيار الأدوات التركية الشامل في شمال سورية، فكانت صرخة أردوغان. لكن لماذا لا يرسل اوباما قوات أمريكية إلى سوريه أو تركيا حتى؟ صحيح أنّه علّل ذلك بان واشنطن تدعم قوى “معتدلة” تحارب داعش، وأن داعش لا تملك “سلاح جو” لنحاربها باقامة منطقة لحظر الطيران، وفسر رفضه للمنطقة العازلة، بانه لا يعرف ممن ستنظف ومن سيدخلها… وأن بيان فينا لم يُشر لإسقاط النظام في سورية قط… الا أن هذا التراجع الكبير في مواقف ادارة اوباما يمكن ردّه الى عدة اسباب منها: لا منفذ بري أو بحري لهذه القوات الا عبر تركيا، وهذا يجعله فريسة سهلة لإبتزازات أردوغان التي لا تنتهي، وقد تفضي في نهاية الأمر الى تورط امريكي حقيقي في سورية كما حصل في أفغانستان. ثانياً، الخوف من ردّ الفعل الروسي، صاحب الحشد الأكبر في المنطقة، والاقدر على الزج بقوات ضخمة في سورية… بعكس واشنطن وحلفائها. وجود قوات امريكية وغربية في سورية سيجعلها هدفاً سهلاً للجيش العربي السوري وحلفائه ولكل من يريد تصفية حساباته مع واشنطن وحلفائها، خصوصاً وأن هذا التدخل سيصنف كإحتلال بكامل الموصفات، فلا قرار اممي يغطيه ولا دعوة من الحكومة السورية “تشرعن” وجوده. عند تدفق القوات الامريكية-الغربية وخصوصاً التركية الى سورية، سيفتح هذا التصرف الباب على احتمالات لها أول وليس لها آخر، فلا أحد يعلم كيف سيكون ردّ فعل حلف المقاومة تجاه العدو الصهيوني، والمضائق المائية التي يمر عبرها 40% من نفط العالم، ومصير القواعد الامريكية في جزيرة العرب وغيرها، ومصير قوات اليونيفل في جنوب لبنان حيث يتواجد ألآف الجنود الاتراك، والتطورات المحتملة في الساحة العراقية تجاه “مصالح” واشنطن وانقره وبقية عواصم العدوان المحتمل… اردوغان في المصيدة، اما أن يجرّ العالم بأسره الى حرب لا يريدها أحد، ولا يقدر الكثيرون على خوضها… أو سيسقط المشروع الذي مثّل اردوغان رأس الحربة فيه، وعليه أن ينتظر سيارة دبلوماسية لأحد السفارات لتقله الى خارج تركيا… أو سنستفيق قريباً على نبأ إنقلاب وقد أطاح به… أو أن “يد” ما ستساعد القدر على إرسال “الرجل المريض” إلى جهنم.

بانوراما الشرق الأوسط