السيمر / الثلاثاء 14 . 08 . 2018
د. رحيم الغرباوي
لكل نص أدبي بنى سيسيولوجية ثقافية مخزونة فيه بوصفه جهازاً يستطيع كل شخص منا أن يستخدمه كما يحلو له ، إنَّ هذا النمط من النقد يرى أنَّ الأثر الأدبي يشكل تتابعاً ممكناً من انفتاحات واحتياطات بوصفه خزائن لاتنفذ دلالاته وفي نفس الاتجاه تسير الأعمال التي تدور حول بنية الاستعارة وحول أنواع الغموض المختلفة التي يمنحها الخطاب الشعري (1) .
كما أنَّ لكلِّ شاعر حقيقي سواء أكان صوفيا أم سورياليا أم رومانسيا رمزياَ توقاً إلى عالم وراء العالم الأليف ولايتم ذلك إلا بشرطين , الأول : هو التخلص كلياً من المناخات التي تأسست من ظروف اجتماعية من أجل أن يكون نقياً بذاته , والآخر هو الانسياق على وفق هذا النقاء في مجاهيل اللغة والعالم , هكذا ترينا القصيدة ما لا نراه (2) , كما أنَّ الشعر هو دعوة ؛ لاستجابة الروح للقفز إلى عالمها المثالي الذي يمنحها الراحة ، لكن الوسيلة تقررها نوازع النور المفعم بألقه الجوهري المغروس في كل روح خرجت عن عالمها الدنيوي ؛ لترقى إلى عالم أرق شفافية وأكثر نقاء ؛ لذا فالكلمات التي يصوغها الشعور بأساليب سامية هي من توصلنا عبر فضاءاتها إلى ذلك العالم النقي الجليل .
والشعراء لهم عوالمهم وسبلهم التي ينفذون من خلالها إلى عالم الجوهر الأخاذ بوصفه عالماً مثالياً تستطيب له النفوس وتسكن على شراشفه الأرواح , فيسعى الشاعر للوصول إلى تلك المنطقة عبر وسائله المتظافرة لديه ؛ ليحقق من طريقها ما يختلجه من توق لهذا العالم الذي لايتوافق في كثير من الأحيان مع عالم الواقع الذي يعيشه .
والشاعرة عبير أحمد من الشاعرات اللاتي يمتلكن رؤية خاصة للحياة ، ولها وسائلها في الغور إلى تلك العوالم الجوهرية ؛ لتسبرها من خلال تطويع الرموز سواء أكانت أسطورية أم تاريخية ؛ لتعبِّر عن المعاني التي تحاول إيصالها إلى المتلقي ، فنراها تقول :
أيها الغجري ..اللون
أيها الشاهق الملامح
أيها السائح في دروب نيكال ربة إله القمر
ترنيمة البدء
كنت السباق دائما
اغرس لنا الحبق
اغرس لنا القناديل
عيناك …دليل
مازلنا ..هنا
ومازال في القلب بضعة للرحيل
فهي تأخذ من الغجري لونه , والغجري هو ذلك الذي يتطوف في البلدان بحثا عن رزقه … كما يمنحنا دلالة الفطرة ، بوصفه من يستعين بمهن فطرية لربما هي من عهود الأزل فيقتات من نتاجها ، كما وصفته بأنه شاهق الملامح ؛ للدلالة على الأنفة والكِبر والتحدي ، ويبدو أنها تومئ بذلك للرجولة ولسر فتوتها وقوتها لكن يبقى الرجل في منظارها أسير المرأة ، فهو أبدا يظل يسوح في دروبها ، وما نيكال إلا إلهة من آلهات القمر – وقد ذُكِرت آلهة القمر في الأساطير السومرية باسم أنيانا وهي من تهتم باشؤون لخصب والنماء – لذا كان الرجل هو السباق لانتظار ماتجود به إنيانا من بركات بعدما يقوم بزراعة المحاصيل وهو ينتظر نماءها من تلك البركات , فالحبق من النباتات التي تمثل الخصب والنماء , بينما القناديل فتومئ إلى الضياء الروحي والنفسي اللذين يبعثان الحب والطمأنينة ، أما العينان فجعلتهما دليل على التمسك بالهدف أم العكس ، وهما من تحكيان حقيقة صاحبهما إن كان صادقاً أم كاذباً . لكنها تشكُّ من أن هناك إخلاص ينعم به القائلون ، فما هو لدى مَن ترى إلا بحث عن نفع لايدوم .
أما قصيدتها ( العرَّافة ) التي تقول فيها :
هكذا
قالت عرافةٌ اعتبرتها حمقاء يوماَ
ستبوح العمائم
بما شدّت من تمائم
…
أيتها المرأة ،
سيلفظك الحب و البلاد
وتجوبين بلاد
سيلفظك حتى قلبك والمداد
ويعميك اليقين
وأنت تبحثين في يقين
ولعل العرافة هي من تقرأ الطالع , فقد وظفتها الشاعرة ؛ لتقرأ من خلالها المستقبل ، فحين تبوح العمائم ، والعمائم هي مقرونة بالتمائم التي تمثل رمزاً من رموز الغيب بوصفها السبيل لذلك العالم الميتافيزيقي ، معلنةً لها أنها تعيش حالة الوجع من طريق إقصائها , كما ستعيش الغربة عن بلدها ، لكنها في الوقت ذاته ستبحث عن اليقين الذي هي بحاجته بعدما يلفظها – أي يطرحها- الحب وكذلك البلاد وقلبها والمداد هكذا قالت لها العرافة ، لذلك أضاعت شاعرتنا الصواب وليس لها إلا البحث عنه ، ويبدو أن شاعرتنا تعيش الاضطهاد والقسر النفسي؛ نتيجة الظروف التي أطاحت ببلداننا العربية لاسيما بلدها سوريا ، وكأنها تحكي حال شعوبنا العربية
المظلومة ، والمهاجرين منهم .
ثم تقول :
.وأنا على أربعيني
لا تخبروا..أمي أني قد عميت
من شدة يقيني
وأني على الخذلان قددت
وقد ..ساح وتيني
وأني والمعنى حبيبان
لا يكونان
لا يلتقيان
أخبروا العرافة
إني عميت
ولم أتعود
ولا زلت ابحث في البلاد عن معنى يقيني .
إنه اليأس والقنوط في رحلة شاقة ، فُقِدت فيها البصيرة ؛ لأن الخذلان كان هو من أفقدها صوابها ، إذ لا ناصر لها ولا معين في بلاد غربت فيه حقائق الأمور وادلهمت به فُسح الأمنيات ، كونها تعيش الاغتراب المكاني الذي أضفى على
روحها اغترابا مضاعفاً . ويبدو أنَّ الشاعرة تحاول في نصها أن تتعامل مع استشرافات وقراءات روحية تتقدم بها الرؤية المتعالية بحدوسها الذهنية والجمالية التي تجاوزت حدود المنطق لاستشراف قراءة المجهول (3)
أما قصيدتها ( لون ) التي تقول فيها :
وهكذا
اغتالوها …
لونا …لونا
هلالا …..هلالا
وبعثروها …على جسد الليل
ودروب الغجر
فنبتت
أساور ..
وخلاخيل فضة .
والشاعر في أحيان تتوجس الانبعاث , كون الحياة قد أُنشئت على ذلك ، إذ لا تموت الحضارات ولا الأعمال الكبيرة حين تتعرض للاندثار ، فلابد يوماً أن تنبعث من جديد ، فالانبعاث لدى الشعراء يمثل رافداً من روافد الديمومة المطلقة ؛ كونه يجسد اليقظة بعد الموت أو الخمود , فقد كان الإنسان البدائي في ممارسته طقوسه الأولى يسعي إلى معانقة الحياة الأبدية بتأكيد حتمية الموت (4) ، ولهذا نجد شاعرتنا تشير إلى أجمل ما في الطبيعة وهما الألوان والأهلة مستعيرة كليهما لبلدها سوريا الذي اغتالته المؤامرات الخارجية الدنيئة , فتبعثرت تلك الأوصال الجميلة في دروب الليل وطرقات الغجر , كناية عن التشتيت والتمزق لأوصال بلدها بما فيه ابنائه لكنها بالتفاتةٍ رائعة تشير إلى انبعاث تلك الأوصال ؛ لتولد منها أساور وخلاخيلإيمانا منها بأنَّ بلادها سينبعث قويا معافى يزخر بالجمال كما كان من قبل. . .
نتمنى للشاعرة عبير أحمد مزيداً من الإبداع والتقدم في رحلتها الشعرية المباركة.
(1) الأثر المفتوح , أمبرتو إيكو : 24
(2) ينظر الصوفية والسوريالية : 210
(3) النبوءة في الشعر العربي الحديث دراسة ظاهراتية , د. رحيم
الغرباوي : 28
(4) ينظر أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ، ريتا
عوض : 133