الرئيسية / مقالات / الصين تكشف هشاشة القطب الواحد وتعيد تشكيل قواعد اللعبة الجيوسياسية

الصين تكشف هشاشة القطب الواحد وتعيد تشكيل قواعد اللعبة الجيوسياسية

فيينا / الثلاثاء  15. 04 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية

 نجاح محمد علي

في سياق الحرب التجارية التي نشبت بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، تقدم الرئيس ترامب كعادته بإعلان جديد خاص بالرسوم الجمركية الواردة من مزارع الصين بـ146% … ولكن للصين لعبة شطرنج جديدة قد لا تظهر ملامح عن سلاحها الاستراتيجي المعدن النادر. المعادن القابلة للاستهلاك مثل النيوديميوم، دوكبريكون، واللوتيتيوم، لها دور كبير بالسيطرة التكنولوجية. بداية من بطاريات السيارات الكهربائية، وحدات الكونترول المتطورة، سماعات الستيريو، وحتى ألواح الطاقة الشمسية، لا يوجد أغلب تلك التكنولوجيا الحديثة القابلة للعمل من دون رأس معالج ورقائق إلكترونية وهو السترك. بينما تبطشها عاصمة الدائرة الصينية تسيطر على أكثر من 90 بالمئة من تكريرها عالمياً، قد أصبحت تلك الأراضي ورقة ضغط بقواعد جديدة للصراع.
القصة بدأت خلال تسعينيات القرن الماضي حينما أدركت الصين أن احتياطياتها من المعادن النادرة والتي تشكل 30% من مخزون العالم هي ليست ثروة طبيعية فحسب، بل بوابة للسيطرة الجيوسياسية. في غضون عقدين، قامت الدولة بتحويل هذه الموارد إلى شبكة استراتيجية عبر ثلاث خطوات:

احتكار التكرير: بينما ركز العالم على الاستخراج، استثمرت الصين في تقنيات فصل المعادن، التي تعتبر الأصعب والأكثر تلويثًا. اليوم، حتى إذا استخرجت الولايات المتحدة أو أستراليا هذه المعادن، يجب أن تُرسل إلى الصين للتكرير. وفقًا لتقرير “ASIAN METALS”، تكلفة معالجة الطن الواحد في الصين لا تتجاوز نصف مثيلتها في الغرب، بفضل دعم حكومي خفي وتقنيات مُحسَّنة.
السيطرة على السلسلة الكاملة: من المنجم إلى الهاتف ، تمتلك الصين شركات مثل “China Northern Rare Earth Group” التي تتحكم في كل حلقة: التعدين، التكرير، التصنيع، وحتى إعادة التدوير. في 2022، أعلنت شركة “Xiamen Tungsten” عن ابتكار مغناطيس نيوديميوم يمكنه العمل في درجات حرارة تصل إلى 220 درجة مئوية، وهو إنجاز لم تتمكن منه شركة “أمريكان إيرمانت” الأمريكية إلا بنسبة 60% من الكفاءة.
تحويل التلوث إلى سلاح: قبلت الصين أن تتحمل 70% من التلوث العالمي الناتج عن تعدين هذه المعادن، وفقًا للأمم المتحدة. بينما أغلقت مناجم في كاليفورنيا بسبب تسرب إشعاعي، تسمح بكين بتعدين مكثف في منغوليا الداخلية، حيث تنتشر بحيرات سامة بحجم مدن كاملة. هذه “التضحية البيئية” – كما يصفها محللون غربيون – سمحت لها بإغراق الأسواق بأسعار أقل 40% من المنافسين، مما أفقد الآخرين الرغبة في الاستثمار.

عندما أدرك البيت الأبيض الخطر، كان الوقت قد فات. فمنجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا – الوحيد القادر على منافسة الصين – يحتاج إلى 15 عامًا لاستعادة كامل طاقته، وفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية. لكن المشكلة ليست في الاستخراج، بل في التكرير: فحتى إذا نجحت الولايات المتحدة في إنتاج 50 ألف طن من المعادن الخام سنويًا (وهو هدفها لعام 2030)، فإنها لا تملك مصفاة واحدة قادرة على تحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام.
المفارقة الأكثر إيلامًا واشنطن هي أن قوانينها البيئية أصبحت سلاحًا ضدها. فمعايير وكالة الحماية البيئية (EPA) تفرض حدودًا صارمة على النفايات المشعة، مما يجعل تشغيل منشآت التكرير غير مجدٍ اقتصاديًّا. بينما تستورد الصين النفايات من دول مثل ماليزيا وتعيد تدويرها بطرق رخيصة، رغم مخاطرها الصحية.
لم تكن آثار الحظر الصيني نظرية. ففي غضون أسبوع من قرار بكين حظر تصدير الساماريوم، أعلنت “تسلا” عن خفض إنتاجها بنسبة 18% بسبب نقص المغانط المستخدمة في محركات سياراتها. ووفقًا لتقرير داخلي في “لوكهيد مارتن”، فإن تأخر إمدادات الديسبروسيوم يعرقل إنتاج أنظمة التوجيه في مقاتلات F-35، التي تعتمد على مغناطيس صيني يمكنه تحمل الاهتزازات الشديدة دون فقدان المغناطيسية.
حتى أحلام أمريكا الخضراء تحطمت على صخرة التبعية. فمشاريع توربينات الرياح العملاقة في تكساس وكاليفورنيا تعتمد على مغانط صينية بنسبة 80%، وفقًا لمختبرات “ناشونال رينيوابل إنرجي”. وحتى لو أرادت واشنطن الاعتماد على اليابان أو أوروبا، فإن هذين الحليفين يستوردان 95% من احتياجاتهما من الصين أيضًا.
في محاولة يائسة، حوّلت واشنطن أنظارها إلى أوكرانيا، التي تملك احتياطيات تُقدَّر بـ20 مليون طن من المعادن النادرة. لكن الخطة اصطدمت بجدارين:
الهيمنة الروسية: تتحكم موسكو في 65% من البنية التحتية الأوكرانية القادرة على الاستخراج، وفقًا لتحليل مركز “RUSI” العسكري. حتى إذا انسحبت روسيا من شرق أوكرانيا، فإن شبكة السكك الحديدية والموانئ اللازمة لنقل الخامات تُدار عبر شركات روسية.
التحدي التكنولوجي: لا تمتلك أوكرانيا الخبرة أو التمويل لبناء منشآت التكرير، مما يعني أن أي معادن تُستخرج ستنتهي في مصافي الصين مجددًا.

في مفاجأة كشفت عمق الأزمة، وقّع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر 2023 اتفاقية سرية مع الصين لضمان حصص إمدادات مضمونة من المعادن النادرة لمدة 10 سنوات. وثيقة مسربة من المفوضية الأوروبية أشارت إلى أن الاتفاق يشترط نقل تكنولوجيا التكرير إلى دول مثل ألمانيا، لكن بكين رفضت، واقتصرت الصفقة على توريد المواد المكررة.
هذه الخطوة لم تكن فقط خيانة للتحالف الغربي، بل شكلت اعترافاً صريحًا بأن الصين أصبحت “المورد الوحيد الذي لا مهرب منه”.
في أكتوبر تشرين الأول 2023، أطلقت الصين قمرًا صناعيًا “فينغيون 5” باستخدام معادن نادرة مُكررة بالكامل محليًا، كرمز لقدرتها على الاكتفاء الذاتي. وفي نفس الأسبوع، كشف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” أن 95% من القبعات الحمراء التي تحمل شعار “اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا” تُصنع في مصنع صيني بمدينة دونغقوان، حيث يعمل العمال 12 ساعة يوميًا بأجر لا يتجاوز 3 دولارات في الساعة.
الرسالة واضحة: الصين لا تزوّد أمريكا بسلاح هزيمتها فحسب، بل حتى برموزها الوطنية.
بينما حقق المليارديرات مثل إيلون ماسك أرباحًا فورية من تقلبات الأسهم، دفع المواطن العالي الثمن:
ارتفاع سعر الهواتف الذكية بنسبة 22% بسبب نقص المعادن.
فقدان 120 ألف وظيفة في قطاع الطاقة المتجددة خلال 3 أشهر.
انهيار مؤشر S&P 500 بخسائر بلغت 11 تريليون دولار، أي ما يعادل 35 ألف دولار لكل مواطن.
حتى الكونغرس الأمريكي وقع في الفخ: تحقيق داخلي كشف أن 7 أعضاء جمهوريين اشتروا أسهمًا في شركات تعدين قبل إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية، ثم باعوها قبل الانهيار.
عموماً ، تشير الحقائق على الأرض إلى أن المعادن النادرة أصبحت الآن ورقة ضغط استراتيجية في الصراعات التجارية والجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين. في حين تواصل الصين الحفاظ على هيمنتها في إنتاج ومعالجة هذه الموارد الحيوية، تسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتأمين إمداداتها من خلال فرض رسوم جمركية وتشجيع التنويع في سلاسل التوريد. يبقى السؤال المفتوح هو: إلى أي مدى ستتمكن الولايات المتحدة والصين من تحقيق أهدافهما الاستراتيجية دون أن تتسبب تلك السياسات في اضطرابات غير مسبوقة في النظام الاقتصادي العالمي؟
فقد تاكد أن الحرب على المعادن النادرة لم تكن جولة تجارية، بل كشفت تحولًا جيوسياسيًا عميقًا:
القوة لم تعد بالجيوش وحدها: من يتحكم بالموارد الحيوية يملك تأثيرًا أعظم من حاملات الطائرات.
البيئة سلاح ذو حدين: التشدد البيئي الغربي كبّل قدراته، بينما استغلته الصين لتعزيز هيمنتها.
التحالفات هشة: عندما يتعارض البقاء مع المبادئ، تذوب الولاءات.
الصين اليوم لا تبيع المعادن، بل تبيع المستقبل. أما الغرب، فما زال يتجادل عمن يدفع فاتورة الماضي.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً