السيمر / الأربعاء 23 . 12 . 2015
سعد الشريف ـ الحجاز
الحقيقة الأولى التي لابد من تثبيتها قبل بدء أي نقاش حول موضوعات ذات صلة بالدولة هي أننا نتعامل مع نموذج دولة فاشلة على المستوى الوطني. بكلمات أخرى، أن الدولة السعودية من بين دول عربية أخرى أخفقت إخفاقاً ذريعاً في تطبيق سياسة إدماج وطنية تستهدف الانتقال من الدولة/السلطة الى الدولة الوطنية بكل الاشتراطات المطلوبة فيها. ولهذا السبب، تبدو أزمة الهوية، والتوترات الإجتماعية والسياسية والدينية، وعجز الدولة عن أن تكون ضامناً للحريات والحقوق، من إفرازات الفشل والشلل اللذين أصابا بنية الدولة حين قرّرت الطبقة الحاكمة فيها أن تقصر وظيفتها على حدود السلطة واحتكارها بدلاً من تأهيل الشروط الذاتية والموضوعية وصولاً الى بناء الدولة الوطنية..
وحين يأتي الكلام عن الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، لابد من مواجهة الحقيقة والمتمثلة في التالي: أن القوة المناهضة للإصلاح والتغيير ليست العائلة المالكة وحدها بل هناك قوى أخرى منها المؤسسة الدينية، ولكن القوة الأكبر تتمثل في المجتمع النجدي نفسه الذي ربط مصلحته ومصيره بدوام الاستبداد السعودي..وهذا ما يستوجب دراسة عميقة في طبيعة المجتمع والديناميات المحرّكة لقواها الإثنية والاقتصادية والسياسية، كوننا نتعامل مع مجتمع ذي طبيعة خاصة، أي بكلمات أخرى الحاضنة الشعبية للسلطة، وما تحتويه الحاضنة من اتجاهات فكرية ونزوعات مصلحية وتصوّرات سياسية وثقافية..
أثار مشهد العناصر المسلّحة بملابس مدنية وهي تغرس السكاكين في أجساد جمع من الزائرين من الاحساء والقطيف، بالمنطقة الشرقية، ذات الغالبية الشيعية، لمقبرة البقيع بالمدينة المنورة في الفترة ما بين 20 ـ 24 فبراير 2009 سؤالاً عن هوية العناصر المسلّحة التي كانت تضطلع بمهمة أمنية بكل إطمئنان. حينذاك، كان الحديث عن رجال أمن وعناصر في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في حقيقة الأمر، أن إجابة من هذا القبيل لم تحسم الجدل، لا سيما حين يتم استدعاء حوادث سابقة بما في ذلك حادثة مقتل الحجاج الايرانيين في مكة المكرمة في العام 1987. وقد كشفت إفادات شهود عيان عن مشاركة عناصر ترتدي لباساً مدنياً في رمي أحجار البناء من على أسطح العمارات على الحجّاج.
حوادث أخرى مماثلة جرت لاحقاً من بينها ملاحقة العمال الوافدين من جنسيات أفريقية وأثيوبية على وجه الخصوص في نوفمبر عام 2013، حيث كان مشهد الشباب بالملابس المدنية وهم يلاحقون الوافدين في شوارع الرياض يقترب الى حد كبير من مشهد المستوطنين في الضفة الغربية وهم يلاحقون الفلسطنيين والاعتداء عليهم.. أحدهم طالب بعدم نشر مقاطع الفيديو تلك وقال بأنها «دليل ضد السعوديه حكومه وشعب».
فيما نصح آخر بما نصّه: «لا يجوز تدخل الشباب والرجال في المصادمات بل تجاهلها واجتنابها والاحتساب». أحدهم يعلّق على مقطع فيديو نشر على اليوتيوب عن ملاحقة مواطنين لعمال آثيوبيين في شوارع الرياض بالقول (الشعب صار يشتغل عندكم ـ أي عند الشرطة ـ بلاكم ـ أي لماذا ـ ما تعطيهم رواتب). معلّق أخر شكر الشباب السعودي الذي شارك في المواجهات ضد الوافدين الاثيوبيين «كل من ساهم من شعب السعودي شكراً مليون ورب الكعبه الشعب أثبت أنه قوي ولايمكن أن يرضى بأن يحدث في بلدي مثل هذه الفوضى شكراً قد اثلجتم صدور الكثير». (عنوان المقطع: الأمن السعودي يقبض على 561 إثيوبياً في أعمال شغب جنوب الرياض 2013).
لم يكن انخراط هؤلاء العناصر الذين تكتفي المصادر بتعريفهم بـ «المواطنين» مجرد عمل تطوعي يمليه الواجب أو الشعور الوطني، فإن ثمة حالات مقابلة جرى التعامل معها بصرامة. على سبيل المثال، تشكيل اللجان الاهلية في مناطق الإحساء والدمام والقطيف لحماية المساجد ودور العبادة على خلفية العمليات الانتحارية التي وقعت في مسجدين بمدينة القديح والدمام بالمنطقة الشرقية خلال العام 2015. فبرغم من مطالبة أجهزة الأمن السعودية من الأهالي بالمساهمة في ضبط الأمن وتفتيش الزائرين والمصلّين الا أن أجهزة الأمن قامت بحملة اعتقالات واسعة وسط الأعضاء الفاعلين في اللجان الأهلية وفرضت عقوبات قاسية على الكثير منهم.
على أفق أرحب، تبدو المقاربة شديدة التعقيد لفهم اعتصام الطبقة السياسية بجماعة ذات مواصفات خاصة تمثّل حاضنة السلطة/الدولة، وقوتها الضاربة إجتماعياً، ولسان حالها حين المواجهات مع المجتمع. هي باختصار فئة من فئات المجتمع موكلة بالمهمات التي تتفادى السلطة القيام بها، ولكنها مهمات تستهدف في البدء والخاتمة تحقيق غايات السلطة. هي عقلها، ولسانها، وسلاحها، وجمهورها، وقاعدتها، وحين الحساب والعقاب تتحمل الغرم ولا تشارك سوى في جزء بسيط من الغنم.
منذ بدء التحالف التاريخي بين الشيخ والأمير في منتصف القرن الثامن عشر، كانت الحاجة الى تشكيل جماعة حاضنة مؤلفة من قبائل متعدّدة مرتبّة بحسب مستوى ولاء كل قبيلة لأهل السلطة بشقّيها الديني والسياسي. تبعثر الجماعة في لحظة ما نتيجة معارك وتصفيات داخلية كما حصل قبل إعلان الدولة السعودية أو حتى نتيجة قيام الدولة في العام 1932 وما تمليه من اشتراطات ترسيخ أسس الدولة وهيمنتها على الاقليم والسكان، أو حتى الصراعات السياسية التي تندلع بين العائلة المالكة وبعض المكوّنات النجدية كما حصل في قضية تنظيم (نجد الفتاة) التي تأسست في أواخر الخمسينيات وكان يجمع عدداً من الليبراليين النجديين أمثال عبد الله بن معمر، وفيصل الحجيلان، وناصر المنقور، ومحمد أبا الخيل، وقيل أن عبد الله الطريقي، وزير النفط الأسبق، كان ضمن المجموعة. وكان يطالب التنظيم بنصيب أكبر لنجد في السلطة، بالرغم من استئثاره بها، الا أنه طالب في إحدى مراحله بالحكم اللامركزي للضغط على الدولة كي يحتل بعض أفراده مناصب أعلى في الدولة.
وقد أثار إسم (نجد الفتاة) أسئلة حول دوافعه، كونه يصدر عن منطلقات مناطقية خالصة، ويتحدّر أفراد التنظيم من منطقة تحظى بامتيازات السلطة، ولها النصيب الأوفر في الجهاز البيروقراطي. ولكن «النجدّية» هنا تعكس تجاذباً داخل مجتمع السلطة، أي المجتمع النجدي، حيث يسعى كل تيار للحصول على حصة وازنة في الدولة، فالتنافس يبقى محصوراً داخل نجد (الإقليم والسكّان) على حساب بقية المناطق.
لقد نجح تنظيم (نجد الفتاة) في تحقيق مطالب أفراده، الذين تمّ دمجهم في تركيبة السلطة. وبالرغم من أن التنظيم لم يعد موجوداً بصفته المادية الا أنه بقي فكرة فاعلة وتوجّهاً ثقافياً واجتماعياً في نجد حيث ينحصر التنافس على السلطة في المحيط النجدي، وتناضل التيارات السياسية والثقافية النجدية من أجل الحصول على مواقع فاعلة في هيكلية السلطة.
وعلى المستوى الوطني، يتحوّل المجتمع النجدي بكل تياراته قوة حمائية للنظام السعودي، يشاركه في هواجسه ومصالحه ومخاطره. يرفض الإصلاح على المستوى الوطني تماماً كما يرفض النظام السعودي ذلك. وهو على استعداد للنزول للشارع إن تطلب الأمر من أجل إجهاض أي حراك شعبي يطالب بالإصلاح والتغيير..
الصراع داخل نجد على تقاسم النفوذ بين القبائل والمناطق له قصة أخرى ذات خصوصية نجدية خالصة. فمنذ تولي الملك خالد العرش سنة 1975 وحتى وفاة الملك فهد العام 2005 كانت الغلبة لمنطقة القصيم، وفي عهد الملك عبد الله (2005 ـ 2015) أصبحت لمنطقتي سدير وشقرا الأفضلية بفضل الدور الذي لعبه خالد التويجري، مستشار الملك عبد الله. ومنذ تولي سلمان العرش في يناير 2015 استعادت منطقة القصيم مكانتها المتميّزة في الجهاز البيروقراطي للدولة..
بدا المجتمع النجدي أثيراً لدى السلطة السياسية، وفي الوقت نفسه منفصلاً من الناحية النفسية والطبقية عن بقية المكوّنات السكانية، فهو يرى نفسه صانع الدولة وله وفق هذه المنجز حق صوغ هويتها، وثقافتها، وتشكيل نظامها السياسي، وتحديد مساراتها الاستراتيجية، وحسم خياراتها..
في المقابل، كان أمراء آل سعود حريصين على إبقاء المجتمع النجدي متماسكاً يحافظ على ولائه لهم، ويشكّل قاعدتهم الشعبية، ويدرء عنهم الأخطار التي قد تحدق بهم من المناطق الأخرى أو من الخارج..
مصالح متبادلة تجعل العائلة المالكة والمجتمع النجدي في انسجام دائم أو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ «انسجام الضرورة»، وإن تعزيز فكرة المصير المشترك لدى الطرفين يجعل من التحالف حتمياً، لأن أي صدع في جدار التحالف يعني تعرّض المصالح المشتركة لخطر الزوال.
الزيارات التي يقوم بها أمراء آل سعود لزعماء القبائل، ولرجال الدين، وللبيوتات الكبيرة، والشخصيات النافذة في المجتمع النجدي تفوق بمئات الأضعاف زياراتهم لمناطق أخرى.
نظام «الشرهات» لم يصمّم منذ بداية تأسيس الدولة السعودية الا للقائل النجدية، ومازال هذا النظام سارياً للحفاظ على ولاءات القبائل، وما فتحت مجالس الأمراء أبوابها إلا لاستقبال رجال القبائل النجدية من أجل الحصول على «الشرهات»، ولا تجد من غير القبائل النجدية سواء تلك التي تعيش في نجد أو التي انتقلت الى مناطق أخرى ولكن حافظت على صلاتها مع المركز من يرتاد تلك المجالس..
نجحت الطبقة الحاكمة في المملكة السعودية في إدماج القبائل في نظام المصالح الخاصة بها، بما جعلها تفكّر وتتصرف وفق هذا النظام، فصارت ترى في السلطة امتيازاً خاصاً بالمسكونية النجدية، وصار التنافس يقتصر على نجد وبلدانها، فيما راحوا يستأثرون بالمناصب القيادية (باستثناء تلك المناصب السيادية المخصّصة لآل سعود)، ولا سيما الوزارات الخدمية..وكان يتم ذلك على حساب بقية المكوّنات السكانية والمناطقية.
وراح زعماء القبائل يقتفون سيرة آل سعود في النظرة الى الفئات الاجتماعية الأخرى خارج نجد، وفي صنع التحالفات مع القبائل الأخرى، وفي احتكار السلطة على أي مستوى. واكتسبت قبائل نجد خصائص العائلة المالكة في تحديد مواقفها بحسب مصالحها، وبناء على ذلك ترسم كل قبيلة تحالفاتها وفق المصلحة.
لم يكن (عدم تكافؤ النسب) على سبيل المثال سوى إحدى تظهيرات النزعة القبلية العميقة في القبائل النجدية، والتي تترجم جانباً من العصبية في بعدها العنصري أي القائمة على التفوّق العنصري في دولة لم تكتمل شروطها الوطنية وما تمليه من ترجيح مبدأ المواطنة والمساواة في مقابل قيم ما قبل الدولة والمجتمع البدائي القبلي..
يتصرف المجتمع النجدي بملء إرادة أهل الحكم، يرتدي الزي الذي يقرّره الأمراء، ويعتنق المواقف بحسب ما تشتهيه القيادة السعودية في مرحلة ما، ويعتنق نقيضها في مرحلة لاحقة..ولا ضير في ذلك، طالما ان المصلحة المتبادلة تقتضى ذلك..
يتبنى حروب النظام في سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان، كما يتبنى خصوماته السياسية والمذهبية مع ايران وحزب الله والشيعة، والصوفية وحتى على المستوى الدولي يصبح خصوم النظام خصوم المجتمع النجدي مثل روسيا والصين وفنزويلا وغيرها..
في مواقع التواصل الاجتماعي، ينفر النجديون خفافاً وثقالاً في الدفاع عن مواقف ال سعود. يعملون كجيش الكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى وجه الخصوص (تويتر)، وينظّمون حملات (سبام) ضد خصوم آل سعود. لا يتورّعون عن استخدام قاموس الشتائم بكل مفراداته، ويضعون صور الملك وأمراء آل سعود في (الملف الشخصي).
وفي المجال الاعلامي، يسيطر أفراد من المجتمع النجدي على وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، ويؤدّون فريضة موحدة في الولاء والطاعة لولاة الأمر والخصومة لكل من سواهم..أصدقاء آل سعود أصدقاء لهم، وخصومهم خصوم لهم..
وفي المجال الديني، يسيطر رجال الدين من المجتمع النجدي على مائة ألف مسجد ومصلى في أرجاء المملكة. يمسكون بجهاز التوجيه الديني، خطابة وتعليماً. هم في المدرسة، والمسجد، والجامعة، والمخيمات الصيفية، والمراكز الدعوية، والبعثات التبليغية..لا يخرج الدعاة من ذوي الصوت المرتفع، والصيت الواسع الا من المجتمع النجدي، فيما ينال رجال الدين من المذاهب الأخرى فتاوى التكفير والتبديع من المؤسسة الدينية والقمع والتنكيل من المؤسسة السياسية/الأمنية..
في ملعب السلطة، يتحوّل المجتمع النجدي الى لاعب وحيد، ويرفض شركاء له يتقاسمون معه ذات الأدوار ويجنون أرباحاً متساوية، فهو لا يزال يستند الى خلفية تاريخية تقوم على فكرة الغلبة. ليس أمراء آل سعود وحدهم من يتبجّحون بالقول: «ملكناها بالسيف الأملح»، وهي عبارة يطلقونها ضد المكوّنات السكانية كافة بما في ذلك المكوّن النجدي، وفي الوقت نفسه هناك كثيرون في نجد يردّدون العبارة نفسها في مقابل بقية المكوّنات السكانية والمناطقية.
في المجتمع المدني تصبح المفاضلة في شغل المناصب ذات طبيعة تراتبية بحسب قرب كل قبيلة وولائها للعائلة المالكة، وتخرج من المفاضلة بقية المناطق.. ومن المفارقات اللافتة أن الدعوة الوهابية لم تخفف من النزوع العنصري لدى المجتمع النجدي خصوصاً القبلي منه، بل أضفت عليه طابعاً دينياً، ومنحته مبرراَ إضافياً نحو احتكار السلطة وتركيزها، لأن ذلك بات جزءاً من مهمة دينية، فأصبحت الوهابية نفسها أيديولوجية مشرعنة للسيطرة والنفوذ القبلي، فاليد العليا تصبح لمن يعتنق التعاليم الوهابية دون سواها من العقائد..فأصبحت نجد حاضنة للسلطة والعقيدة ولمجمع القبائل المتحالفة ما جعلها تتمتع بامتيازات «الصفوة» الغالبة و«الشعب المختار».
لتوضيح ذلك في مثال، فقد كان الشيخ صالح اللحيدان يشغل منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى في الفترة ما بين 1992 ـ 2009، وكان متحالفاً مع الخضيريين (أي أولئك الذين لم تعد القبيلة تشكل هوية وملاذاً نهائياً لهم)، وكان يعيّن منهم قضاة ودعاة ورؤساء محاكم، ولكّن في الوقت نفسه وقف بقوة إلى جانب مسألة كفاءة النسب، ورفض التزاوج بين الخضيري والقبيلي على قاعدة أن القبيلي أشرف نسباً من الخضيري وهو ليس بكفء للمصاهرة.
في تطبيق ما سبق على مشايخ الوهابية في الإطار المناطقي، فثمة تفاضل في المستوى السياسي والاداري بين مشايخ نجد ونظرائهم من مناطق أخرى. فبينما يحظى مشايخ مثل ابن عثيمين والفوزان والعريفي والعودة وآل الشيخ عموماً بمكاسب سياسية ودينية وإجتماعية، لا ينعم مشايخ وهابيون آخرون من جنوب المملكة على سبيل المثال مثل سفر الحوالي وسعيد بن مسفر وعائض القرني بنفس المكاسب. في ذروة النشاط الحراك الصحوي في بداية التسعينيات من القرن الماضي واجه الشيخ عائض القرني حملة تشويه منظّمة من الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير حينذاك، وفريقه ما دفعه الى اللجوء الى المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز للإحتماء به والدفاع عنه، وتوسّط الأخير لدى الملك فهد من أجل درء ما يدّبره له خالد الفيصل.
وفي النهاية، صدر قرار بإخراج الشيخ عايض القرني من عسير الى القصيم ومنعه من مزاولة أي نشاط دعوي، وتمّ اعتقاله في وقت لاحق مع مشايخ الصحوة الآخرين ثم تخلى القرني عن نشاطه الاحتجاجي وبدا متصالحاً مع السلطة..
ثمة وزارات مثل العدل والشؤون الاسلامية والحج والمؤسسات ذات الصلة بالدين والدعوة باتت حكراً على العنصر الوهابي النجدي القبلي، وإن من حالفه الحظ من مشايخ الوهابية من خارج نجد في الحصول على منصب ما في هذه الوزارات فإنه يكون قد حظي بدعم أو تزكية من رموز دينية وقبلية نجديّة، فيما تبقى مناصب مثل وزير العدل ووزير الشؤون الإسلامية ووزير الحج والمفتي العام من نصيب القبائل النجدية المقرّبة من العائلة المالكة.
وقد بات التحدّر النجدي بكل متوالياته (المذهب والاقليم والقبيلة) من أدوات التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني. أدوات كفيلة بتوفير حصانة للفرد النجدي إزاء سياسات التمييز التي تتبعها الدولة ضد بقية المكوّنات، بل الأخطر أن تجعله الأوفر حظاً في كل الامتيازات المرصودة لمكوّن سكاني بخصائصه النجديّة.
في ضوء ما سبق، بات للمكوّنات النجدية: رجل القبيلة، رجل الدين، رجل السلطة، وجاهة خاصة، فقد تحوّلوا الى معابر لبقية المكوّنات يزكّون، ويتوسّطون، ويتشفّعون. على سبيل المثال، كان الشيخان عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح بن عثيمين يمنحان بعض طلبة العلم شهادة تزكية تخوّلهم الحصول على نفوذ إجتماعي وديني وإداري. وكانا إبن باز وابن عثيمين يمارسان دور الرقابة على التزام طلبة العلم بالعقيدة السلفية الأصلية بحسب فهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولذلك، فرض بن باز وابن عثيمين من نفسهما مرجعية نهائية للعقيدة الوهابية حتى مع وجود مشايخ محقّقين ولهم علو كعب في العلوم الشرعية مثل الشيخ ناصر الدين الالباني والشيخ أبو بكر الجزائري وغيرهما.. في حقيقة الأمر، أن السلطة السياسية أرادت أن تبقى المرجعية الدينية في البلاد تحت مشايخ نجد..
كان مشايخ نجد يتصرّفون بكونهم جزءً من السلطة العليا للدولة، ولذلك كان خطابهم مستمداً من تصوّرهم لأنفسهم في سياق الدولة التي يعدّون أنفسهم جزءً منها.
ما يلفت، أن تصوّر مشايخ الدين في نجد عن بقية المكوّنات السكانية والمناطق الأخرى من المملكة لا يختلف كثيراً عن تصوّر أهل الحكم من آل سعود، وهو بالضرورة ذات التصوّر لدى المجتمع النجدي بصورة عامة. على سبيل المثال، بقيت صورة الحجاز في التصوّر النجدي بكونه مكاناً للشركيات والتصوّف البدعي وهذا ما ظهر في فتاوى تكفير الراحل السيد محمد علوي المالكي زعيم الصوفية في الحجاز. لقد بدا واضحاً من مواصلة استخدام الخطاب التكفيري هو إبقاء مشروعية السيطرة على الحجاز، وكذا بقية المناطق التي لم يكف مشايخ نجد عن تكفيرها بصورة وأخرى، قائمة، وبالتالي تبرير قهرها وإخضاعها والتمييز ضدها. عبارات التمييز لم تعد خافية، فقد تأخذ تارة طابعاً دينياً (كفّار، مبتدعة، مشركون، رافضة)، وتارة يأخذ بعداً عنصرياً (طرش بحر، بقايا حجاج..)، وفي بعض الحالات يكتسب طابعاً طبقياً مثل (07) في إشارة الى موقع أهل نجران في السلم الطبقي الاجتماعي (stratum). وهذه التصنّيفات بطوابعها الدينية والعنصرية والطبقية تعكس بأمانة ودقّة فائقة المركزية النجدية. فمن نجد تصدر هذه التصوّرات عن الشركاء الافتراضيين في الوطن، وللمرء أن يتخيّل طبيعة التعايش أو بالأحرى اللاتعايش القائم بفعل الحواجز النفسية التي تقيمها مثل هذه التصوّرات وتحول دون تحقيق مبدأ الدولة الوطنية..
في نجد، رجل الدين، والكاتب والصحافي والناشط والمبلّغ يمارسون حريتهم في النقد في أقصى وأقسى أشكاله ضد الآخرين، من المكوّنات السكانية والمناطقية الأخرى، وليس لهؤلاء ـ الآخرين حق الرد والدفاع عن أنفسهم. وتفسير ذلك وببساطة شديدة أن هؤلاء «النجادة» هم مجتمع السلطة، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من بقية أفراد الشعب..حين يصنّف الشيخ ناصر العمر رسالة بعنوان (واقع الرافضة في بلاد التوحيد)، وتصدر الفتاوى التكفيرية من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء ضد السيد محمد علوي المالكي، ويكتب صحافيون مثل سلمان الدوسري، رئيس تحرير «الاقتصادية» سابقاً، ضد بلدة العوامية ويحرّض ضد رجال الدين الشيعة مثل الشيخ حسن الصفار، ومثله ناصر القفاري ومقالته في صحيفة (اليوم) بعنوان (عودة الغزو الباطني) وما تحمله من عبارات كراهية ضد الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية من المملكة، ومقالات وفتاوى ضد الشيعة الاسماعيلية في الجنوب والصوفية في الحجاز..
لا يمكن أن تصدر هكذا لمجرد وجود مساحة من حرية التعبير تسمح للجميع بأن يمارس حقه بالتساوي، والحال أن مجتمع السلطة (أي المجتمع النجدي) يمارس الحرية من طرف واحد في مقابل بقية المكوّنات، ولذلك تأتي لغته متطابقة مع رغبة السلطة السياسية، فرجل الدين، والكاتب والصحافي والمثقف يصدرون عن رؤية واحدة وموقف واحد: الدفاع عن الذات السلطوية..وبالتالي فإن خصوم السلطة خصومهم وأصدقاؤها أصدقاؤهم. وهذا ما يثير استغراب هؤلاء كيف يتبنى بقية أفراد الشعب مواقف غير التي تتبناها السلطة، وتفسير ذلك أنهم ليسوا مجتمع السلطة وبالتالي لا مصلحة متبادلة بينها وبينهم. والأمر الآخر، إن بروز المصلحة كعنصر حاسم في تحديد المواقف لا يقلّل من أهمية العامل المبدئي الذي يلعب هو الآخر دوراً مؤثراً في مواقف الأفراد والجماعات. في النتائج، ليس تطابق المواقف نابعاً بالضرورة من وجود مصلحة مشتركة، ولا تباينها نابع من مصالح متباينة فقد تكون المبادىء مختلفة..
حين يتعلق الأمر بالسلطة في المملكة السعودية نكون أمام دائرتين: دائرة نجد، ودائرة بقية المناطق. في الدائرة النجدية تبدو قوانين اللعبة وقواعد الاشتباك على درجة كبيرة من الخصوصية، ويتصرف كل الأفراد داخل الدائرة بأنهم أولياء الأمر، وأهل الحكم، وصانعو المنجز.
نظرتهم لذواتهم مشوبة بالزهو والإحساس بالتفوق على من سواهم. في الوقت نفسه، قد يخوض الأفراد داخل الدائرة النجدية صراعات على السلطة (نجد الفتاة مثالاً)، وقد يحمل بعضهم تصوّرات ذات طبيعة عنصرية إزاء البعض الآخر، ولربما يرى بعض النجديين بأنه أولى ببعض المكاسب من البعض الآخر، وكل ذلك لا يغيّر من حقيقة كونهم يتفقون على النظرة الاستعلائية إزاء كل من هم خارج الدائرة النجدية..
يبدو التنافس على المناصب الوزارية والادارية بشقيها العسكري والمدني شرساً بين الأفراد داخل الدائرة النجدية، محثوثين في الغالب بنزعات قبلية. ولكن في الدائرة الكبرى، أي داخل حدود المملكة السعودية يصبح التنافس قائماً على قاعدة: نجدي ـ غير نجدي، بخلاف ما هو عليه الحال داخل الدائرة النجدية حيث يكون التنافس محكوماً بقواعد أخرى على صلة بطبيعة التحالفات القائمة وقوة حضور القبيلة وقربها من العائلة المالكة..
التنافس داخل الدائرة النجدية بات جزءً من الحياة اليومية للأفراد، شاءوا ذلك أم أبوا، وليسوا بحاجة لأن يعبّروا عنه بلغة مباشرة فهو ينعكس في السلوك الفردي والجماعي وأنماط العلاقة الاجتماعية، وطرق التعاطي اليومي، لينبسط بعد ذلك في شكل السكن، ونوع اللباس وطريقة الكلام وحتى تقاليد الضيافة والمناسبات الاجتماعية..
لا يخلو الأمر أحياناً من حالات تذمر لدى بعض الأفراد داخل الدائرة النجدية من الذين تلقوا تعليماً حديثاً وخضعوا تحت تأثير الانفتاح الثقافي والحضاري على الخارج. وغالباً ما يتم العمل على احتواء الحالات من خلال تحفيز المخاطر المحدقة بأفراد الدائرة النجدية، وهذا ما تقوم به العوائل النجدية، والمؤسسة الدينية النجدية، بل وحتى المؤسسة السياسية تفعل ذلك للحيلولة دون نشوء إتجاه نجدي حديث يتمرد على التميّز النجدي في مقابل المكوّنات الأخرى.
تلجأ السلطة عادة الى عوامل التخويف والتهويل من إمكانية انتقام المكوّنات الأخرى لما أصابها من حيف وحرمان على مدى عقود طويلة (الحجاز والمنطقة الشرقية على وجه الخصوص). ومن أجل الإبقاء على الشعور بالتفوق النجدي يتم غرس تصوّرات عنصرية ودونية عن المناطق الأخرى بما يجعل سكّانها غير جديرين بالمساواة مع سكّان نجد.
في المقابل، هناك من خارج الدائرة النجدية من يحاول الاندماج فيها طمعاً في الحصول على جزء من الكعكة، وقد يبالغ هؤلاء في الولاء للسلطة، ويظهرون مواقف تبدو أقرب الى المزايدات منها الى المواقف الحقيقية. وبمرور الوقت، يصبح هؤلاء الأفراد جزءً من الدائرة النجدية لا على سبيل الأصالة وإنما لكونهم قد خضعوا لفترة اختبار طويلة في ولائهم للسلطة ولامتلاكهم كفاءة ما تميّزهم عن غيرهم ما يجعلهم محاربين بالنيابة عن السلطة النجدية. للتوضيح، إن كان هذا القادم الى الدائرة النجدية من الحجاز، على سبيل المثال لا الحصر، فهو لا يعزّز موقع الحجاز في الدائرة النجدية وإنما يتحوّل هو الى أحد المساهمين في تعزيز الدائرة النجدية، وينسحب ذلك على بقية الأفراد من الدوائر الأخرى..
في مواجهة سياسات التمييز بطابعها النجدي ضد بقية المكوّنات يلوذ الأفراد غير النجديين بهويات تصالحية تنجيهم من غلواء التمييز أو تسمح لهم بالاندماج ولو نفسياً مع شريكهم النجدي الماسك بزمام السلطة. فالجنوبي المتّهم بانتمائه لمذاهب باطنية يعرّف نفسه بالوهابي، والشيعي المتّهم في مذهبه الإثني عشري يعرّف نفسه بهويته الإسلامية العامة، والحجازي الذي تحيط به شكوك حول أصوله الأجنبية يؤكّد هويته الوطنية السعودية..
هناك قبائل نجديّة تصنّف بأنها موالية لآل سعود ومنها (آل الشيخ، السديري، التويجري، الزامل، العنقري، العطيشان، الراجحي، الفوزان وغيرهم كثير).. وهذه القبائل تحالفت مع آل سعود في حروبهم ضد المناطق الأخرى، وكان لهم احتكار السلطة والثروة، ويهيمن أبناؤهم على المناصب الادارية والوزارية. وهؤلاء من يعارض أي زحزحة أو تغيير في معادلة السلطة كونهم الخاسرين الأكبر من عملية التغيير، ولذلك يرفضون الاصلاح والتحوّل الديمقراطي لأنه قد يؤدي الى إضعاف مواقعهم في خارطة السلطة والهبوط بهم الى مدارك متدنية في السلم الاجتماعي.
في بريدة على سبيل المثال، يتم توزيع منح الأراضي بحسب هوية الأفراد، فهناك مخططات قريبة من مركز المدينة تخصّص لأبناء القبائل المعروفة، وهناك مخطّطات أراضي بعيدة تمنح لمواطنين من قبائل غير ذات شأن أو من أصول أفريقية، وتكون المخططات إما في سفوح الجبال، أو في بطون الأودية أو أماكن نائية. وما يقال عن بريدة ينسحب على بلدان أخرى
ربطت القبائل النجدية نفسها بعنصّرين: العروبة والاسلام، فكانت مدعيات القبائل تنزع نحو ربط أنفسها بالجذور الأصلية للعرب، في مقابل بقية المكوّنات التي ينظرون اليها بكونها من أخلاط لا تنتمي بالضرورة أو بالأحرى لا توصل الى الجذور العربية. وأيضاً، ربطت نفسها بالإسلام وفق التفسير السلفي الوهابي لتؤكد على احتكارها لحق تمثيل الاسلام وتالياً الحصول على كل ما يمنحه الإسلام لمعتنقيه من سلطة ووجاهة ومكانة..والأهم القيادة.
للمجتمع النجدي روايته الخاصة في الاسلام، ووقائع التاريخ، والرؤية الكونية، وله أيضاً أدوات تحليل مستمدة من فهمه للأشياء. يبدو العقل الجمعي المنبثق من رؤيته لذاته السلطوية جامداً الى حد أن تفسير الوقائع القديمة والحديثة لا يعتمد على مجهود فردي بقدر ما هو حصيلة تواطؤ جمعي أو بالأحرى استعارة لفهم علوي يتنزل الى بقية الأفراد ليصبح عقيدة جمعية. استقالة المجتمع النجدي لاتعبّر عن نفسها بمجرد اعتناق مواقف موحّدة بل تنبسط لتستوعب الأفهام، والتصوّرات، ومنهج البحث، بحيث أمكن رؤية أوركسترا مجتمعية تعزف لحناً موحّداً.
نتوقف هنا عند مثالين يحملان دلالات بالغة الأهمية والخطورة على هيمنة جناح الرياض على المؤسسة الدينية وتبعاتها السياسية والفكرية والاجتماعية:
ـ فتوى صدرت من المفتي العام للمملكة الشيخ محمد بن ابراهيم بحق رجل الدين الشيعي وقاضي المحكمة الجعفرية في القطيف الشيخ عبد الله الخنيزي. وقد جاء في فتوى رقم 181 بعنوان (محاكمة داعية للرفض بالقتل). وهي عبارة عن رسالة رفعها الشيخ بن ابرهيم الى الأمير فيصل، ولي العهد ونائب الملك سعود حينذاك، جاء فيها:
أشير إلى خطاب سموكم رقم 13830 تاريخ 8-7-1381هـ القاضي بالموافقة على تعيين الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن رشيد والشيخ محمد بن عودة للجلوس لمحاكمة عبدالله الخنيزي. ونعرض لسموكم أَن المذكورين أَنهوا مهمتهم واتخذوا بصددها القرار المرفق.
والذي أَراه أَنه يسوغ قتل هذا الخبيث تعزيراً، لأَن ما أَبداه رأْس فتنة أن قطع خمدت وإن تسوهل في شأْنه عادت بأَفظع من هذا الكتاب من بدعة هذه الطائفة من صاحب هذا الكتاب أَو من غيره. وقتل مثل هذا تعزيراً إذا رآه الإمام ردع للمفسدين وحسم لمادة البدعة وسد لهذا الباب. فإن قضية هذا الرجل هي أَول واحدة من نوعها، وهذه النابغة تمس مئاخذ المسلمين وحججهم، والقدح فيها تسبب في إسقاط حجيتها وساطع برهانها.
فإن الذي لدى المسلمين في معتقداتهم وعاداتهم ومعاملاتهم وفروجهم وأحكام دمائهم ومستند ما يحكمون به في محاكمهم أَصلان عظيمان وكل أَصل سواهما راجع إليهما ومستمد منهما. الا وهما الكتاب والسنة لا طريق لهما إلينا إلا من طريق أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فشا الطعن في جنسهم زالت الثقة، ووجد أَخصام الاسلام ثغرة منها يتخذون سلطة على أَهل الاسلام.
والله يحفظم ويتولاكم وينصر بكم دينه ويجعلكم السور الحصين على هذا الدين واليزك الغيور على صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ص-م-1918 في 24-7-81هـ).
ـ فتوى رقم (4468 – بشأن مراقبة ما يصدر من المكتبات ودور النشر) من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أمين المكتبة القطرية بالاحساء يوسف بن راشد آل مبارك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
إشارة لخطابكم رقم 110 وتاريخ 6/4/1386هـ بشأن طلبكم إصدار الأمر إلى الجهة المختصة بالأذن لما يصدر من مكتبة الشيخ علي آل ثاني بالاحساء إلى خارج المملكة تحت ختم المكتبة القطرية. الخ.
والجواب: نحن نقدر للشيخ علي آل ثاني غيرته الدينية وهمته العالية في طبع الكتب النافعة وتوزيعها على طلبة العلم.
أما بالنسبة لمراقبة ما يصدر عن المكتبة القطرية بالأحساء فأمر لابد منه أسوة بغيرها من المكتبات ودور النشر في كافة أنحاء المملكة، هذا والله يحفظكم والسلام. (مفتي الديار السعودية (ص/ف 2873/1 في 12/10/1386).
من طبيعة المجتمعات المقلّدة ليست إبداعية في حركتها الفكرية والاجتماعية، كونها أسيرة لقرار السلطة، بالمعنى المضطّرد للكلمة. فما يقرّره رجل الحكم، ورجل الدين، وزعيم القبيلة يصبح مقدّساً ونهائياً لا يجوز المساس به أو إخضاعه للفحص.
الصراع المكاني داخل الإقليم النجدي له دور مؤثّر، ولعل أبرز تظهيراته هو التنافس المحتدم بين جماعتي القصيم والرياض على مراكز النفوذ. جناح القصيم المتمثل في الشيخ صالح اللحيدان، الرئيس السابق لمجلس القضاء الاعلى والذي استعاد موقعه في عهد سلمان بعد أن جرى تهميشه في عهد الملك عبد الله ما أثار غضبه خصوصاً تعيين عشرين إمرأة في مجلس الشورى، وقيل حينذاك أن الملك عبد الله لم يشركه في مشاوراته مع هيئة كبار العلماء، ويضاف اليه الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وكان معهما الشيخ إبن عثيمين، الى جانب الشيخ المتشدّد عبد الرحمن البرّاك، وعبد العزيز الفوزان، في مقابل جناح الرياض المتمثل في آل الشيخ، وآل باز، والعبيكان..وهذا الجنّاح يسيطر على المناصب الدينية العليا مثل (المفتي العام، رئيس هيئة كبار العلماء. ولكن مع تولي سلمان العرش نقل وزارة العدل الى شخص من القصيم، وتحديداً من بريدة الدواسر وليد الصمعاني، وهي المرة الأولى التي يتولى فيها شخص من خارج العوائل المعروفة وصغير السن نسبياً (مواليد 1398هـ/1978)، وأبقى وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف الدعوة والارشاد في بيت آل الشيخ، حيث عيّن سلمان الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزيراً عليها.
ويمكن أن نلحظ بأن جناح الرياض في المؤسسة الدينية الوهابية كان أكثر تسييساً من جناح القصيم، الذي كان منغمساً في تقديم الآراء الدينية المتشدّدة وفق المنهج الوهابي. في فقد استعان فيصل على أخيه سعود بالمفتي العام آنذاك الشيخ محمد بن ابراهيم الذي انحاز الى جانب فيصل وأعلن في 1 نوفمبر 1964 خلع الملك سعود عن الحكم، وفي اليوم التالي بويع فيصل ملكاً.
وحين اندلع الخلاف بين آل سعود والزعيم المصري جمال عبد الناصر، وقف علماء المؤسسة الدينية من جناح الرياض الى جانب السلطة، وأصدر المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى بحرمة الاستعانة بالقوات الكافرة حتى في حال الضرورة، في سياق الرد على قرار عبد الناصر الاستعانة بالخبراء الروس، وسجّل هذه الفتوى في كتابه (نقد القومية العربية). ولكن في أزمة الخليج الثانية سنة 1990 ـ 1991، أصدر الشيخ بن باز فتوى بجواز استقدام قوات أجنبية للدفاع عن المملكة السعودية. وقال بأن ذلك جائز للضرورة. وقد تبعه في حكم الجواز بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، وسجّل بن عثيمين تحفظاً بحسب فتوى (مجموع فتاوى ابن عثيمين (3/41)، إذ سئل عن حكم استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية؟
فأجاب ما نصّه: “استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية أخشى أن يكون من المشاقة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث صح عنه كما في صحيح البخاري أنه قال في مرض موته: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وفي صحيح مسلم أنه قال: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً). لكن استقدامهم للحاجة إليهم بحيث لا نجد مسلماً يقوم بتلك الحاجة جائز بشرط أن لا يمنحوا إقامة مطلقة.
وحيث قلنا: جائز، فإنه إن ترتب على استقدامهم مفاسد دينية في العقيدة أو الأخلاق صار حراماً، لأن الجائز إذا ترتب عليه مفسدة صار محرماً تحريم الوسائل كما هو معلوم. ومن المفاسد المترتبة على ذلك: ما يخشى من محبتهم، والرضا بما هم عليه من الكفر، وذهاب الغيرة الدينية بمخالطتهم..”.
ونذكر على سبيل المثال محاولات زعيم القاعدة أسامة بن لادن لجهة إقناع مشايخ القصيم برفض استقدام قوات أميركية الى السعودية وعرض عليهم مقترح تحرير الكويت عبر اعلان الجهاد على الطريقة الافغانية، وهي فكرة رفضها الملك فهد كما رفضها الشيخ بن باز. توجّه بن لادن الى الشيخ بن عثيمين وعرض عليه الفكرة ووافقه عليها ولكنّه لم يجرؤ على إصدار فتوى بذلك خصوصاً وقد سبقه بن باز بفتوى تجيز استقدام القوات الأجنبية (الكافرة بحسب عقيدتهم)، الى السعودية..
كان مشايخ القصيم أقرب الى سكان القرى والصحراء ولذلك كانوا يتعلّقون بهم كونهم مثّلوا في مراحلة عديدة الروح الوهابية الأصلية، فيما كان مشايخ الرياض يعيشون حياة الرفاه. ولذلك يعقد البعض مقارنة بين بيوت مشايخ الرياض وبيوت مشايخ القصيم من حيث السعة والترتيب والرفاهية..
تبدو الخصوصية النجدية حاضرة في مقاربات الدين، القبيلة، المجتمع، التاريخ، الآخر، الداخل، الخارج، الهوية، الولاء، السلطة، الثروة..وكل ما يتصل بحياة الفرد النجدي، وهي ما يجعل نظام المعنى النجدي متمايزاً عنه غيره الى حد الاشتباك والتناقض. فالمجتمع النجدي عموماً والحاضنة الشعبية للنظام السعودي بوجه الخصوص يرى العالم من زاوية حادة، لا تنسجم ولا تنطوي على بعد تصالحي مع الآخر. في حقيقة الأمر، ان تلك الرؤية تصدر عن نزوع عنصري منفلت، وزادت عليها الغلبة السياسية والعقيدة الوهابية التنزيهية طابعاً شوفينياً يؤسس لما اصطلح عليه بـ “الاستعمار الداخلي – Internal Colonization” حيث تفرض جماعة غالبة أو حاكمة سماتها الثقافية والاجتماعية والسياسية على بقية الجماعات..
احتكار السلطة سمة بارزة في الجماعات الغالبة، التي ترى في مشروعية القوة مصدراً كافياً للسيطرة على بقية الجماعات، وأن القوة وحدها كفيلة بالتمايز بين الغالب والمغلوب، وبتركيز السلطة والثروة في أيدي مجموعة صغيرة..
في المملكة السعودية، أقيمت السلطة على منظومة عصبيات: قبلية، مناطقية، مذهبية، وكانت النجدية هي العصبية الجامعة والناظمة للعصبتين القبلية والمذهبية. وقد لجأت الدولة الى النخبة النجدية في إرساء نظام احتكاري يجعل من القضاء والمؤسستين العسكرية والأمنية والشؤون الدينية والتعليمية والمالية أساساً لسلطة مستبدة. فالجيش على سبيل المثال كان يتألف من أبناء قبائل مطير وحرب وعتيبة وغيرها من القبائل التي ناصرت مشروع آل سعود منذ البداية وشكّلت قوة الردع الرئيسية والضاربة منذ مرحلة التأسيس..
كان التوجّه العام لدى الطبقة السياسية النجدية هو توظيف خبرات المناطق الأخرى وتجاربها في تعزيز السلطة النجدية. على سبيل المثال، لم يتم الافادة من الكفاءات الحجازية الا في نطاق محدود، وتحديداً في وزارة الخارجية وفي حالات نادرة في الجيش، فيما كانت العوائل النجدية تحتكر القضاء والافتاء والمالية والتعليم والاقتصاد..بل كان ثمة قلق واضح في قرارات عبد العزيز من أن المناطق الأخرى قد تخرج من سيطرته ولذلك كان عبد العزيز يبعث مع كل أمير على المناطق الحدودية فرقة عسكرية من الإخوان خشية خروج تلك المناطق من سيطرته.
وكان الباحث في علم الاجتماع مرزوق بن تنباك قد أضاء في محاضرة بعنوان (العصبية وأثرها الاجتماعي) في خميسية حمد الجاسر بالرياض في إبريل 2008 على مخاطر العصبية ومطالبته بالمواطنة الكاملة..
يرى بن تنباك أن العصبية تأخذ وتيرة تصاعدية وأن ثمة انغلاقاً فكرياً يتزايد بمرور الوقت، مقارنة مع ثلاثة عقود للوراء، وفرّق بين عصبيات ما قبل قيام الدولة وما بعدها. ووصف عصبيات ما قبل الدولة بأنها عصبيات فوضى ولكنها عصبيات تحوّلت الى “عصبيات منظمة بعد ظهور الدولة”، وهي بحسب تعريفه “إنها عصبية بيروقراطية لا تحقق مفهوم المواطنة الحقيقي والمثالي، الذي يرتكز على شعور المواطن بتكافؤ الفرص”. وتابع “إذا لم يرتفع صوت المصلحين لتحقيق مواطنة حقيقية يقودها أصحاب كفاءات من جميع أرجاء الوطن، فإن الأمر سيشكل أثراً كبيراً على المجتمع”.
وفي إشارة واضحة الى سيطرة نجد على مقدرات الدولة يلفت بن تنباك الى اعادة نجد انتاج عصبيتها بعد قيام الدولة وتحدّثت عن “أشكال العصبيات يكشفها الناظر لجغرافية المنطقة، وعلى رغم أن الوحدة جمعت كل العصبيات القروية والقبلية ضمن إطار مواطنة واحد، إلا أن هناك عصبيات انبعثت عن طريق استحواذ فئات على الكثير من المقدرات وسيطرتها على المركز الاقتصادي ومزايا التعليم في البداية، عن طريق الموظفين والتنفيذيين الأوائل وأدت إلى وجود تكتل هائل لعصبية نفعية تعتمد على المعرفة والقرابة في الوزارات الحكومية”.
وتحدث ابن تنباك عن الآثار الاقتصادية لتلك العصبية والاحتكار النجدي لمصادر القوة حيث أن”استحكام عصبية المال أظهر ما آل إليه المجتمع حالياً، إذ انقسم إلى فئة تدير أرقاماً خيالية وتمسك بزمام الأمور، وأخرى تمثل مجتمعاً كبيراً اتسعت مساحة الحاجة والفقر والبطالة فيه، وهو الأمر الذي أدى إلى ظواهر اجتماعية كاختفاء قيم الكسب والاعتماد على النفس والكفاءة، لتحل محلها المحسوبية والاتكالية واستغلال الفرص وظهور طرق سريعة للكسب، كما ظهرت شجرة العائلة وبيت العائلة وصندوق العائلة، ضمن حراك اجتماعي أهمل ما لا يمكن إهماله، وتمكنت فئة قليلة من احتكار الفرص، حتى أصبحت الكفاءة ينظر لها في فئة معينة من دون غيرها، إضافة إلى أن الطفرة سببت إرباكاً للفاعل الإداري، حتى أصبحت البطالة نموذجاً على رغم أن الدولة تملك ثروات هائلة”.
وفيما أكّد ابن تنباك على الحاجة الى مواطنة مكتملة النمو، وان استدرك عليها بوصفها مطلباً مثالياً، ولكنها في الوقت نفسه: “من أضبط المقاييس لنهضة وتطور المجتمعات، لناحية منح الحقوق المتساوية” بشرط تطبيقها بشكل صحيح. أما في الواقع كما يراه ابن تنباك فهو عكس ذلك تماماً: “ما يحدث الآن هو إلغاء لمناطق وقبائل، على رغم وجود كفاءات عالية، إن هناك أنماطاً تصنع الحراك الاجتماعي الفاعل، تتمثل في النقابات والأحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني”.
وإن غياب هذه الانماط أفضى الى تواري كفاءات كثيرة في تلك المناطق والقبائل”، مشدّداً على أن تطوّر المجتمع بعيداً عن هذه الانماط يزيد في تعقيد المشاكل ولا يسهل حلها بل ويصعّب من مهمة “البحث عن كفاءات تسهم في رقي المجتمع”، وعدّ المملكة السعودية بانها من بين تلك الدول التي تعاني من غياب تلك المؤسسات التي تساعد في البحث عن قيادات وكفاءات للعمل والبناء خارج نطاق الأطر المناطقية والقبلية، وبالتالي عدم إمكانية “البحث الحيادي عن القيادات والكفاءات للعمل البناء على غرار الدول الغربية”.
وبسبب غياب المؤسسات الحديثة الأهلية وغيرها كأطر استيعاب للأفراد وكقنوات لانتاج الكفاءات والتي تمثل روافع نحو الانتقال الى الدولة الحديثة على حساب مؤسسات المجتمع التقليدي، فإن هناك مجاميع تنزع الى العودة الى تلك المؤسسات التقليدية (القبيلة، المنطقة، المذهب) من أجل تحقيق مكاسب على مستوى فردي أو فئوي، فأصبح هؤلاء ينظرون الى تلك المؤسسات كإطارات للهوية، وملاذات آمنة، وحواضن إجتماعية كفيلة بتحقيق الاطمئنان والرفاهية والدخول الى الدولة عبر هذه المؤسسات كونها أقوى، ومعبر مأمون، وأيضاً مصدر قوة حقيقية لاقتطاع جزء من كعكعة السلطة والدولة، وقد شجّع ذلك أبناء العوائل الأخرى المهمّشة في المنطقة النجدية على اعادة الاندماج في اطار قبلي فيما راح بعض آخر ينغمس في البحث عن جذور قبلية تسمح له بالدخول الى حلبة الرهان على المكسب السلطوي ولو في جزء منه.
مرآة الجزيرة