السيمر / الخميس 14 . 01 . 2016
د . صادق اطيمش
الجرائم التي يقترفها البعض اليوم باسم الإسلام والتي تجد مبرراتها في كثير من النصوص الدينية الإسلامية افرزت كثيراً من النقاشات التي تدور في الوقت الحاضر في كثير من الفضائيات والمواقع الإعلامية الأوربية على وجه الخصوص. نقاشات طويلة حول الإسلام والمسلمين يشترك فيها سياسيون واعلاميون واخصائيون في العلوم الإجتماعية والنفسية والتربوية، يشاركهم في معظمها بعض رجال الدين المسلمين او القائمين على ادارة بعض المنظمات الإسلامية في اوربا، إضافة الى بعض المستشرقين او المهتمين بالدراسات الإسلامية. وقد انطلقت هذه النقاشات لمحاولة تفسير ما تقوم به دولة داعش الإسلامية واتباعها او بقية التنظيمات الإسلامية الإرهابية من مجازر بحق البشرية والتي تحظى بدعم وتأييد كثير من حملة الفكر السلفي الإسلامي داخل وخارج المجتمعات الإسلامية، وما يمكن ان ينتج عن كل ذلك من تهديد لأمن كثير من المجتمعات خاصة إذا ما عاد بعض المشاركين في هذه المجازر إلى اوطانهم الأصلية يوماً ما وهم معبئون بفكر العنف ورفض الآخر. وكيف يستغل المسلمون السلفيون في اوربا مثلاً هذه الجرائم من خلال تبريرها وإقناع الأجيال الشابة من المسلمين بها باعتبارها دفاعاً عن الإسلام الذي يريد الآخرون القضاء عليه، كما يزعم مشايخ الإرهاب هؤلاء. وما يمكن ان يشكله كل ذلك على مستقبل المجتمعات كافة ، بما فيها المجتمعات الإسلامية ،التي يطمح معظمها وبغالبية كبرى من سكانها إلى إحلال السلام الإجتماعي والإندماج المبني على اسس احترام القانون ودولة القانون بكل مؤسساتها واجراءاتها التي تشمل الجميع بدون تمييز.
والمتتبع لهذه النقاشات يجد ان معظمها يدور في حلقات لا تفلت منها، فتظل تدور حول نفسها مكررة نفس المقولات والأفكار التي تدين في نهايتها العمليات الإجرامية لدولة داعش الإسلامية وكل اعمال عنف وإرهاب المنظمات الإسلامية الأخرى، مشددة على وجوب حماية المجتمعات من ردود الفعل لدى بعض الإسلاميين او من قبل القادمين من المشاركين في جرائم الإسلاميين في المناطق التي تنشر فيها الدولة الإسلامية وعصابات الإسلام السياسي الرعب والقتل والسبي والذبح والإختطاف وتهديم المواقع الدينية واجتياح المدن الآمنة.
إن المشكلة الأساسية التي لم تتطرق لها هذه النقاشات والتي تشكل السبب الرئيسي لكل ما يحدث من جرائم وانتهاكات من قِبل الإسلاميين وعصاباتهم واحزابهم السياسية، تكمن في المسلمين انفسهم وفي عدم استطاعتهم التعامل مع نصوصهم المقدسة بالشكل الذي يستطيعون فيه الحسم في مواقفهم والتمييز بين الصالح والطالح وبين الأبيض والأسود في مجريات حياتهم اليومية وحتى في شؤونهم العبادية.
وحينما نتكلم عن المقدسات فإننا نعني بشكل اساسي النص القرآني الذي لا يختلف عليه اثنان من المؤمنين به والعاملين على السير على محتواه. وهنا تكمن الطامة الكبرى التي جعلت من هذا المحتوى يتأرجح بين آراء المفسرين وافكار الشارحين وفتاوى المفتين، بحيث اصبح مَن ينظر بعين محايدة لكل ما ينتج عن المسلمين والإسلاميين اليوم من اعمال وتصرفات ايجابية او سلبية، لم يجد سوى التخبط والتناقض والإبتعاد عن كل تفسير علمي ومنطقي. وكل ذلك يستند إلى النص القرآني الذي لا يمكن انكاره من اي من الجوانب التي تعكس صورة ايجابية او سلبية عن الإسلام والمسلمين في حياتهم اليوم، في القرن الواحد والعشرين. وسبب انطلاقنا من اعتماد النص القرآني فقط، وليس السنة النبوية باعتبارها المصدر الأساسي الثاني للإسلام، هو ان النص القرآني مُتَفَق عليه من جميع المسلمين، إلا ان هناك اختلافاً في تفسير او تأويل هذا النص. في حين ان السنة النبوية التي يشكل الحديث قسمها الأعظم لم يتم الإتفاق لا على نصوصها ولا على تفسير او تأويل هذه النصوص. فالمسلمون يتقاتلون منذ مئات السنين حول حديث الثقلين وحول تفسير معنى كلمة ” المولى ” الواردة في خطبة الغدير، ناهيك عن عدم الإعتراف بصحة آلاف الاحاديث التي صنفها جامعو الحديث على انها غير صحيحة او غير مسندة او ضعيفة وما شابه ذلك. هذا بالإضافة إلى الشك باحاديث اشهر هؤلاء الجامعين للأحاديث كمسلم والبخاري اللذان لم يكونا يجيدان اللغة العربية اصلاً.
وبنفس النص القرآني يبرهن الإسلامي، خاصة المتطرفون منهم، بان دينه هو الذي يامره من خلال نصوصه ان يلجأ إلى القتال والحرب مبرراً ذلك بالدفاع عن الدين، حتى وإن لم يكن هناك اي خطرً واضحً على الدين، إذ يكتفي هذا الإسلامي بوضع شكوكه موضع اليقين التي تؤهله لتفسير او تأويل واقعة ما على انها خطر على الدين يحق له فيها الإستناد على النصوص المقدسة الداعية للقتال، ومنها:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة 216
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِالْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ………. (البقرة 217
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًاعَظِيمًا (النساء 74
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(النساء 76
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ( النساء 84
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) النساء 89
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَااسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّاللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ( الأنفال 60
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُواأَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) الأنفال65
(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) محمد 35
او الآية 4 من سورة محمد:( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ-;- إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ-;- تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ-;- ذَٰ-;-لِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰ-;-كِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ-;- وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)
وآيات قرآنية كثيرة اخرى تنحى نفس المنحى بالدعوة إلى القتال او رفض السلم مع الآخرين، إن كان المسلمون هم الغالبون. وهذا الموقف بالذات يقع في تناقض واضح مع الآية 61 من سورة الأنفال المذكورة اعلاه والتي تدعو إلى السلم في حال دعوة الفريق الآخر له. ومن المعلوم في مثل هذه الحالات ان الفريق الذي يبدو له انه سيخسر الحرب هو الفريق الذي يجنح إلى السلم الذي يجب ان يستجيب له المسلمون حتى وإن كانوا في حالة الغلبة. إلا ان الآية 35 من سورة محمد لا تسمح بذلك. وهكذا يعيش المسلم البسيط بين الإعتدال والتطرف ولا احد من فقهاء دينه يستطيع ان يدله على الطريق الذي يتخلص به من هذه الورطة التي اصبحت ورطة الدين بكامله اليوم والتي اصبح فيها النص المقدس سلاحاً بيد المعتدل والمتطرف في آن واحد، وهذا ليس اسلوباً في الحياة الطبيعية لإنسان اليوم الذي اصبحت وسائل العلم والمعرفة والتواصل الإجتماعي العالمي طوع بنانه حتى على اصغر بقعة في هذا العالم الفسيح.
كل هذه المواضيع هي مواضيع خلاف بين المسلمين انفسهم والذين لم يستطيعوا لحد الآن حسم امرهم فيما يتبعونه من النصوص المقدسة في المصدر الأساسي للإسلام. وسبب هذا التخبط وعدم القدرة على اتخاذ القرار الذي يُصلح من وضع الأمة الإسلامية الذي يسير إلى التدني والإنحطاط والتأخر والعيش على ما ينتجه الآخرون من الشعوب التي يسميها بعضهم كافرة، والغوص في غياهب الجهل والتخلف العلمي والعيش على اطلال الماضي وقوانين القرن السابع في القرن الواحد والعشرين وغير ذلك من مظاهر التخلف عن الركب الإنساني، هو ان القرآن يمنع المعتدلين منهم من الفصل بين ما يحاججون به من النص القرآني لإثبات مقولاتهم في السلم والتسامح مثلاً وبين ما يحاجج به الإسلاميون المتطرفون من نفس المصدر المقدس لإثبات غير ما يذهب إليه المسلمون المعتدلون. فالنص القرآني يقول لهم:
(…أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:85]
هذه الآية التي تمنع المسلمين من التعامل مع النص القرآني تعاملاً لا ينبغي ان يُفهم منه التنكر لبعض النصوص ولا رفضها، بل ولا حتى ايقاف العمل بمضمونها الذي لم تعد هناك حاجة اليه في هذا الوقت، تماماً كما تم التعامل مع نصوص قرآنية لم تعد هناك حاجة لها، سواء جاء هذا التعامل من قبل القائمين على الدين كالخلفاء الراشدين مثلاً حينما ابطل الخليفة الثاني العمل بحد السرقة وقت المجاعة والعمل على ايقاف حصة المؤلفة قلوبهم المنصوص عليها قرآنياً. او كما تعامل الخليفة الرابع مع القرآن عموماً حينما اعتبره حمال اوجه. او ان مسيرة الحياة فرضت تعاملاً خاصاً مع النص كما يجري الآن في موضوع فرض الضرائب الذي كان ينطلق من نظام خاص يفرض الجزية المقترنة بالإهانة ( عن يد وهم صاغرون) على غير المسلمين، في الوقت الذي يجري التعامل معهم الآن في جميع المجتمعات الإسلامية كمواطنين لهم ما للآخرين وعليهم ما عليهم من ناحية دفع الضرائب المالية. او كما لم تطبق السيدة عائشة آية ” وقرن في بيوتكن” لظروف اقتضت لها الخروج في معركة الجمل، وهي ام المؤمنين. وهناك الكثير ما يُقال في هذا الموضوع الذي ابطل فيه القرآن نفسه بعض آياته بعد ان اثبت عدم صلاحيتها للواقع الذي يعيش فيه المسلمون ولم يمض على الإسلام في ذلك الوقت إلا بضعة اعوام. فما بالنا اليوم وقد مرت على هذه التعاليم اربعة عشر قرناً ونيف.
فالمعضلة التي يعاني منها الإسلام والمسلمون اليوم اذن هي معضلة داخلية تتعلق بتنظيم بيتهم قبل ان يتهموا الآخرين بالهجوم على هذا البيت الذي يضم ما يقارب المليار ونصف من البشر موزعين على جميع الكرة الأرضية، لم يسمحوا لان يقوم فيهم فقيه يرشدهم إلى امور دينهم بما يتفق وحياة الإنسان اليوم بكل معطيات هذه الحياة، وإن القلة من الفقهاء او المثقفين الذين حاولوا ذلك، كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعلي عبد الرازق وطه حسين ومحمود طه ومحمد عابد الجابري ونصر حامد ابو زيد وجمال البنا وغيرهم، وأد الفكر السلفي افكارهم حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً وشوَّه اطروحاتهم ونال من شخوصهم ليحقق نزعته السادية التي اوصلت المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوضع البائس الذي تمر به اليوم. إن الإسلام والمسلمين ليسوا بحاجة إلى احزاب اسلامية واجهتها الدين وباطنها السياسة، كما نراه اليوم في وطننا العراق وفي مجتمعات اسلامية اخرى . وليسوا بحاجة إلى مليشيات عسكرية طائفية يريد بها قادتها تمرير ما يرونه حتى ولو على اشلاء مَن لا يرون رؤيتهم هذه. وليسوا بحاجة إلى قتل وتشريد وسبي ونهب الآخرين الذين يطبقون عليهم ” ان الدين عند الله الإسلام وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85]. انهم بحاجة إلى فقهاء يمتلكون الشجاعة الكافية ليقولوا لهم إن العنف والقتل والإرهاب” ترهبون به عدو الله وعدوكم” فرضتها ظروف خاصة على الدين في السنين العشر الأخيرة من الرسالة وإن هذه الظروف لم تكن موجودة حينما نشر الإسلام اساسياته في السنين الإثني عشر الأولى من وجوده. لذلك فإن المتابع لا يرى شيئاً من ذلك في القرآن المكي الذي يضم اكثر آيات القرآن. كذلك فإن هذه الظروف لا توجد اليوم على الواقع العملي مهما تشبث الفكر الديني المتخلف باوهام سلفه حول تقسيم العالم إلى دار سلم إسلامي ودار حرب غير إسلامي يشمل اكثر من ثلاثة ارباع البشرية التي يريد هذا الفكر السادي القضاء عليها لأنها لا تدين بدينه.
واستناداً إلى ما تقدم فإن النقاشات التي تدور حول الإسلام اليوم سوف لن يكتب لها النجاح بالوصول إلى تبني افكاراً من شانها ان تغير من السمعة المتردية للإسلام والمسلمين اليوم والتي ترتبط لدى الكثير من الشعوب البعيدة عن هذا الدين بالعنف والقتل وحز الرؤوس وسبي النساء وبيعهن في اسواق الجواري والكثير الكثير من السيئات التي تمارسها مجموعات الإسلام السياسي واحزابه. إن مثل هذه النقاشات لا فائدة منها إذا لم ينته الصراع بين المسلمين انفسهم ويحسموا امرهم وعلاقتهم بكل ما يشير إلى العنف او كل ما يأمر بالعنف من النصوص الدينية التي يتعاملون بها ومعها اليوم. عند ذلك فقط نستطيع ان نحدد موقفنا بشكل واضح امام العالم ولا حاجة للمراوغة التي يتبعها بعض رجال الدين، تقية، حينما يشاركون في هذه النقاشات ويبرزون امام الناس وكأنهم حمامات سلام ، يحاججون بكل آيات السلام والتسامح، وما هم في الحقيقة إلا وحوش ضارية خارج مجال هذه النقاشات لا تخطر ببالهم سوى آيات القتل والإرهاب وانهاء الآخر، وكل تصرفاتهم تدل على ذلك.
وكما ذكرنا في الحلقات السابقة فإن ممارسات العنف في نصوص الأديان الإبراهيمية قد ارتبطت ببعض الحقب التاريخية التي عاشتها هذه الاديان. إلا ان ذلك لا يعني بانها هي التي خلقت واوجدت ممارسات العنف هذه، إذ ان ذلك يعود تاريخياً إلى قبل وجود الأديان التوحيدية الإبراهيمية هذه. والسؤال الذي ينبغي مناقشته هنا يتعلق بمدى انفراد الأديان التوحيدية في ايحاءاتها الأولى عن الأديان المتعددة الآلهة، وخاصة فيما يتعلق بالعنف؟ بعبارة اخرى هل ان ممارسات العنف باسم الدين لم تلازم الأديان المتعددة الآلهة ايضاً؟ إن وقائع التاريخ البشري تجيب على هذا السؤال بالنفي. فالحروب التي كانت تدور بين الأمم المتعددة الآلهة كانت لا تُخضِع الإنسان في الأمة المغلوبة لهيمنة الأمة المنتصرة فقط، بل وتجعل من آلهة الأمم المغلوبة آلهة عديمة القدسية وتضعها في مرتبة العبيد لآلهة الأمم المنتصرة. وهذا يعني ان المجتمعات الإنسانية مرَّت في اطوارها المختلفة بفترات كان العنف فيها يشكل واحداً من المقومات الأساسية لهذه المجتمعات. وحينما يتجاهل المرء ذلك فإن فرصة الوقوع في خطأ حرق المراحل في التاريخ البشري تصبح امراً خطراً جداًعلى فهم الواقع المُعاش. وفيما يخص الإسلام فإن تبنيه لإطروحات العنف تبلورت لتابعيه في السنين العشر الأخيرة من تاريخه في المدينة من خلال توارث الأطروحات المماثلة في اليهودية والمسيحية التي لم يستطع الإسلام إلا الإعتراف بها لكي يبرر إلتزامه بالتعاليم الإبراهيمية التي نسب نفسه إليها. وإن مثل هذا النسب لا يمكن له ان يستمر على الحياة إذا ما تنصل كلياً عن الأساليب التي اتبعتها اليهودية والمسيحية والتي تجلت فيها الممارسات العنفية على ابشع صورها المنصوص عليها في التوراة والإنجيل، كممارسات تتعلق باستمرار وجود المجتمع.
ما نريد قوله هنا هو ان ممارسات العنف في الإسلام ظلت تسود الخطاب الديني حتى بعد إنتهاء المراحل التاريخية التي بررت هذا العنف تاريخياً واجتماعياً وسياسياً. وهذا ما ينبغي التصدي له اليوم من قبل القوى التي لا زالت ترى في الإسلام ديناً قبل ان يكون سياسة. وإن من اولويات هذا التصدي الدعوة إلى إصلاح الفكر الديني الذي حصلت فيه المسيحية على تجارب ايجابية جمة. ولا يعني الإصلاح هذا ، على ما اعتقد، باقتصاره على توجيه الحِكم والنصائح او حتى الخروج بتفسيرات وتأويلات جديدة تنسجم وحياة اليوم،وليس مع حياة عشرات القرون السابقة من السنين. إن الإصلاح هذا يعني إتخاذ الموقف الصريح والواضح من نصوص العنف واعتبارها منسوخة الفعل مع بقاء النص، كما في نصوص الجزية والمؤلفة وقلوبهم والحج على الجِمال وما اشبه. أي ان ما يسمى بالمؤتمر الإسلامي والمراجع الدينية المختلفة يجب ان تصدر تعليمات جديدة تتناول التفاسير القرآنية التي تتحدث عن حياة إثنين وعشرين سنة من عمر الإسلام لتعكسها على حياة المسلمين في حياتهم الحالية او المستقبلية بعد مرور مئات السنين. سيواجهنا المتمسكون بالفهم الحرفي للنص الديني متجاهلين سياقه التاريخي بقولهم الذي طالما يرددونه دون ان يعوا هم انفسهم ماذا يقولون : إن هذه النصوص هي دفاعية فقط، أو بالمقولة التي تدعو إلى الضحك فعلاً: مَن يطبق هذه النصوص اليوم ضد الآخرين لا علاقة له بالإسلام. عجيب امر هؤلاء حقاً … كيف يكون لا علاقة له بالإسلام وهو يرفع راية الإسلام وشعار الإسلام الذي يرفعه كل المسلمين وبعض حكوماتهم ايضاً، وينفذ العبادات الإسلامية بحذافيرها، وهو بالإضافة إلى ذلك يطبق نصاً يتضمنه دستور الإسلام ( القرآن ) الذي يشير إلى العمومية في كثير من الأحيان وإلى الخصوصية في التطبيق في احيان قليلة اخرى. فكيف يكون الذي له علاقة بالإسلام إذن ؟
مشكلتنا مع نصوص العنف وتطبيقاته من قبل فئات اسلامية ، نعم اسلامية كثيرة لا تنهتي إلا بإيقاف العمل بهذه النصوص، اما طرق اللف والدوران والمراوغة والتقية التي يتاجر بها الإسلام السياسي وفكره المتخلف فلا ننتظر منها إلا المسيرة نحو الهاوية.
مقال ذو صلة :
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الثالث
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الثاني
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الأول ـ