الرئيسية / مقالات / سيكولوجية العمامة واليشماغ !

سيكولوجية العمامة واليشماغ !

فارس كمال نظمي

تقدم الرموز الاجتماعية العيانية، ومن بينها أزياء الملابس وأغطية الرأس، مادةً أنثروبو-نفسية مشوقة للباحث المتخصص بمسارات تطور العادات والأعراف الاجتماعية عبر التأريخ، وبكيفية تفاعل الحاجات النفسية العميقة للإنسان بعوامل الطبيعة والمجتمع لإنتاج أنساق السلوك الاجتماعي بمظاهره المحافظة والمتحررة على حد سواء. فالبشر ينتجون سلوكهم ومنظوماتهم المعرفية والقيمية والانفعالية على أساس ولاءهم اللاشعوري العميق لدافع البقاء على قيد الحياة ببعديه الخالدين: البحث عن اللذة وتجنب الألم. إلا أن هذا الدافع الجذري غالباً ما يتمظهر بأشكال ومسارات سلوكية بالغة التعقيد قد تبدو للوهلة الأولى عديمة الصلة بدافع البقاء، إلى الحد الذي تصبح فيه طرز معينة من الملابس (أي خيوط منسوجة) قادرة على إثارة مشاعر التقديس الأعمى أو الخشوع الديني أو الرغبة الجنسية أو الانبهار الجمالي أو الاشمئزاز العدائي أو الحماس الوطني، بحسب سيكولوجية المتلقي.
ففي دراسة أجريتُها مؤخراً عن الوظيفة النفسية لأغطية الرأس، أجابت عينة من طلبة الجامعة الذكور عن عدد من الأسئلة من بينها الآتي: ((إذا كان عليك أن تختار واحداً من أغطية الرأس السبعة المبينة في الصور المرفقة، في موقف يستوجب منك تغطية رأسك، فما هو خيارك المفضل؟)). وكانت الصور السبعة هي: عمامة إسلامية، ويشماغ عراقي، وطاقية عراقية، وغطاء الرأس الكردي التقليدي، وقبعة عسكرية، وقبعة رياضية، وقبعة راعي البقر الأمريكي. وقد اختار (72%) من الطلبة ارتداء اليشماغ العراقي بالمرتبة الأولى، نزولاً إلى العمامة الاسلامية إذ حازت على حوالي (7%) فقط من التفضيلات، متفوقة بقليل على القبعة العسكرية وقبعة راعي البقر الأمريكي!
هل انتصر اليشماغ على العمامة إذن؟ إن نتائج هذا النوع من الدراسات النفسية “الإسقاطية” يمكن أن تقدم مؤشرات أولية مهمة على التبدلات التي تطرأ في مسارات الرأي العام واتجاهاته نحو القضايا السياسية التي تمس بنية أي مجتمع. فما بالك والمجتمع هو العراقي بعد نحو سبع سنوات من تجربة سياسية فريدة نشأت في ظروف احتلال أجنبي وتهاوي سلطة استبدادية سابقة، أمسكت فيها العمامة (بشقيها المباشر والاستعاري) بمعظم مفاصل السلطة، وإنْ كانت ليست عمامة موحدة، بل أسراب من عمامات بعضها متحالف فيما بينه، وبعضها الآخر متصارع ضد بعضه حد الإفناء.
فلسوسيولوجية العمامة فضلاً عن سيكولوجيتها إطار تحليلي شاسع المديات في الفكر الاجتماعي، تصب فيه معطيات التأريخ والسياسة والاقتصاد على نحو نادر المثيل. فالعمامة سوسيولوجياً خرقة قماشٍ تباع وتشترى، تكتسب طرازها ولونها وأسلوب ارتدائها من رمزيتها الدينية الطقوسية المشتقة انثربولوجياً من تفاعلات المكان الاجتماعي بالزمن التأريخي، لها سلطة التأثير في الجموع إلى حد تأطير تلك الجموع في جماعات كتلية وزجها في سياقات تفاعلية قد تفضي إلى تطوير حياة تلك الجماعات وإغنائها أخلاقياً ومادياً (كما فعلت عمامتا علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب)، أو قد تقود إلى تبخيس قيمة حياتها وازدرائها حينما تخاط تلك العمائم في ورش رجال السياسة، فتختلط الأدوار، ويصير رب السماء ممراً إلى رب المال والسلطة!
والعمامة سيكولوجياً لها وظيفة المنبه الشرطي الذي اكتشفه العالم الروسي “ايفان بافلوف” الحائز على جائزة نوبل 1904م، محدداً بذلك واحداً من أهم القوانين الذي يكتسب بواسطته الناس جزءاً أساسياً من سلوكياتهم على المستويين الفردي والاجتماعي. فالعديد من انفعالاتنا وأفكارنا وعاداتنا واتجاهاتنا ينشأ بتأثير الاقتران الشرطي المتكرر بين منبهات طبيعية (تبعث على الرضى والمتعة، أو على الانزعاج والألم) وبين منبهات شرطية محايدة تأتي مصاحبة لها. وحين يغيب المنبه الطبيعي ننساه بمرور الزمن لكن تأثير المنبه الشرطي يمكن أن يبقى مؤثراً في سلوكنا وعواطفنا ومعتقداتنا ومواقفنا بعد ذلك.
وهكذا فالعمامة منبه شرطي “قداسوي” محايد في جوهره، اكتسب شرطيته من اقترانه بالمنبه الطبيعي أي بالدور الأخلاقي التقليدي الذي يمارسه مرتدي العمامة “نمطياً” في أذهان الناس متمثلاً بـ”طهريته” و”نقاء سريرته” و”علمه الثاقب بشؤون الدنيا والخلق” و”صلته المباشرة بالله”. فأصبحت استجابة الناس الشرطية الشائعة في أغلب المجتمعات غير العلمانية هي “تبجيل” صاحب العمامة بصرف النظر عن مدى معرفتهم الشخصية أو التفصيلية بسماته ما دام مرتدياً هذه الخرقة الشرطية التأثير؛ اي أصبحت العمامة هي التي ترتدي صاحبها وليس العكس!
إلا أن نتائج دراستنا الأخيرة تؤشر بوضوح أن هذا المنبه الشرطي قد فقد تأسيسه الراسخ لدى فئة الشبيبة العراقية إلى حد كبير، مقابل منبه شرطي آخر بدا أكثر قدماً ورسوخاً هو “اليشماغ” بوصفه رمزاً لعراقيتهم؛ بمعنى أن استجابات شبابنا الشرطية لتفضيل الهوية الوطنية يحتل الصدارة في شبكة المنبهات والاستجابات التي يتكون منها نسيج سلوكهم الإسقاطي حيال الرموز الاجتماعية العيانية الممثلة بأردية الرأس.
وبكلمات أكثر تحديداً: في اللحظة العراقية الراهنة، ينحسر الانفعال المتسرع بـ”قدسية” رموزٍ لم تبرهن الأحداث على أهليتها لإدارة حياة الناس لا في العراق ولا في غيره، في مقابل تنامي تعلق عقلاني برمز قد يوفر منافع اجتماعية وفردية عند التماهي به جمعياً، أي رمز الوطن المدني الواقعي دون وصايات إطلاقية افتراضية تلغي عقل الفرد وتزجه في اصطفافات تعصبية ضد الآخر المماثل له في حق الاعتقاد وحق التعبير وحق العيش بكرامة وكبرياء.
ولعلنا بحاجة إلى دراسة تكميلية لتحديد الخصائص النفسية التي أصبحت لصيقة بشخصيات المعممين من وجهة نظر الشارع العراقي. وقد تأتي النتائج حينها مخيبةً لتيارٍ راهنَ على أن الفرد العراقي تفتنه السلطة أكثر مما يفتنه العقل !

رابط المقال :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=213555