رامي طويل / سوريا
“فضيحة ساخنة لسعاد حسني بدون ملابس… فيديو للكبار فقط”، “ساخن جداً… المشهد المحذوف لسعاد حسني”، وغير ذلك من الجمل المشابهة تفاجئك إذا ما قررت يوماً البحث بواسطة “يوتيوب” عن أغنية “مهضومة”، أو عمل سينمائي جميل للفنانة الراحلة.
وبطبيعة الحال ستؤدي هذه العناوين دورها بإثارة الفضول، وتحفيز الرغبة بالتلصّص على اللحظات الحميمة لفنّانة احتلّت حيّزاً من الذاكرة الجمعيّة. غير أنك، وبمجرد أن تبدأ بمشاهدة المادّة، ستكتشف أنّها ليست إلّا مشاهد عاطفيّة عاديّة جداً (بالمنظور السينمائي) مقتطعة من أحد الأفلام المعروفة. في زاوية الشاشة يظهر “لوغو” لفضائية عربية، ما يعني أنّ المشهد اقتطع أثناء عرضه على تلك المحطّة. إذاً هو ليس مشهداً ممنوعاً، ولامحذوفاً. غير أنّ تلك الخيبة الغرائزية الصغيرة لن تلجم فضولك عن مشاهدة كلّ ما تقع عليه عيناك من مشاهد عنونت بهذه الطريقة، لمختلف الفنانات العرب.
لاشكّ في أنّ تحفيز الفضول، واستثارة الغرائز، كان وما يزال إحدى أكثر وسائل الدعاية رواجاً. السؤال حول سبب ذلك، تمّت الإجابة عنه في كثير من الدراسات والبحوث. إلا أنّ هذه المشاهد، المنتشرة بكثرة على موقع “يوتيوب”، تفسح المجال لنوع آخر من الأسئلة غير البريئة، وغير المنفصلة عن واقع عربي يعاني ما يعانيه هذه الأيّام، كنتيجة طبيعية لأساليب القمع والكبت والتقزيم والتجهيل، التي طالت إنسانه. فالنظر إلى تلك المشاهد السينمائيّة من زاوية مختلفة، سيضعنا أمام حقيقة موجعة بقسوتها، حيث ستعيدنا إلى زمن، غير بعيد، كان فيه العريّ قيمةً جماليةً سامية، تستخدم في السينما، كما في كلّ الفنون، لتكون بذلك صورة قريبة من واقع الحال تلك الأيام. هذا أمر تسهل ملاحظته باستعادة الأعمال السينمائية التي صنعت منذ بداية السينما العربية، وحتى نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. يكفي ذكر بعض الأسماء لكبيرات السينما العربية، كأمينة رزق، تحيّة كاريوكا، هند رستم، ناديا لطفي، شمس البارودي، ناهد يسري، والكثيرات غيرهن، لتعود إلى الذاكرة أعمال سينمائية هامّة عملت على تصوير الواقع دون خجل، وبعيداً عن الابتذال، وكانت تعرض في صالات تغصّ بالحضور من مختلف الشرائح العمريّة. إلا أنّ الحال، منذ مطلع التسعينات، لم يعد كما كان عليه، إذ شهدت هذه الفترة ظهور مصطلح “السينما النظيفة”. هو مصطلح تجاريّ خبيث. سعى إلى الفرز والتصنيف. فإن كانت الأفلام التي راجت في تلك الفترة، والتي اصطلح على تسميتها “أفلام المقاولات” هي ما يمثّل “السينما النظيفة” فما الصفة المعاكسة التي ستوصم بها الأفلام الأخرى؟. إنها موجة رافقت نهاية عصر “البحبوحة الاقتصادية” التي عرفها العالم، ومن ضمنه الدول العربية، معلنة انتهاء مرحلة الانفتاح الفكري والاجتماعي، وبدء عصر الردّة الدينية، بأسوأ صورها، وهيمنة السلفيّة، بكلّ ظلاميتها، على مختلف مناحي الحياة. ليتحوّل العري من قيمة جمالية سامية، إلى عار، ويغدو الجسد مادّة مثيرة للفضول والغرائز. يتمّ الترويج لها سرّاً، ومتابعتها في غرف مظلمة، بعيداً عن العيون المتربّصة، والمسلّحة بأحكام جائرة، مسبقة الصنع، مدعومةً بفتاوى دينية.
بنظرة بسيطة إلى رسومات عصر النهضة، يمكن ملاحظة مدى احتفال الفن التشكيلي بالعريّ الإنساني. كذلك الأمر بالعودة إلى كتب التراث العربي (النسخ الأصلية، قبل أن يطالها التشويه والحذف والمنع من قبل المؤسسات الدينية، ووزارات الثقافة العربية)، وغير بعيد عن ذلك كان الغناء أيضاً. إذ سنجد في أرشيف الأغنية العربية الكثير من الأدوار والموشحات التي تتغنّى بالجسد العاري، وكلّ ذلك لم يكن إلا انعكاساً طبيعياً للحياة الإجتماعية آنذاك، حين كان الجسد الإنساني والعُريّ في قمّة سلّم الإبداع.
المثير للغرابة أنّ الإساءة للعريّ، وللجسد، واعتباره مادّة ساقطة أخلاقياً، ترافق مع ثورة الاتصالات الحديثة، وانتشار الفضائيات، والمواقع الالكترونية. أيّ في الفترة ذاتها التي أصبحت فيها الأفلام الإباحية متاحة للجميع، وفي الوقت الذي احتلت فيه كلمة “Sex” المرتبة الأولى على محركات البحث، وبخاصّة في العالم العربي، وتحديداً في الدوّل الأكثر تشدداً ومحافظةً. إنّ هذه المفارقة تشير إلى حالة الفصام التي يعيشها الإنسان العربي اليوم، ويمكن التدليل على ذلك بالتناسب الطردي الحاصل، في مصر على سبيل المثال، بين زيادة حالات التحرّش الجنسي، مع ازدياد نسبة حضور الحجاب في الشارع، وانتشار الفكر الديني المتشدّد. أمّا تفسير ذلك فلا يغدو صعباً إذا ما راقبنا عمل الإمبراطوريات الإعلامية العربية الكبرى، وتحديداً الخليجية منها، والتي عملت لسنوات على الترويج للفكر الديني، بالتوازي مع ترويجها للأعمال الفنية الهابطة، وللنماذج الرديئة من العري المبتذل، إن كان في المسلسلات التلفزيونية التي تدعم انتاجها، أو الأعمال السينمائية، أو الأغاني، أو الإعلانات، وذلك للإمعان في التجهيل، وخوفاً من انتشار فكر تنويري حقيقي، ما يفضح خوف هذه المؤسسات، والقائمين عليها، من فكرة العري الإنساني، ليس لكونه يكشف الجسد، وإنما لكونه يكشف ويعرّي حقيقة تلك المؤسسات، ويخرق الحجب الكثيفة التي تلقيها على العقول.
أمام هذا الواقع المتردّي يغدو من البديهي لجوء الوسائل الإعلامية، بما فيها من كانت ذات يوم رصينة، وصاحبة مكانة في عالم الصحافة، إلى الترويج لنفسها عبر عناوين مبتذلة، تعتمد بالدرجة الأولى على إثارة غبيّة للغرائز. وكذلك تكريسها لأسماء معينة، في عالم الأدب، على أنها منتجة للأدب الإيروتيكي، بمعزل عن مفهومه وقيمته الحقيقية، هو الذي يتمتع بحساسيّة خاصّة، بحيث يحتاج ذكاءً إبداعياً استثنائياً كيلا يسقط في دوّامة الابتذال، وكلّ ذلك سعياً وراء أكبر عدد من المشاهدات، والقراءات، في زمن بات فيه رأس المال الإعلاني هو المتحكّم الرئيس بوسائل الإعلام. وبذلك تغدو الفخاخ التي ينصبها “يوتيوب” لمتابعيه غير عصيّة على الفهم، وسيكون طريفاً لو أنّ أحد الباحثين عن ذلك النوع من الإثارة، والذي لا يعرف عن سعاد حسني، مثلاً، سوى أنها نجمة إغراء، أن يلجأ إلى فيديو بعنوان “سعاد حسني ساخنة” لتخرج إليه مسلّحة بأنوثتها الحقيقية، وهي تغني مشيرةً إليه: “بانواعلى أصلكوا بانوا، والساهي يبطل سهيانو، ولا غنى ولا صيت دول جنس حاويط، وكتاب ما يبان من عنوانو”.
الاخبار اللبنانية