المركز الخبري لجريدة السيمر الإخبارية / الاحد 07 . 02 . 2016 — في ظل ظروف داخلية وخارجية صعبة وبالغة التعقيد وأوضاع مفتوحة على احتمالات عدّة، صوّت مجلس النواب العراقي في 16 كانون الاول 2015 بالأغلبية على قرار مشروع قانون موازنة البلاد للعام 2016 بنفقات تقدر 105.9 تريليون دينار منها 25.7 تريليون دينار للمشاريع الاستثمارية، اي بنسبة %24.3 من مجموع الإنفاق، أما الإيرادات فتقدر بمبلغ 81.7 تريليون دينار، منها 69.8 تريليون دينار من صادرات النفط، والباقي إيرادات غير نفطية بمبلغ 11.9 تريليون دينار، وبنيت تقديرات الموازنة للإيرادات من صادرات النفط على تصدير 3.6 مليون برميل يوميا، من ضمنه النفط المصدر من قبل اقليم كوردستان، وبسعر 45 دولارا للبرميل الواحد.
وبذلك يبلغ العجز 24.2 تريليون دينار، وهو ما يشكل، حسب هوشيار زيباري وزير المالية، (%11.9) من الناتج المحلي الاجمالي في عام 2016، يمول بقروض داخلية بمقدار 17.1 تريليون دينار، و 3.2 تريليون دينار من الرصيد النقدي للموازنة نهاية عام 2015، وحوالي 3.9 تريليون دينار قروض خارجية.
تتيح قراءة نص الموازنة الذي اقره مجلس النواب تسجيل النقاط الاتية وبتكثيف:
اولا: الطابع التقشفي للموازنة، حيث لن تلبي سوى رواتب الموظفين والبطاقة التموينية ومتطلبات القوات العسكرية والحشد الشعبي والبيشمركة من جهة، في حين ستتوقف المشاريع الاستثمارية، كما تم ضغط النفقات بـمبلغ 6 تريليونات دينار مقارنة مع موازنة 2015، وتقليص تخصيصات البطاقة التموينية التي خصص لها 2,5 تريليون دينار فقط، وإلغاء التخصيصات للنازحين، زيادة الأعباء الضريبية غير العادلة، كضريبة المبيعات والرسوم، هذا اضافة الى غلق باب التعيينات مما سيؤدي بدوره الى ارتفاع معدلات البطالة بسبب تقليص الانفاق الحكومي وتراجع النشاط الخاص.
ثانيا: الطابع الطبقي المنحاز للموازنة لصالح الاغنياء على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود، يمكن القول أن الإجراءات التقشفية المعتمدة في موازنة 2016 لها طابع طبقي واضح جوهره انها تأتي بالضد من مصالح الكادحين وذوي الدخل المحدود لأنها وبإجراءاتها المحددة ستحمّل الشرائح الواسعة من الكادحين وذوي الدخل المحدود والمنخفض الجزء الاكبر من أعباء التقشف، حيث هناك حوالي 7 ملايين شخص من كاسبي الاجور والمرتبات بما فيهم المتقاعدون، اضافة الى مئات الالاف من الارامل وعوائل الشهداء وما يماثلهم، ومن هنا فان تدهورا واضحا سيطرأ على مستوى معيشة القطاع الاكبر من السكان، هذا اضافة الى ان معدلات التضخم تساهم في الحاق المزيد من الضرر بذوي الدخل المحدود، هذا في الوقت الذي يغيب فيه أي توجه جاد لزيادة ضريبة الدخل التصاعدية مثلا على ذوي الدخول العالية، وزيادة معدلات الضريبة على مختلف أشكال الثروة، ناهيك عن قدرة هؤلاء على التهرب الضريبي حيث الفساد خراب عميم.
وهكذا فإن نظام علاقات الانتاج السائد يعيد توزيع آثار العجز لصالح القوى المتنفذة وبالضد من مصالح الكادحين ومحدودي الدخل مما يعني ان الموازنة السنوية طبقية الطابع وليس مجرد واردات ونفقات وأرقام صماء مجردة من أي روح، وهذا يؤكد الطابع الطبقي المنحاز للموازنة لصالح الفئات البيروقراطية – الطفيلية الكومبرادورية ولصالح مالكي رؤوس الاموال على حساب العاملين.
ثالثا: من بين خيارتها للتغلب على ازمة توازنها البنيوي المختل، رهان موازنة 2016 على وصفات صندوق النقد الدولي عبر الاقتراض من الصندوق لسد العجز، وهي الوصفات التي لم تزكها الحياة في العديد من المناطق والبلدان، فمن المعروف ان الصندوق ليس مؤسسة خيرية يمنح القروض “لوجه الله” بل يربط اقراضه بشروط يعتبرها بمثابة “نصائح” لا يجوز ان يحد البلد المعني عن “سراطها المستقيم”.
فقد اشار صندوق النقد الدولي في بيان له الى انه “أنفق” مع السلطات العراقية على ان يراقب الصندوق سياسات بغداد الاقتصادية كأساس لبرنامج تمويل محتمل في 2016، وقال (كريستيان جوتش) رئيس بعثة الصندوق إلى العراق أن الجانبين اتفقا على برنامج مراقبة لخبراء الصندوق يهدف إلى كبح الانفاق وخفض العجز في ميزانية العراق الذي من المتوقع أن يقترب من %12 من النشاط الاقتصادي العام القادم، كلام فصيح لا يحتمل أي تأويل أو تأتأة: “يراقب الصندوق سياسات بغداد الاقتصادية كأساس لبرنامج تمويل محتمل في 2016”.
وعلى هذا الطريق هناك في نص قانون الموازنة ما يشير الى نوايا لتصفية عدد كبير من الشركات المملوكة للدولة، والذريعة معروفة: خسارتها وعدم كفاءتها الاقتصادية! علما ان الامر لا يتعلق بمئات او آلاف من العاملين في هذه المؤسسات بل بمصائر مئات آلاف الشغيلة والكادحين، كما ان الامر بمجمله له صلة بالإنتاج الصناعي الوطني.
وارتباطا بالظروف التي تمر بها البلاد ومساراتها المتوقعة خلال العام 2016 فانه ليس متوقعا للموازنة ان تلعب دورا مؤثرا ايجابيا على الصعيد التنموي.
رابعا: الابقاء على الطابع الريعي – الخدماتي للاقتصاد الوطني، حيث بقيت موازنة عام 2016 حبيسة الايرادات النفطية (%85)، مقابل ضالة الايرادات غير النفطية (%15)، علما انه سوف لن يتحقق سوى نصف هذه الاخيرة على ابعد تقرير، والاهم من ذلك كله هو الحصة المتدنية لقطاعات الانتاج المادي كالزراعة والصناعة، هذا اضافة الى قطاع السياحة الذي يتضمن امكانيات كبيرة وبإمكانه لو احسنت ادارته ان يدر ايرادات كبيرة ويساهم في تقليص البطالة من جهة ويرفع من حصة الايرادات غير النفطية.
ملخص القول: إن اتجاه العجز في الموازنات السنوية وتفاقمه يعكس اختلالا هيكليا وليس شكليا، ولا يمكن معالجة هذا النوع من العجز إلا من خلال مقاربة أخرى وهي مقاربة مفقودة في موازنة 2016.
وابرز معالم المقاربة الجديدة هي:
1. علاج العجز في الموازنة العامة يجب ان يأتي ضمن رؤية vision متكاملة، او على وجه الدقة ضمن منظور تنموي متكامل، لعلاج مجمل الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العراقي، فلا معنى لعلاج هذا الاختلال اذا ظلت الاختلالات الاخرى بلا علاج.
2. من الخطورة بمكان علاج العجز من خلال الانكماش، أي تعطيل التنمية وزيادة البطالة وتردي مستويات معيشة السكان، ومن هنا لا بد من النظر الى علاج العجز في الموازنة العامة باعتباره أحد المحاور الاساسية لإعادة احياء جهود التنمية وليس تبذير الموارد (وهي محدودة) في ظل انعدام رؤية استراتيجية واضحة.
3. لا خلاف على ان علاج عجز الموازنة ستكون له تكلفة ما، ولكن المشكلة ليس في التكلفة ذاتها وإنما بالإجابة على سؤال آخر هو: ما هي القوى الاجتماعية التي ستتحمل هذه التكلفة وضرورة ان توزع على الناس بشكل يراعي العدالة الاجتماعية. وهذا يعني ضرورة ان يتناسب العبء مع القدرة على التحمل، فالأغنياء يجب ان يتحملوا نصيبا من هذا العبء اكبر مما يلقى على كاهل الفقراء ومحدودي الدخل.
4. تجنب ان لا يكون النقاش حول العجز ومواجهته حبيس غرف مغلقة ومحصورا بـ “المستشارين” بل لا بد ان يكون هناك حوار شعبي بمشاركة النخب الثقافية والاكاديميين والخبراء في هذا المجال لمناقشة السياسات والإجراءات المقترحة لعلاج العجز، وذلك عبر المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني حتى يكون هناك اقتناع بجدوى علاج العجز وبتلك السياسات والإجراءات.
ولأن “الطبقات لا تطرح على نفسها إلا المهمات القادرة على حلها”، فان تحقيق هذه الرؤية الجديدة لن يتم إلا من خلال بناء ائتلافات جديدة وقوى اجتماعية تربط على نحو جدلي بين المهام الاربع الملحة: الوطنية والمدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، انه طريق صعب ولكنه ممكن التحقيق.. فهل تفرض الحركة الاحتجاجية ميزان قوى جديد؟ انه سؤال برسم الاجابة. ومن المؤكد ان جماهير المحتجين سينجزون هذه المهمة، فليس لدى المتضررين من هذه السياسات “التقشفية” الخائبة، وهم كثر، ما يخسرونه سوى قيودهم التي كبلهم بها النظام المحاصصي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية مجلة “الثقافة الجديدة”
العدد 380
كانون الثاني 2016