السمر / الاحد 16 . 04 . 2017
صالح الطائي
إعادة البناء الإدراكي أو المعرفي (Cognitive restructuring) في العلوم الفلسفية والنفسية: هي عملية علاجية نفسية لتعليم كيفية التعرف على الأفكار غير المنطقية أو سيئة التكيف ومناقشتها. ويستخدم المصطلح عادة في الإشارة إلى النماذج العلاجية التي تشمل محاولة تعديل العوامل المعرفية، فالسلوك غير التكيفي، وفق هذا الأسلوب يعامل بوصفه نتاج للتفكير غير الوظيفي، وغير المنطقي. وبناء على ذلك ينظر إلى العلاج على أنه عملية تعلم داخلية، تشمل إعادة تنظيم المجال الإدراكي، وإعادة تنظيم الأفكار، ذات العلاقة بالروابط بين الأحداث والمثيرات البيئية المختلفة.(*)
ولا ينكر أن المجتمع الإسلامي الأول تعرض إلى إعادة بناء بعد عصر البعثة مباشرة، وقد أحدثت عملية إعادة البناء هذه ـ على خلاف ما هي عليه في العلوم والفلسفة ـ خلطا تمكن من تعقيد الأمور، حتى بات من المتعذر الوصول إلى درجة اليقين في أمر ما، وذلك لعدم وجود سند نقلي كامل القبول من جميع الأطراف المتنافسة التي أفرزتها عملية إعادة البناء، مع استحالة وجود بادرة للاتفاق على صحة هذا الأثر أو ذاك بما يمكن الأخذ به، والبناء على ما جاء فيه، باستثناء القرآن الكريم، والقرآن كما هو معروف لا يهتم بالجزئيات ولا بالتواريخ والأسماء التوضيحية.
وبالتالي لا غرابة في أن تولد كل تلك الفرق التي تتناقض عقائدها في أمة الإسلام، بل لا غرابة أن تولد الوهابية والسلفية والقاعدة وداعش في أحد الجانبين، وجند السماء واليماني والصرخي والحبيب وغيرهم في الجانب الآخر، ولا غرابة أن يتخذ المسلم تحت شعار (الله أكبر) قتل المسلم الآخر وسيلة لدخول الجنة، ونيل رضا الله تعالى، والفوز بفاتنات بلا عدد من حور العين والغلمان. فجميع هذه النتائج هي بالأصل مخرجات لتلك الثقافة؛ التي تكَّونَ منها تراثنا؛ الذي نعول عليه في الحصول على مناهج عقيدتنا وأخبار رموزنا!
إن كل ما حدث في بدايات القرن الهجري الأول كان المصدر المغذي لكل تلك التداعيات الجبارة التي صُبت على رأس الأمة، إذ لا خلاف أن الاختلاف في “الإمامة” في الأيام الأولى من العقد الثاني من بداية التاريخ الهجري، حيث لا زال الإسلام طريا، أحدث شرخا كبيرا في المجتمع، دفعه إلى التكتل الفرقي، ومن ثم تكوين مجموعات فاعلة جدا، إحداها كانت المجموعة السياسية ذات التطلعات والأهداف الدنيوية الكبيرة الكبيرة، التي أدركت بحدسها أنها أضعف من أن تصمد أمام مجموعة الخطوط العقدية، نظرا لما يتمتع به تلك الخطوط من قداسة تفتقد هي إليها، فأعمل فكرة وكثف جهوده لوضع نظرية بإمكانها أن تخلق له جيشا من المقدسين، بإمكانه أن يحولهم إلى معادل موضوعي يرجح كفته، وربما يعينه في تحقيق النصر، وعند هذه المرحلة بالذات، ولدت نظرية صناعة الأرباب، بسيطة، فطرية، تخطو على استحياء وخجل وربما خوف أيضا، لكنها لم تلبث إلا سنين قليلة حتى تحولت إلى قوة مهولة لها قدرة تحويل الأبيض إلى أسود، والأسود إلى ابيض، وخلط الأوراق، حتى لا يتمكن العامة من التمييز بين الحق والباطل، وهو ما حدث فعلا، وأدى إلى كل تلك الفوضى التي ملأت صحائف تاريخنا، والتي نعيش تداعياتها اليوم، حيث طغت صفة المقدس لا على المقدسين فعلا، وإنما على إمعات لا وزن لهم بالرغم من كبر أحجامهم ووضوح صورهم.
وبالتالي حدث الخلط بين الذروتين الدينية العليا، والسياسية الدنيا، وتحول الدين إلى وسيلة كسب واسترزاق، والعقيدة إلى إذاعة تروج للأفكار المنحرفة والشاذة، فعاد الإسلام أغرب مما كان عليه في أيامه الأولى، وصرنا بمجموعنا أبعد ما نكون عن ديننا؛ الذي ارتضيناه عقيدة!.
يعني هذا أننا اليوم نقف أمام امتحان عسير، يستوجب منا إعادة التفكير في عدتنا القديمة وآلياتنا التقليدية، ووسائلنا البالية، وأساليبنا التقليدية العتيقة، والبحث عن عدة وآليات ووسائل وأساليب جديدة مبتكرة، ستأخذ منا وقتا وجهدا ثمينا لمجرد التعَوُّدْ على استخدامها والعمل بها، وحينما نكتشف قدراتنا الحقيقية ممكن أن ننجح في تنقية مشاربنا، والنجاة من الورطة التاريخية التي أدخلنا إلي وهادها السلف عنوة بسبب المماحكة التاريخية.
(*) ينظر: ديوي، جون(1859ـ1952)، إعادة البناء في الفلسفة، ترجمة: أحمد الأنصاري، مراجعة: حسن حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010. ص145.