الرئيسية / مقالات / 94 حجاب العقل وحجاب الشعر

94 حجاب العقل وحجاب الشعر

السيمر / الجمعة 26 . 05 . 2017

هذه هي الحلقة الرابعة والتسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل». وحيث إني كتبت هذه المقالة في بدايات تحولي إلى اللادينية، وكتبتها باسمي الصريح، رأيت لاحقا أني كنت ما أزال أزاول، ولو بشكل محدود، التقية في هذه المرحلة، رغم إني كنت قد حسمت انتقالي إلى لاهوت التنزيه، أي الإيمان العقلي اللاديني المنزه لله، ولذا سأحور فيها بشكل محدود جدا، لتناسب ما أطرحه اليوم.

حجاب العقل وحجاب الشعر
أعود فأبين رفعا للبس، بأن ما أعنيه من الدين، ليس الجوهر الإلهي للدين، إذا افترضنا أن الله هو مصدر الدين، من قبيل إن فرض المحال ليس بمحال، وإلا فهناك جوهر إلهي للإيمان وليس للدين، لأن الدين ليس من الله، تنزه الله عن ذلك، مع هذا لنقل إننا نعني هنا على أقل تقدير الفكر الديني كنتاج بشري نسبي، وبالتالي غير معصوم. وهنا أتناول ظاهرة الحجاب بمعناها الحقيقي الشائع، وبمعناها المجازي. وحجب الشيء هو كما هو معلوم إخفاؤه عن النظر كليا أو جزئيا. ومن الحجاب حجب النعمة، بعكس إظهارها، وحجب الحقيقة، المعبر عنها بالكفر، إذا كانت متعلقة بالدين، أو بالكذب السلبي. وحيث إننا عندما نتكلم عن النعمة ما بين حجبها أي إخفائها والإسفار عنها أي إظهارها، أقول إن شكر الله على نعمه هو من أفضل صور العبادة له سبحانه، وأفضل ألوان الشكر، ليس بالضرورة قول «شكرا لله» أو «الحمد لله»، وإن كان هذا منه، إنما خير الشكر هو إظهار النعمة سافرة غير محجوبة، وهذا ما تعبر عنه الآية «وَأَمّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث»، باعتبار أن التحديث بها مصداق من مصاديق الإسفار عنها، أي إظهارها، وكذلك من أفضل ألوان التعبير عن الشكر على النعمة تسخيرها فيما فيه خير المُنعَم عليه نفسه، والأفضل من ذلك فيما فيه خير الإنسانية، والمعبر عنه بالآية القرآنية «وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ»، وكذلك بالحديث النبوي «خير الناس أنفعهم للناس».
ونحن هنا أمام نوعين من الحجاب، حجاب العقل وحجاب الشعر، كل منهما حجبٌ لنعمة من نعم الله، الواحدة هي من أعظم وأنفع نعم الله، والثانية هي من أجمل نعم الله. الحجاب أو الحَجب الأول أدى إلى نفي تسخير النعمة، والثاني إلى نفي إظهار النعمة. وفي كلا الحجابين يعتقد الكثير من أهل الدين الملتزمين والملتزمات بهذا أو ذاك الحجاب، أنه يمثل إرادة الله وأمره، بينما جوهر الدين، بل جوهر وحقيقة الإيمان، تنزه الله عن نسبة ذلك إليه تعالى، تنزيها على نحو القطع واليقين في الواحد، وعلى نحو الاحتمال الراجح رجحانا كبيرا في الثاني.
فقد ادعى بعض دعاة الدين من مختلف الأديان والمذاهب وبدرجة أو أخرى أن إعمال العقل يتنافى مع الدين والتدين والورع والتقوى، واستخدموا مفهوم التعبد بالنص المقدس مبررا لسجن العقل وراء حجاب، يمنع من استخدامه وتسخيره في كثير من قضايا الحياة المهمة، فأثر ذلك المفهوم الكارثي سلبا على العقيدة والفقه والتفسير والسياسة والعلوم الطبيعية والتطور والتقدم والمعاصرة. وهم بذلك يناقضون أنفسهم ويناقضون مقولات الدين نفسه، فالقرآن مثلا مليء بالنصوص التي تحث على إعمال العقل والتفكر والتدبر والتذكر والتفقه وإلى غير ذلك، ولو إنها تنقضها نصوص أخرى، وتدين الاتباع الأعمى لما وجد المرء عليه آباءه ومجتمعه ومحيطه، وكذلك ما يروى من حديث قدسي، هو أن الله خلق أول ما خلق العقل، وقال به أثيب وبه أعاقب، وإني أرى في هذا الحديث ثمة تصويرا رمزيا لإظهار منزلة العقل، لا يجب فهمه فهما حرفيا، حتى في عبارة «قلت له أقبِلْ فأقبَل، وقلت له أدبِرْ فأدبَر»، الذي أوِّلَ إلى معنى الاتباع الأعمى لنصوص الدين واستنباطات المجتهدين والمحدثين والمفسرين لها استنباطا فيه الغث وفيه السمين. وإذا أردنا أن نعرض عن مناقشة المدارس الإسلامية لعلم الكلام (العقائد) التي تعتمد مبدأ تعطيل العقل يكاد يكون تعطيلا كليا، والتي يسمي العقليون أصحابَها بـ (المُعَطلة) أي المُعَطلة لدور العقل، فإننا نعتب على تلك المدارس الإسلامية العقلية، إذ نراها تناقض نفسها، إذ تقول من جانب ألّا تقليد في الأصول، أي في العقائد، ومن جانب آخر تقدم رزمة جاهزة غير قابلة للمناقشة من عقائد يجب الأخذ بها كلها بتفاصيلها، ويكون من يأخذ منها جزئيا أي ببعضها دون الآخر، بحيث لا يتعقل بعض مفرداتها مما يسمى بضرورات الدين أو ضرورات المذهب، يقال عن ذلك الإنسان الذي عمل بقولهم فلم يقلد في العقيدة، بأنه نقض ضرورة من ضرورات الدين، أو من ضرورات المذهب، وبالتالي يكون مطرودا من المذهب (الحق) أو من الفرقة (الناجية)، أو من عموم الدين، أو أقل ما يقال عن الذي لم يأخذ بتلك الرزمة العقائدية المغلفة كليا، بل فتح الرزمة واختار منها، فما أيد عقله صدقه منها، وترك ما دونه، عن مثل هذا يقال أنه خالف ضرورة من الضرورات، وهذا تعبير مخفف عن رمي ذلك الإنسان بالكفر والارتداد.
هذا ما يتعلق بحجب العقل، وكذلك ادعى أكثر دعاة الدين، لاسيما دعاة الإسلام، أن إظهار شعر المرأة هو إظهار لعورتها، ولم يفكروا أن الله يستحيل عليه أن يخلق للإنسان زينة – والشعر زينة المرأة -، ثم يأمر ليس فقط بحجب هذه الزينة عن النظر، بل بحجبها عن الهواء ونور الشمس وبالتالي إتلافها، فنرى لذلك أكثر المحجبات يعانين من تلف شعرهن بسبب الحجاب، لاسيما إذا كن مضطرات لوضعه أكثر ساعات النهار. وادعوا دعوى غريبة جدا، ألا هي دعوى أن في إظهار الشعر إثارة للغريزة الجنسية للرجل، بينما لم يثبت شرعا ولا عقلا وجوب الحجاب، ولم يثبت أن الرجل إنما يثار جنسيا من الشعر، إلا من كان يثار بلفظ (أنثى)، لكنه عُرفٌ تعارفت عليه الأجيال، ورفض الفقهاء الذكور بفقههم الذكوري أن يتعبوا أنفسهم في دراسة الدليل دراسة معمقة، وتعاملوا مع الحجاب كالتعامل مع مفهوم التسامح في أدلة السنن، مع الفارق الكبير بين ذا وذا، واعتبروه من المسلمات ومن ضرورات الدين، وليس هو كذلك حتما وقطعا. فمن جانب يشرع بعضهم لاستمتاع الرجل بشتى أساليب الاستمتاع الجنسي الشاذة وغير المراعية للطفولة مثلا، بحيث أجاز بعضهم حتى التمتع بالطفلة الصغيرة من غير إدخال، والحمد لله الذي التفت إلى استحالة الإدخال دون تمزيق أحشاء الطفلة، بل وأجازوا الإدخال بمجرد حصول الدورة الشهرية للمرة الأولى عند الطفلة، حتى لو كانت ذات عشر سنوات أو أقل من العمر إذا بلغت، غير آبهين بالأضرار والمخاطر الصحية والنفسية لهذه الطفلة، ومن ناحية أخرى يفرضون الحجاب على الأنثى من يوم بلوغها الثماني سنوات وثمانية أشهر وثلاثة أسابيع (عند الشيعة) حتى آخر عمرها، حتى عند بلوغها من الكبر عتيا، بينما القرآن يقول «وَالقَواعِدُ مِنَ النِّساء اللّاتي لا يَرجونَ نِكاحًا فَلَيسَ عَلَيهنَّ جُناحٌ أَن يَّضَعنَ ثِيابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِّجاتٍ بزينَةٍ، وَّإِن يَّستعفِفنَ خَيرٌ لَّهُنَّ، وَاللهُ سَميعٌ عَليمٌ». وعلى ذكر ما يؤدي الحجاب من إتلاف لشعر المرأة المُحجَّبة، فإن حجاب العقل يؤدي هو الآخر إلى إتلاف العقل، الذي لا يخفى على أحد أن ضرره يفوق ضرر إتلاف الشعر، كما يفوق ماء البحر ماء لجة صغيرة. وإذا قلنا أن إخفاء النعمة تخالف الشكر الذي هو أفضل أنواع العبادة، فإن إتلافها علاوة على إخفائها لأشد تعارضا وتقاطعا وتناقضا مع مبدأ شكر النعمة.
أرجع وأقول إن الله سبحانه وتعالى لمتعال أيّما تعال، ومتنزه أيما تنزه، عن كل هذا العسف الفقهي، ولذا فلعلنا بأمس الحاجة إلى فقهاء ومفكرين إسلاميين وعلماء كلام يملكون الشجاعة واحترام العقل الكافيين لإعادة صياغة الدين، وأقصد بالدين – كما ذكرت في بداية المقالة – الفكر الديني البشري النسبي، مجاراة لمن يعتقد أن الدين هو من صنع الله، ولا أعني به الحقيقة الإلهية المطلقة المجردة المفترضة، التي لا يملكها إلا الله، وإلا من انكشفت له حجب الغيب، وإلا من لا يعلمه إلا الله وحده. بل نحتاج أكثر إلى تصحيح مفهوم الإيمان ونفي التلازم بينه وبين الدين، إذا لم نقل بوجوب التفكيك بينهما، تنزيها للإيمان، وتنزيها لله.

27/04/2008

اترك تعليقاً