السيمر / الثلاثاء 30 . 05 . 2017
ضياء الشكرجي
هذه هي الحلقة السادسة والتسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث سنكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل» وهذه الحلقة الثانية من ثلاث حلقات حول مصادرة الحريات من قبل الأديان.
يبقى هل يصادر الإسلام حرية الاعتقاد، أم لا يصادرها؟ وهنا دعوني أناقش هذه المسألة، بأن أضع نفسي مكان ثمة إنسان لا هو بمؤمن بالإسلام، ولا هو بكافر به، بل يتخذ موقف الحياد واللاأدرية فيما يتعلق بمصدر الإسلام، إلهيا كان أو بشريا. فجميل للإنسان الموضوعي عندما يريد أن يناقش مسألة ما مناقشة علمية موضوعية أن يتجرد من عقيدته، الخاصة وينتزع نفسه منها، ليراقب القضية من الخارج بحياد، لا مُدافعا مُبرِّرا، ولا مُتهِّما مُدينا. لأننا بذلك نستطيع أن نوسع دائرة المخاطَبين لتشمل الآخر القريب والآخر البعيد، ولا نمارس حوار الذات بمخاطبة الذات وتأييد الذات للذات، بما في ذلك الذات الجماعية.
من الممكن أن أسرد الأدلة النظرية الكثيرة على عدم مصادرة الإسلام لحرية العقيدة المغايرة، وأؤوّل كل النصوص التي يدل ظاهرها على تبني الإسلام لمبدأ مصادرة حرية العقيدة المغايرة إلى ما ينفي ذلك، عبر ما يسمى بالتفسير الموضوعي، أي الكلي، في مقابل التفسير الجزئي، أو المجتزئ للنصوص والمنتزِع لها من سياقاتها المتصلة والمنفصلة، أي دون عرضها على ما سواها من نصوص تعالج ذات الموضوع، للخروج بنظرية واضحة في القضية موضع البحث. وهنا يمكن أن يأتي من يمارس منهجا لا يقل عن منهجي علمية لإثبات خطأ ما ذهبت إليه، ولو على نحو التخطيء الجزئي، إلم يكن تخطيئا كليا. صحيح إنه من الممكن أن يقال أن هذه النتيجة التي سينتهي إليها صاحب الفهم الآخر والمغايرة للنتيجة التي يمكن أن أنتهي إليها، إنما كانت بسبب ثمة ثغرة في المنهج العلمي الذي افترضنا أنه انتهجه، ولكن يمكن في المقابل أن يطرح السؤال، ما إذا كان منهجي خاليا تماما من الثغرات، مما أكون مكابرا لو ادعيت ذلك. إذن النصوص قابلة للخروج منها بنظريتين متقابلتين على نحو التضاد، أو بنظريات بينية متعددة تتوسط النظريتين. وكل نظرية يمكن أن يثبت صاحبها أنها تمثل رؤية الإسلام في القضية موضع البحث، والتي هي هنا موضوعة حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد، وفي مقابلها نفي حرية الاعتقاد وحرية عدم الاعتقاد، بما في ذلك حرية الإيمان وحرية الكفر، أو حرية الإيمان المغاير، وحرية التحول من إيمان إلى إيمان مغاير، ومن كفر إلى إيمان، ومن إيمان إلى كفر.
لكن الذي نستطيع أن نقرره من خلال تنزيه العقل لله سبحانه وتعالى علوا كبيرا عن الكثير مما يصفه الكثير من المتدينين، بل وربما الكثير من الأديان أو المذاهب أو طرق فهم الدين، هو إن الاقتناع بشيء أو عدم الاقتناع لا يمثل سلوكا اختياريا، حتى يعاقَب عليه الإنسان دنيويا أو أخرويا، بل الدين والإيمان والاعتقاد والاقتناع أو عدمها ومقدار كل منها إيجابا أو سلبا من الأمور التي يواجهها ذهن المتلقي، فيقتنع أو لا يقتنع، يؤمن مطمئنا، أو يؤمن إيمانا ظنيا، أو إيمانا يشوبه الشك، يوقن أو يشك، يقبل أو يرفض، بحسب أدلة الإقناع، وبحسب القابليات الذهنية والاستعدادات النفسية لمن تُعرَض عليه فكرة الدين، علاوة على المؤثرات الخارجية. ومن هنا فإن دينا يصادر هذه الحرية، ليس بدين الله حتما، أو هو دين إلهي بفهم بشري خاطئ. فمن ينسب مصادرة حرية العقيدة إلى الإسلام مثلا، فهذا الإسلام المنسوب إليه مصادرة الحرية ليس إسلام الله بكل تأكيد، فمن ظن أن الإسلام واقعا وليس وقفا لفهم أتباعه أو بعض أتباعه أو الكثير من أتباعه أو حتى جُلّ أتباعه، بل هو بالذات، أي هذا الدين بنفسه وبحقيقته هو الذي يصادر حرية العقيدة ويقمعها، فنفر فريق من هذا الإسلام ورفضه تنزيها لله سبحانه، فهذا الفريق من غير شك قد أسلم لله بالمعنى الأعم لمفهوم الإسلام له سبحانه، من حيث القصد والنية، حتى لو لم يكن من حيث الواقع الفعلي، وكان صادقا مع الله حتى لو أوصله تفكيره، لعيب أو قصور فيه هو أو في المحيط الديني من حوله، إلى الخطأ أو ما يسمى بالكفر، فيكون بلا شك مثابا من الله على صدقه وعلى تنزيهه لربه، مغفورا له منه سبحانه على خطأ النتيجة التي آل إليها.
فإنني أكاد أجزم أن تاريخ الإسلام، وتاريخ بقية الأديان من مسيحية ويهودية وغيرها مليء بالشاكّين أو المؤمنين الظنيين أو اللاأدريين أو غير المقتنعين في العمق بذلك الدين، أو المؤمنين به على طريقتهم التي تختلف عن طريقة فهم العامة، ومنهم من عاش علاقة روحية حميمة مع الله، وجسد في سلوكه ذروة الإنسانية وغاية العقلانية، عاشوا وماتوا ولا أحد يعرف حقيقة عقيدتهم، سواء كانوا من عامة الناس، أو من المفكرين والفلاسفة واللاهوتيين، بل وحتى من رجال الدين (علماء، فقهاء، مفسرون، قسسة، رهبان، أحبار، حاخامون، كهنة …). ولذا ترى الكثير من المؤرخين الذين يتناولون شخصيات من مفكرين وفلاسفة وشعراء، من مختلف ما ذُكر وما لم يُذكَر من أديان، يختلفون في تقرير حقيقة عقيدة هؤلاء، لاضطرار تلك الشخصيات لمزاولة التقية والتخفي، أو سمه النفاق. وهنا يجب القول أن النفاق الاضطراري تقية في حقيقته، حتى لو كان صاحبها على عقيدة باطلة، والتقية النفعية غير المبررة بضرر محتمل يُعتَدّ به هي نفاق حتى لو كان صاحبها صدفة على عقيدة حق.
ثم ماذا نسمي إسلاميي زماننا مثلا، ممن يدعي الإيمان بالديمقراطية والدولة المدنية ومواثيق حقوق الإنسان الدولية ومساواة المرأة مع الرجل في حقوقها المدنية والسياسية، وهو في العمق كافر بكل ذلك، متحين فرص الانقضاض عليه كله، أو جُله، أو ما أمكن منه. لماذا يعتبر هؤلاء – ولو من غير تصريح بذلك – غيرهم من المسلمين غير الملتزمين أو غير الإسلاميين منافقين في حقيقة عقيدتهم، ولا يعتبرون ممارستهم هم نفاقا؟ فهل المتدين يملك ترخيصا من الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بأن يكون له غطاء شرعي للكذب، وغطاء شرعي للنفاق، فيكون عندنا لون من النفاق (المقدس)، والباطنية، وغطاء شرعي للغش، وغطاء شرعي للسرقة، وغطاء شرعي للقتل، ويعتبر القليل من ذلك – باستثناء القتل طبعا – من الآخرين جريمة لا تُغتفَر، بل يستحق صاحبها البغض واللعن أو التصفية الجسدية في الدنيا، والخلود في النار في الآخرة؟
إذن التقية المشروعة تكون كذلك، كلما خاف الإنسان على حياته أو حريته أو كرامته أو سمعته، بشكل لا يُتحمَّل عادة، بقطع النظر تماما عن عقيدة ذلك الإنسان. وبعكسه النفاق غير المشروع هو التخفي بعقيدة غير عقيدة المتظاهر بها حقا، من غير مبرر معتد به، بل من أجل منافع، سمها دنيوية، أو مادية، أو أنانية محضة، شخصية، أو أسرية، أو عشائرية، أو فئوية، أو طائفية، أو حزبية، تقدم على مصلحة أو مصالح عامة حقيقية يعتد بها، وهي أكبر وأهم من تلك، ودون وجود خوف من ضرر حقيقي ومهم، حتى لو كان لا يمس إلا الشخص نفسه، مما يعتد به، ولا يدرأ إلا بضرر أكبر أو أعم منه.
وأخيرا أقول سبحان ربي الله محمودا بكل محامده، ومُنزَّها عن كل ما يُنسب له من نقص أو ظلم، سبحانه وبحمده، إذ خلق الإنسان حرا مختارا، وكان أرحم به مما يُنسَب إليه من قبل الكثير من الأديان والمتدينين، سبحانه من مثيب لعباده على صدقهم يوم يلقونه فيكون قوله تعالى: «هـاـذا يَومُ يَنفَعُ الصّادِقينَ صدقُهُم»، إذ يبعث الله الناس، إذا بعثهم، لا ليسأل المؤمنين عن إيمانهم، أو الكافرين عن كفرهم، بل «لِيَسأَلَ الصّادِقينَ عَن صدقِهِم» والكاذبين عن كذبهم، ويجزي الإنسان على عمله حسنا أو سيئا، وبقدر نيته، وعلى ضوء كل الحيثيات التي ساهمت في صنع شخصيته، وبلورة ذهنيته، وصياغة نفسيته، وكل ما دفعه إلى هذا أو ذاك السلوك، فيجزيه بمقدار عناصر الاختيار في تركيبة شخصيته وسلوكياته وأفكاره وعقائده، ولا يكون محاسَبا على ما كان نتاجا لعناصر الجبر في كل ذلك. ومن يدري فلعل نار جهنم – على فرض وجودها – ستستحيي يومئذ من رحمة الله، فيحيلها حياؤها بردا وسلاما، ولا تكون لأحد مقرا ولا مقاما، إلا الذين دمروا بظلمهم وطغيانهم وجرائمهم الإنسانية، فاستحق من كانوا ضحاياهم أن يثابوا بعقابهم، إلا إذا جعلت رحمة الله أولئك الضحايا يستحيون هم بدورهم من مشاعر الرغبة في الانتقام من ظالميهم، لاسيما عندما يرون ما أعده الله لهم من تعويض وجزاء لا يتناسب مع كل ما عاشوه من معاناة، بل إن ربهم قد أعد لهم ما يعوضهم به عنها بأضعاف أضعافها برحمته، سبحانه من إلهِ عدلٍ، سبحانه من إلهِ رحمةٍ، سبحانه من إلهِ حبٍّ، سبحانه من إلهِ سلامٍ، يوم يدعو عباده «ادخُلوها بِسَلامٍ آمِنينَ» بمقدار ما جسدتم إنسانيتكم، وبمقدار ما أعطيتم للناس من سلام وأمن ومحبة.
ملاحظة: النصوص القرآنية التي استشهدت بها، ليس من قبيل الإقرار بإلهيتها، بل من قبيل إلزام من يؤمن بإلهيتها بما ألزم به نفسه، ثم الموضوعية تدعو ألا يكون للإنسان عقدة من الاستشهاد بحكمة أو مقولة يرى صحتها، بقطع النظر عن قائلها، لأن القرآن ككتاب استثنائي، بالرغم من كل انتقاداتنا له وتحفظاتنا عليه ورفضنا لدعوى إلهيته، يشتمل حقا على تألقات وإشراقات.
24/01/2008