الرئيسية / مقالات / 98 التحول الديني والدين كعامل تفريق وأهمية الانفتاح

98 التحول الديني والدين كعامل تفريق وأهمية الانفتاح

السيمر / السبت 03 . 06 . 2017

ضياء الشكرجي

هذه هي الحلقة الثامنة والتسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل»، وتشتمل هذه الحلقة على ثلاث مقالات قصار.

التحول الديني والمذهبي بين الاستبصار والاستعماء
أو: التلازمات الوهمية
رغم إن الموضوع عاما وشاملا، يشمل كل حالات التحول من دين إلى دين، أو من مذهب إلى مذهب، أو من عقيدة إلى عقيدة، استعرت المصطلح الشيعي لما يستخدمونه عنوانا للتحول من التسنن إلى التشيع، أي حسب مصطلحاتهم الفقهية من مسلم مخالف إلى مؤمن، أو موالٍ. فالمؤمن عندهم بمعنى الإيمان بالولاية أي ولاية (أمير المؤمنين) علي بن أبي طالب، والموالي بمعنى موالاة أهل البيت (علي وفاطمة والأئمة)، كشرط لانطباق العنوان الفقهي لـ(المؤمن) على المسلم، وإلا فهو – صحيح مسلم لنطقه بالشهادتين – لكنه فقهيا مسلم (مخالف)، بمعنى مخالفته للإمامة، أو لأهل البيت، أو لـ(المذهب الحق). هذا التحول المذهبي الذي استعرت مصطلحهم عليه عنوانا لهذا الموضوع يسمونه استبصارا، ويكون المتحول من التسنن إلى التشيع مستبصرا، لأنه انتقل إلى مذهبهم الذي يسمونه المذهب الحق. وقد يكون هناك من المبررات لأن يسمى هذا الذي يسمونه استبصارا استعماءً، لأنه ربما يكون تحولا من عمى إلى عمى آخر، حتى لو كان عمى أقل عتمة عما قبله في بعض جوانبه، وحتى لو كان في معظم جوانبه، إلا أنه قد يمثل أشد عتمة في جوانب أخرى. أو هو انتقال من انعدام للبصيرة، إلى انعدام من نوع آخر، أو من درجة أخرى تقل أو تزيد. وكنت مرة قد استلمت تعميما وصلني إلى عنواني الألكتروني يشتمل على قصيدة، كتب عنها المرسِل (المُعمِّم) تعليقا هو «قصيدة لشاعر جزائري مستبصر»، فكتبت له: «وهل الانتقال من عمى إلى عمى آخر هو استبصار؟».
المشكلة تكمن في أن الكثير من المسلمين يتوهمون التلازم بين الدين والتمذهب، كما إن الكثير من الناس يتوهمون التلازم بين الإيمان والدين، فعندما يعيش المسيحي شكا في صحة الكثير من عقائد المسيحية، كالتثليث وبنوة المسيح لله، وتجسد الله في المسيح، ويجد في الإسلام فيما يتعلق بهذه المفردة بالذات جوابا مقنعا له أكثر مما يطرحه اللاهوت المسيحي، فيتحول إلى الإسلام. أو بالعكس عندما ينفر المسلم من الكثير مما في الإسلام من عنف وقتال واحتراب، ومن أحكام مرهقة عبر الكثرة المبالغ بها من الواجبات والمحرمات، فيجد في المسيحية معاني المحبة والسلام، وتخفيفا في الأحكام والتشريعات الدينية، وروحانية أكثر صفاءً في أجواء الكنيسة من صخب المسجد والحسينية، فيتحول إلى المسيحية، وإن كانت هذه الحالة لم تتحول من السعة إلى ما تعتبر بها ظاهرة. وهكذا نجد السني عندما يكتشف قرب التشيع أكثر إلى العدالة برفضه للحاكم الظالم، حتى لو كان مسلما، بعكس ما هو غالبا في الفقه السني، إذ يوجب طاعة الخليفة أو الأمير أو الإمام المتولي للإمامة الكبرى، ويحرم الخروج عليه حتى لو ظلم وفسق، أو يكتشف – أي السني – الأدلة، أو ما يعتبره أدلة على أحقية أئمة أهل البيت في الخلافة، فيتحول إلى التشيع، أو هكذا إذا ما اكتشف الشيعي مبالغة في التشيع في تقديس أهل البيت، والاستغراق في الشعائر والزيارات، بما يقترب من العبادة لهم أو تأليههم، ولو من قبل التشيع الشعبي، أو حسب رؤية من الرؤى الشيعية التي تقترب من الغلو، نجده قد يختار التحول إلى التسنن، بل التسنن المتطرف المتجسد بالوهابية، متوهما أنه أكثر تجسيدا لمبدأ التوحيد. الأورپي عندما يعيش الظمأ الروحي في المجتمع الغربي الذي يعاني الجفاف في القضايا الروحية، تراه يتحول إلى مسلم أو بوذي. وغالبا ما يكون المتحول متعصبا للدين أو المذهب الذي يتحول إليه. حتى الملحد عندما يقتنع يوما بقضية الإيمان بالله، ويتحول من ملحد إلى إلهي، يتصور ألّا خيار له إلا أن يكون دينيا، فيعود إلى مسيحيته، أو إسلامه، أو غيره من الأديان، أو يختار دينا مما يرى بين يديه. بل حتى الديني عندما يكتشف في دينه أو عموم الأديان الخرافة واللامعقولية أو عدم المعاصرة، أو الدعوة للعنف، أو التعصب والتطرف والتعارض مع حقوق الإنسان، يرفض أصل الإيمان بالله، ويتحول إلى ملحد أي لاإلهي، لتوهمه التلازم بين الإلهية والدينية، وبالتالي بين اللادينية واللاإلهية، وهذا لا يشمل من يتحول إلى الإلحاد عن قناعة وليس بتوهم التلازم بين اللادينية واللاإلهية، وبعكسه الآخر الذي يتوهم التلازم بين الإلهية والدينية.
المتحول من دين أو مذهب ما لشكه بسلامته، يتوهم أنه كمؤمن إلهي ليس له إلا أن يكون دينيا، وكديني ليس له إلا أن يكون على دين والديه، وكمسلم ليس له إلا أن يكون متمذهبا بأحد مذاهب الإسلام التقليدية، وكمذهبي لاسني ليس له إلا أن يكون شيعيا، أو كمذهبي لاشيعي ليس له إلا أن يكون سنيا، غير ملتفت إلى أن كل هذه التلازمات غير واقعية، ولا أساس لها. وهكذا المؤمن الإلهي الديني الذي يكتشف في دينه ما يجعله يعيد النظر في انتمائه إليه، يتوهم أنه كإلهي لا بد له أن يكون دينيا، وبالتالي لا بد أن يختار دينا من الأديان غير دينه الذي فتح عينيه عليه. التحول نفسه ممدوح كونه يمثل شجاعة وتجردا، وإذا كانت الشجاعة قد بلغت أقصاها في رفض دين محيطه وبيئته وموروثه، فإن التجرد يبقى تجردا محدودا وضيقا. وهذا يقال أيضا عن الملحد المتحول إلى إلهي، فيتوهم ألّا خيار له إلّا أن يكون منتميا إلى واحد من الأديان الموجودة في الواقع. بل حتى الديني عندما يتحول إلى لاديني قد يتوهم ألّا خيار له إلا الإلحاد. نعم إذا اختار الإلحاد لاقتناعه بعدم وجود الله، فهذا خيار يحترم، وإن اختلفنا معه فيه، ولكن إذا كان إلحاده قد جاء كلازم من لوازم رفضه للدين أو عموم الأديان، أو إذا كان إلحاده قد جاء لرفضه لصورة الله التي رسمتها ريشة دينه الذي كان عليه، فهنا يكمن الخلل، إذ يتوهم هذا المتحول التلازم بين الله وبين صورة ذلك الدين عن الله، أو عموم صور الأديان عن الله.
إذن نحن أمام تلازمات وهمية، بينما هي بحكم المنطق والمنهج العقلي، مما لا تلازم فيه، فلا تلازم بين الإيمان بالله والدين، ولا تلازم بين اللادينية واللاإلهية، ولا تلازم بين رفض دين ما ووجوب التحول إلى دين آخر، وهكذا بالنسبة للمذهب والمذهب الآخر، بل لا تلازم بين التدين والتمذهب.

الدين عامل تفريق بين العشاق وبين الناس
من أكثر ما يربك الدين به حياة الناس، إنه يفرق غالبا بين إنسانَين انسجما فكرا وقناعات وأخلاقا وسلوكا ومزاجا وذوقا، فأحب أحدهما الآخر، وعشق أحدهما الآخر، وتماهى أحدهما في الآخر، وكانت سعادتهما في وصالهما، وتعاستهما في فراقهما، فيأتي الدين، وأحيانا يأتي المذهب من داخل نفس الدين، أو يأتي الالتزام، أو تنوع الولاءات داخل نفس المذهب، ليفرق بينهما، ويختار لهما الشقاء والعذاب بافتراقهما، بدلا من السعادة والهناء في اجتماعهما زوجين، أو حبيبين أو بأي علاقة يختارانها. وأحيانا إذا ما كان الدين أو صورة من صور فهمه ومزاولته على درجة من التسامح، فيأتي المتزمتون من المتدينين، ليضيفوا إلى تزمت دينهم تزمتا إضافيا من عند أنفسهم، ليتحول بالتدريج إلى بديهية دينية، أو يُلغون تسامحا ومرونة يشتمل عليهما الدين أو صورة فهم له، ليستبدلوهما بمزيد من التشدد والجمود والتصلب والتحجر والظلامية والخرافة. هذا ناهيك عما سبب الدين والتدين، وسببت الطائفية والتطوؤف والتمذهب، على مر التاريخ من عداوات وحروب وأنهار من دماء، وهدرت من أموال وثروات وطاقات.

أهمية الانفتاح بين الاعتقادات على مشترك الإنسانية والعقلانية
من أجل أن أوضح منذ البداية ماذا أقصد بالاعتقادات في هذه المقالة بالذات، أقول إن المعني بالاعتقادات هي عقائد الإيمان واللاإيمان بالأشكال المختلفة لكل منهما، أي المواقف المختلفة من الميتافيزيك (الميتافيزيق أو الميتافيزياء)، أي ما وراء الطبيعة، وما يسمى بلغة القرآن بعالم الغيب. وهذا يعني أن المطلوب أن يجري انفتاح متبادَل بين كل من:
1.الدين
2.الدين الآخر أو الفهم المغاير لنفس الدين
3.الانتماء الديني اللاملتزم
4.الإيمان اللاديني
5.العلمانية
6.الإلحاد أو اللاأدرية
ولكن هذا الانفتاح المتبادَل بين المتضادّات، أو بين المتناقِضات من وجه، لا بد أن يكون مُؤسَّسا على مساحة مُشترَكة، فيما لا تناقض، بل ولا تضادّ بين بعضها البعض. هذه المساحة المشتركة هي تلك المُتشكِّلة من ثنائية:
1.الإنسانية
2.العقلانية

وإلا فأيٌّ من
الدين اللاإنساني، أو اللاعقلاني، أو الدين اللاإنساني واللاعقلاني
اللادين اللاإنساني، أو اللاعقلاني، أو اللادين اللاإنساني واللاعقلاني
العلمانية اللاإنسانية، أو اللاعقلانية، أو العلمانية اللاإنسانية واللاعقلانية
الإلحاد اللاإنساني، أو اللاعقلاني، أو الإلحاد اللاإنساني واللاعقلاني
أيٌّ من ألوان الاعتقاد هذه هو غير قادر أو مؤهل للانفتاح على غيره، كما إنه غير مؤهل لأن يُنفتَح عليه، إلا بمقدار ما يُرى من أمل في تغييره، أي أنسنته وعقلنته، أو تغيّره ذاتيا، أي تأنسنه وتعقلنه، ولو ظاهرا واضطرارا أحيانا، وكمرحلة، لحين تأنسنه وتعقلنه الحقيقيين، ولو بنسبة، في المستقبل ذاتيا، أو لحين إنهاء تأثيره السلبي في حياة المجتمعات الإنسانية.
أما بالنسبة لألوان الدين الملتزم، والدين اللاملتزم، والإيمان اللاديني، والعلمانية، والإلحاد، لكل هذه الألوان الاعتقادية المستوفية لشرطي الإنسانية والعقلانية، أي بالنسبة لكل ما يتحرك على المساحة المشتركة، فسيكون أمامنا:
1.دين ينفتح على الفهم الآخر المغاير لنفس الدين، وعلى الانتماء اللاملتزم إليه، وعلى الشك فيه من منتسبيه، وعلى الارتداد عنه، وعلى الدين الآخر، وعلى الإيمان اللاديني، وعلى الإلحاد، وعلى العلمانية، مع إن بعض الفهم للدين قد يكون نفسه علمانيا، ولو من الناحية السياسية.
2.إيمان لاديني ينفتح على الفهم الآخر المغاير للإيمان اللاديني، وعلى الدين بتعدديته وتنوعات فهمه، وعلى الإلحاد، ولا نقول على العلمانية، فهو علماني بالضرورة.
3.علمانية تنفتح على الفهم الآخر المغاير للعلمانية، وعلى الدين بتعدديته وتنوعات فهمه، الملتزم منه واللاملتزم، وعلى الإيمان اللاديني، وعلى الإلحاد.
4.إلحاد ينفتح على الفهم الآخر المغاير للإلحاد، أو اللاأدرية، وعلى الدين بتعدديته وتنوعات فهمه، الملتزم منه واللاملتزم، وعلى الإيمان اللاديني، ولا نقول على العلمانية، فهو علماني بالضرورة.
والانفتاح المتبادَل يعني بالضرورة المساواة في حق كل من ألوان الاعتقاد المطروحة في الترويج، وكذلك حقه في نقد الآخر المُنفتِح والمُنفتَح عليه، بشرط الالتزام بثنائية المساحة المشتركة (الإنسانية/العقلانية).
إذا ما سار المجتمع الإنساني في مسار الانفتاح العقائدي المتبادَل هذا، وذلك انفتاحا إنسانيا وعقلانيا، ساد العدل بدل الظلم، والسلام بدل الاحتراب، والصداقة بدل العداوة، والمحبة بدل الكراهة، والموضوعية بدل اللاموضوعية. فتمتلئ الأرض تلقائيا عدلاً وقسطاً وحباً وسلاماً وعلماً وإصلاحاً وبناءً ورفاهاً، بعدما مُلِئَت ظلماً وجَوراً وكُرهاً وعنفاً وجهلاً وإفساداً وهدماً وفقراً لأجيال وأجيال وأجيال، ولقرون وقرون وقرون، ولعهود وعهود وعهود، ولعصور وعصور وعصور، كل ذلك عبر ..
الانفتاح المتبادَل،
والإنسانية،
والعقلانية،
أسسا للتعايش.

15/11/2008

اترك تعليقاً