السيمر / الجمعة 08 . 12 . 2017
هاتف بشبوش
في يومٍ بهي وشهرٍ زاهدٍ وسنةٍ ملفعة بغيوم اللغة الرصينة ، أمطرت السماء في مدينة السماوة كلمات موزونة فراهيدية مقفاة ذات معنى ، وبإيقاعٍ موسيقي ومعنوي مذهل تجمعت كلها وأنجبت لنا في عام 1924 الشاعر عبد الحسين الخطيب ومن منا لايعرف هذا العلم البارز وسيظل هكذا اليوم وغدا وبعد أجيال لما تركه لنا رحمهُ الله من منجز عظيم في عالم الشعر الوجداني والسياسي والحسيني وماتغزّل بالنساء والمفاتن التي تستيقظ لها أعين الرجال فتستثار لمجرد النظر الى الرقاب المرمرية والوجوه ذات النبع النوراني والصدور الخافيات العارمات خلف العباءةِ السوداء .
الشاعر عبد الحسين زرع وحصد ثم أعطى ثماره فماعلينا سوى أن ننضد العناقيد العنبية لشعره بشكلها الجميل ثم نرش عليها رذاذ الماء كي تظهر بمظهرها البراق النظيف الذي يليق بأفواه النساء المعطرات بوصفه كما نرى لاحقا في ديوانه مدار بحثنا هذا ( نداء الجراح ) الذي إشتمل على أكثر من ثلاث مئة صفحةٍ من القطع الكبير .
أرى في هذا الديوان الكثير من الأشياء إجتمعت بقوة النص وصاحب النص وإطلالة الكلمات من شاعر له اسمه المعروف في السماوة والعائلة التي اتخذت من الأدب مهنة وحرفة وذائقة . عبد الحسين هو ذلك الرجل الذي يدخل سويداء القلب بلا إستئذان كماعرفناه .
عبد الحسين الخطيب كحال أغلب الشعراء الوطنيين الذين ناضلوا ضد الطغيان وجربوا السجون تراه في صراع دائم بين أن ينسى وبين أن يتذكر تلك العذابات التي نالها جسده وعقله في السجون حيث عنف الجلادين أو في الشوارع حيث رؤيا الظلم عن كثب لفقر الناس وماتفعله الزمر الموالية للأنظمة الرجعية والقومية الشوفينية بشعوبها ولذلك قال ميلان كونديرا (انّ صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان).
كتب عبد الحسين الخطيب في ديوانه هذا كثيرا عن جراحات العراق والأمة العربية وعن عبد الكريم قاسم في اكثر من نص وعن آيار العمال وعن فلسطين وثورة تموز وحرب حزيران 1967 وحرب تشرين الأول 1973 ، فكلها شروحات وطنية خالصة تتغنى بالذود عن الأرض وعن الوطن. ولذلك نرى ثاني قصيدة في الديوان مهداة الى ثورة تموز 1958( فلابد لليل من آخر) التي يقول فيها :
أطلّي على شعبك الثائرِ كإطلالة القمر الزاهرِ
مدي الظلالَ بخير الرؤى تحومُ على الفلك الدائرِ
وارخي عنان المنى الحالمات لتختال في الموكب الظافرِ
أيا إبنة تموز والذكريات نشاوى تراقصُ في الخاطرِ
الى ان يقول …
يرف التحرر في وجنتيك ويومض من وجهك الساحرِ
وأقوى من الموت والمعتدين بحنكة ربّانكِ الماهر ِ
ويقول في ذكرى تقسيم فلسطين 1948 نصا بعنوان ( الحياة كفاح) …
تقدّم لنطرد عن أرضنا قراصنة من أذل الأممْ
تقّدم وطهّر ثرى القدس من جراثيمٍ تنفثُ حقداً وسمْ
تقدم سلمت الى تل أبيب لنرفع قهرا عليها العلم ْ
تقدم لعزٍ يهان ومجدٍ يداس وحق لنا يخترمْ
حتى ينتهي فيقول ……
فدعها وجرد حسام الجهاد وإلاّ تعضّ بنان الندم
وعهدي بأنك يوم النزال تصول وتثبتُ طودا أشمْ
هذه النصوص كانت تكتب في زمن الأغاني واللحن الذي يثير الحماس في نفوس الغيارى فكانت الإذاعات تدوي بتلك الأغنية الفلسطينية الشهيرة بعنوان (الثائر) من كلمات محمد حسيب القاضي وتلحين وجيه بدر خان (حين يصيح البروقي مافي عوقي …كلاشنكوفي يسابقني يطير من شوقي… لوميت طيارة من فوقي .. لو ميت دبابة قدامي .. بجعل درع من صدري واحمي رفيقي… بإيديّ أشد من ليلي خيط شروقي) . فكان بالفعل صوت الرصاص هو نغم جميل بالنسبة للثائرين عكس مانراه اليوم ومجرمي الدواعش الذين جعلوا من مسار الرصاص يتوجه لشعوبهم وأخوانهم وأهاليهم فبالتأكيد هنا سيكون الدوي قبيحا ملعونا ونذير شؤم . وكم هي نتاجات الفن السابع التي أتحفتنا بالكثير من الأفلام حول تحرر الشعوب وخلاصها من الإحتلال والإستعمار وكم هي الجيوش بجحافلها التي كانت تتغنى بالأغاني الثورية الحربية التي تلهب الجندي ومنها فلم إنقاذ الجندي رايان ثمثيل توم هانكس وفلم عن حياة الرئيس جوزيف بروز تيتو وكيفية نضاله العسكري في تحرير يوغسلافيا تمثيل الراحل( ريتشارد بريتون) والحرب الأهلية في أسبانيا التي غطى أحداثها أنذاك أرنست همنغواي .
كل هذا النوع من الكتابة والبوح تعطينا إنطباعا حتميا بوطنية الشاعر عبد الحسين وحبه لشعبه وناسه وهذا يغيض السلطة الغاشمة أنذاك مما أدى الى تعرضه الى السجن في العمارة 1963 فكتب نصا من هناك تجاوز على ثلاثة عشر صفحة (قصة ثورة مدينة) :
ويد الصراع المذهبي تسومها سوء العذابَ
قامت فحامت حولها شبهات شكٍ وارتيابِ
وأتت بغير أوانها فتجنبت سبل الصوابِ
كم من بريءٍ أودعته السجن من غير ارتكابِ
كم حرمةٍ هتكت بعين تسلطٍ ويد استلابِ
ثم يكمل فيبوح …..
واضيعتاه وهل لعهد الظلم ذلك من إيابِ
سحقته أقدام الجموع فصار من بعض الترابِ
يبدو انّ الشاعر هنا كان سجينا في أيام الحرس البعثي القومي وشباط الأسود ، هذا يعني ان موجة اليسار شملته في ذلك الوقت وهذا واضحا جليا في أكثر قصائده . وحتى الصراع الطائفي كان في ذلك الوقت يمارس ولكنه في الأقبية والسجون واليوم فوق الأرض وعلنا وأمام أنظار العالم أجمع بل شمل الصراع المذهبي أوطان المسلمين كلها كما الحرب الدائرة اليوم بين السنة والشيعة وبلا هوادة وآخرها الحرب الوشيكة بين إيران والسعودية .
كل ذلك الألم أعلاه يجعلنا نفهم الشاعر عبد الحسين من انه هو ذلك المحب للطبقة العاملة وفقراء الناس وهذا ديدن اي شاعر حقيقي سواء ان كان في الصين أو نيويورك أو موسكو أو في ابسط قرية من قرى الجنوب العراقي المتهالك اليوم . لذلك رأيناه وهو يدافع عن العمال وفقراء الناس وهو في سجن نقرة السلمان 1964 حيث نقل اليها ربما من سجن العمارة كما نقرأ أدناه من نص( آيار أهديك التحية) :
آيار يا أنهار من كدّ ومن عرقٍ وطاقاتٍ وأتعابٍ نقية
فاضت لتغمر كل أرضٍ ارهفت لنداك خير السمع بالنعم السخية
ولتكسح العقبات رغم شراسة الأطماع عن درب الزحوف الثوروية
آيار يابأس الشغيلة حطّم الأصفاد دكّ معاقل السلب الوبيّة
ياقصة إلأنسان يسعى لإنتزاع الحق بالدم خطّها والعبقرية
الجوع هو أعلى مراحل الترهيب .. الجوع في الغالبِ ينهض على شكل ثورةٍ أو تخريب ، الجوع هو الذي يجعل من المرء كئيباً مريضا على الدوام ، وهارباً من البؤسِ والملل الى النوم على الطرقات كما هو حال أغلب المتسولين ، وحين يفرغُ الييت من الرغيف ..يرفعُ الجوع راية الشر والمنازعة ضد الطغيان مما يؤدي الى إمتلاء السجون بالوطنيين والشرفاء كما حصل للشاعر عبد الحسين وسجنه لأنه كان من دعاة الحق . لكن نقرة السلمان كسجن وصحراء مخيفة.. أصبحت على عكس ما اراده الحاكم ، حيث تعلّمَ الجميع كل يوم درسا في العقل والعقلانية وفي البحث عن امكانية الموائمة بين الحق والحب بين الحق والجمال بين الحرية والصدق بين العمق والصفاء بين السجن والنضال . ولذلك لابد للطبقة العاملة ان ترفع لواء الكفاح بوجه الطغاة لأنها تعمل بعرقها وكدها على طول النهار فيتوجب أن ينصفها الآخرون في العيش الرغيد إسوة بالبرجوازية والطبقات الآخرى التي تحاول سرقة إنتاج العامل . ولذلك في تلك ألازمنة رفعت الطبقة العاملة عيدها العالمي الذي جاء نتيجة جراحاتها ونداءاتها لفئات المجتمع التي أصابها الحيف في جميع مرافيء الحياة . فاعتمادا على هذا رفع المناضل عبدالحسين صرخته في نصه الذي حمل موسومية الديوان ( نداء الجراح 1967) :
سأصبرُ مهما ابتلاني الزمانُ وأصمدُ مهما دهتني المحن
ومهما تمادى عدوي الجبان بغدره لن يعتريني الوهن
ساسقيه كأس الردى والهوان وأغسل بالدم عار الوطن
ثم يستمر في نفس النص :
تنزّ جراحي الدما والصديد وتجأر بالثأرِ في كل حين
وتهتفُ بي كل يومٍ جديد بأن لا أهون ولاأستكين
وليس لها من علاجٍ مفيد سوى ان أُطّـّوح بالمعتدين
مهمة الشاعر هو البوح والحلم في التغيير والإستمرار حتى تحقيق الأماني لكنه ليس شرطا أن يكون هو الجندي او المحارب أو المعماري الذي يساهم في عملية التغيير مباشرة . لكن المهمة الأساسية لدى الشاعر هي عدم اليأس بل هو الإصرار والتحدي والموت وقوفاً . هذا النص كتب في زمن شعراء المقاومة الفلسطينية الحقيقية لاالمقاومة اليوم التي تغيرت فيها المفاهيم ، وأيام شعراء الفكر الحقيقي والحب الخالص للوطن الذي نجده أدناه في كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد على سبيل المثال لا الحصر :
فلتسمع :
سنجوع ونعرى ، قطعا نتقطع ، لكن لانركع
للقوة للفانتوم للمدفع
لن يخضع منا حتى طفل يرضع
أما عبد الحسين كان صادقا هو الآخر في كل مايقوله في هذا الصدد مثلما نتمعن في الشذرة الآتية من نصه (اليأس لاينمو هنا) :
هيهات لو يسقى الدما فاليأس لاينموهنا
هيهات ينبتُ في الحمى لاتنثروه بأرضنا
أرض العروبة لاتظام مهد الحضارة والسلام
لينيرها فجر الهنا فاليأس لاينمو هنا
لا لليأس أو الأستسلام فهذه عبارة لنيل الحياة والمضي بها تحت ظل الكرامة فهي عبارة أممية ولكن علينا التصرف حيالها بذكاء ، فكان الزنجي تهان كرامته كل ثانية تحت طغيان الرجل الأبيض لكن الإصرار وعدم اليأس هو الذي جعل الشمس تشرق من جديد في سماء الأمة السوداء فتنال الحرية حتى أصبح لها رئيسا زنجياً يحكم أمريكا إسمهُ أوباما . فيتوجب على الشعوب أن تتسلح بالفطنة والدهاء لأن زمن حركات التحررإنتهى واليوم يحكمنا عالم القوة الذئبية التي خلقتها أمريكا عدوة الشعوب . ولذلك نرى اليوم كوريا الشمالية وروسيا والصين قد خطوا خطوات مذهلة في مجال القوة مما أدى الى ردع أمريكا واستفرادها بالشعوب الفقيرة . هنا رفعت الشعوب مبدأ عدم اليأس حتى نالت حريتها واستطاعت أن تقف من جديد بصرختها المدوية التي أخرست الإمبريالية العالمية .
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجزء الثانــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
عراق/دنمارك