السيمر / الثلاثاء 24 . 04 . 2018
د . رحيم الغرباوي
لعل الأبعاد الثقافية والتاريخية والأسطورية والحضارية والإنسانية التي يتضمنها الشعر الحديث تحيلنا إلى ثقافة العصر الذي يعيشه الشاعر ، وقد أثارت الثقافة المتنوعة الخيال الفني والإبداعي لدى الشاعر المعاصر ، والتاريخ الإنساني هو النابض بحركة حياة الشعر بما يمتلكه من تطلعات متنوعة على مدى تجارب الإنسان وتعاقب الأحداث عبر العصور .
ويبدو أنَّ توظيف الشخصية التاريخية وغيرها في الشعر تمرُّ بمراحل ثلاث : هي : أولاً : اختيار ما يناسب تجربة الشاعر من ملامح هذه الشخصية , والثانية تأويل هذه الملامح تأويلاً خاصاً يلائم طبيعة التجربة , وثالثاً : إضفاء الأبعاد المعاصرة لتجربة الشاعر على هذه الملامح (1) .
ولما كانت التجارب الشعورية والعاطفية تتصف بالإبهام والغموض , فالحياة الانفعالية للنص الشعري يحمل معاني ومدلولات متعددة , وإنَّها تفتقر إلى الحدود الثابتة بل هي شاسعة من خلال مايتلقفه الشاعر من لاوعيه , فيمتزج الشعور واللاشعور في نسج القصيدة (2) , ولعل شاعرتنا باسمة المشهداني منحتنا نكهة التأويل حين تناولت الشخصية التاريخية المتمثلة بـ ( كليوباترا ) ملكة مصر التي تحدت الغزاة واستنجدت فيما بعد بيوليوس قيصر , فقد منحتها الشاعرة سماتها في النص , وأفردت لها ميزة الملكة الغالبة ؛ كونها الحاكمة العظيمة لبلدها , فهي تقول:
عاشقة مستبدةٌ
طاغية .
هامتْ بقوَّتها عقولُ الأبطال !.
ومجامر الركبانْ
استنجدتْ بمفاتنها
قلوب آثرت إلا أنْ تجالد الزمن
بهالتها … !
تنازل صمتَ النار
وحريق الشطآنْ .
…
يوليوس أيُّها الماجد ,
عريقةُ مجدٍ
تحدَّتْ أنباء الأزمان
الجسر الصامد
بطلعتها
كوكب أزال شقاء البؤس
من عين بنيه الأرضيينْ
لاكتْ قلب الحزن بلظاها
وأظلَّتْ هواجسه
في بحرٍ لجيٍّ مليء بالركبان
يا أنَفة عينيها القاسية
بجحودهما
ونزيف النسغ الصاعد لفضاء الأكوانْ
أرهقت الأعداء ببريق ظل يطاردها
ليل الفتح , ودموع الجرح
لكن … يا بشرى لدنيا أسعدها
تحدِّي الأوثان .
فالشاعرة المشهداني أشادت بـ كليوباترا قوتها وجبروتها , وهي تقود الدولة البطلمية بعدما ضعفت و اجتيحت كثير من أراضيها , لكن حينما انعقد زمام الحكم إليها استطاعت أن تسترد الكثير منها بتحالفها مع يوليوس قيصر الذي أُعجب بها فهام بها عشقاً .
و الشاعرة في القصيدة تجسد الرمز التاريخي ؛ لتقاربهُ بالمرأة اليوم , وهي تنافح وتجالد في سبيل تحقيق أهدافها المنشودة بالصوت الصادح ؛ لتعيش حرة كريمة , فتمارس طقوسها بكبرٍ وأناة , أما يوليوس ؛ فإشارة إلى الرجل المناصر لقضيتها أينما حلَّ وفي أيِّ زمان كان .
لكن نرى الشاعرة لاتغفل التلميح إلى المرأة وهي تمثل رمز الجمال ورمز الحضارة المستفيقة على جلِّ تجارب الحياة ، فتمنح مريد تلك الحضارة قوةً وصلابة ً , مادامت هي لون من ألوانها , وهي الطامحة ؛ لتحقيق حضارة أنيقة بالاشتراك مع الرجل , فنراها تصف كليوباترا من أنَّها سيدة الجمال الفاخر , فتقول:
طُرِّزتْ إهرامات النيل على جسدها الفتان.
عبقُها سمرُ الخلجان
أناقة طرفها سلب أذواق البرايا
أنيقة سيدتي..
سمارها ديباجة فنان
قلب عتيد
فاتنة الفرسان
أغنِّيك عشقا ليوليوس
ذلك الغوي الهيمان .
فهي تحاكي مجد كليبوترا التي طرَّزت إهرامات النيل على جسدها ، لتومئ إلى انغماس الملكة بحبّ الوطن والتفاني من أجله , وهي ذات العبق الذي صار سمراً للخلجان , والخلجان محط رحال الناس , قال أمير المؤمنين : ” إذا قدمت على الحي انزلْ بمائهم قبل أنْ تخالط أبياتهم ” (3) ؛ مما يدل على أن الشاعرة تستقي مفرداتها بدقة كونها تعيش الحالة الشعورية التي يمتزج كل من الشعور واللا شعور لديها ؛ لتتمكن من إرساء المعاني التي تروم إبراقها إلى متلقيها .
ومن هذا نجد شاعرتنا قد حققت في نصها دلالات الرمز التاريخي , فأفادت منه ؛ لإيصال مضمون فكرتها لدى المتلقين .
(1) ينظر : الأسطورة في شعر أدونيس , د. رجاء أبو علي : 149
(2) ينظر : الأحلام في الدين والفلسفة وعلم النفس , د. محسن الدلفي : 100
(3) نهج البلاغة : 385 .