السيمر / الجمعة 27 . 07 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي/ فلسطين
بمرارةٍ كبيرةٍ وحزنٍ عميقٍ، وخوفٍ حقيقي وألمٍ دائمٍ، أتابع أوضاع الجرحى والمصابين الفلسطينيين، خاصةً خلال مسيرة العودة الوطنية الكبرى، فقد باتوا ظاهرةً مقلقةً، ومشكلةً مستعصيةً، وحالةً عامةً، ومظهراً لافتاً ومشهداً متكرراً، وأزمةً وطنيةً توجب علينا جميعاً أن نهتم بهم وأن نقلق عليهم، وأن نسعى لحل مشكلتهم، ومداواة جراحهم، وتسكين آلامهم، وتعويضهم عما أصابهم، والوقوف معهم في محنتهم، ومساندتهم في حياتهم، فمصابهم كبير، وجرحهم غائر، وألمهم متجدد، ومعاناتهم دائمة، والحياة قاسية لا ترحمهم، والظروف العامة صعبةٌ لا ترق لحالهم، ولا تستكين لأجلهم، ولا تلين تعاطفاً معهم، والعدو يتربص بهم ويتآمر عليهم، ويقنصهم ولا يستثنيهم، ويتعمد قتلهم أو إصابة المصاب منهم.
إنهم ليسوا كأي جرحى ولا هم يشبهون غيرهم من المصابين السابقين، فهم حالةٌ جديدةٌ وظاهرةٌ خطيرة تعمد العدو خلقها، وتمادى في تعميمها وانتشارها، ولعله يقصد ما يقوم به، ويريد عامداً أن يصيب أكبر عددٍ من الفلسطينيين بجراحٍ مقعدة، تتسبب لهم بأمراض مستعصية، أو إعاقاتٍ دائمة، فيفقدون بسببها قدرتهم على الفعل والتأثير، ويخرجون من دائرة العمل والفعل، والمقاومة والنضال، ليصبحوا عالة في المجتمع، وعبئاً على غيرهم، ينتظرون من يخدمهم ويعمل لأجلهم، ويساعدهم ويسخر جزءاً من وقته لهم.
يستخدمُ جنود جيش العدو وقناصته إلى جانب أجهزة الرقابة والتصوير، التي تحدد الأشخاص وتميز المطلوبين، فيصيبونهم بدقة، ويقنصونهم بقصدٍ، بنادقَ حديثة جداً، ويطلقون طلقاتٍ نارية جديدة، ليست مطاطية كما يدعون، ولا معدنية مغلفة بغلافٍ رقيقٍ من المطاط، ولا هي طلقات الدمدم المحرمة دولياً والمعروفة لدى الفلسطينيين لكثرة ما أصيبوا بها، وعانوا منها، ورغم أنها خطيرة ومميته، ومؤذية ومؤلمة، إلا أن العدو الإسرائيلي بات يستخدم طلقاتٍ أخرى لم يعهدها الفلسطينيون، وهي لا شك طلقاتٌ محرمة، وممنوعة الاستخدام بموجب القوانين الدولية، ولكن دول العالم الكبرى والمنحازة للكيان الصهيوني، تصدره لها، وتسكت عن استخدامها له، وتقف ضد كل من يسعى لمساءلته أو محاكمته بسببها.
هذه الطلقات اللعينة إن لم تقتل الفلسطينيين وتتسبب في نزيفٍ حادٍ للمصابين، فإنها تسمم الأجساد، وتفتت العظام، وتمزق الأنسجة، وتهتك الأعضاء، وتتلف الأجهزة، وتعطل الوظائف، وتحدث في الأجسام أضراراً بالغة، وتتسبب لهم في عاهاتٍ مستديمة، تبتر فيها أطرافهم، أو يصابون بشللٍ يقعدهم، أو عجزٍ تامٍ يعيق حياتهم، ويدمر مستقبلهم، ويجعل منهم عالةً على أنفسهم وعلى مجتمعهم، وما يزيد الأمر سوءاً وتعقيداً، الظروفُ الصعبة التي يمر بها قطاع غزة، وحالة الفقر المدقع التي يعاني منها السكان، وحاجتهم الماسة لكل مقومات الحياة المحرومين منها بسبب الحصار المفروض عليهم منذ أكثر من عشرة سنوات.
تجاوز عدد الجرحى والمصابين الفلسطينيين خلال مسيرة العودة، وعلى مدى أقل من خمسة أشهر، أكثر من ستة عشر ألف مصابٍ، أصيب أغلبهم في الأجزاء العلوية من الجسد، وتسبب لكثيرٍ منهم في غيبوبة دماغية وموتٍ سريري، في حين استشهد عددٌ غير قليلٍ من الجرحى، وذلك بعد أيامٍ معدودة من إصابتهم، في حين ينتظر غيرهم مصيره، ويخشى وذووه على حالته، إذ يتعذر العلاج في قطاع غزة، ويشح الدواء، وتنقطع الكهرباء، وتفتقر المستشفيات العاملة إلى الأطباء المختصين، وإلى الأجهزة الطبية المساعدة، فضلاً عن حالة العوز الشديدة لدى السكان، مما يجعلهم غير قادرين على تأمين كلفة العلاج أو ثمن الأدوية، أو تغطية تكاليف السفر والإقامة للعلاج خارج قطاع غزة.
لا يحتاج المتجول في قطاع غزة إلى كبير جهدٍ حتى يدرك أن عدد الذين يحملون عكاكيز كبير، والذين يستخدمون العربات أو يعتمدون على غيرهم في الحركة والتنقل كبيرٌ أيضاً، وأن الذين يشكون من بتر أطرافهم، سيقانهم أو أيديهم هم عددٌ غير قليل أيضاً، إلى الدرجة التي لا تخطئهم فيها العين، ولا تتجاوزهم أو تنكر وجودهم، حتى باتوا يشكلون حالة قلقٍ وحزنٍ لدى كثيرٍ من الناس.
ولعل أعداد المصابين الكبيرة ليست في الشارع فقط، فقد يدعي البعض أن أعدادهم فيها نسبية وليست كثيرة، وفي هذا بعض الحقيقة إذ أن أغلب المصابين والجرحى يرقدون في المستشفيات والمراكز الصحية، يتلقون العلاج أو يسكنون الألم، أو ينتظرون بارقة أملٍ في عمليةٍ جراحية أو سفرٍ خارج القطاع.
أما البيوت والمنازل فتخفي أعداداً أكبر، وتستر أغلب الجرحى والمصابين، ممن ساءت حالتهم، وتعذرت حركته، وباتوا لا يفضلون الخروج إلى الشارع، أو التعامل مع الناس، خاصةً لمن كان منهم شاباً فتياً قوياً قادراً عاملاً نشطاً، فساءه القعود، وآلمه العجز، وأحزنه حاله ففضل البقاء في البيت على الخروج إلى الشارع بمساعدة الأهل والأصدقاء.
خاصةً أن جل المصابين بهذه العاهات المستديمة هم من الشباب اليافع، الذين هم في مقتبل العمر أو في ميعة الصبا، الذين ما زالت أجسادهم تحتفظ ببنيتها القوية، وعضلاتها المفتولة، لولا ما أصابهم ونزل بهم، وكثيرٌ منهم لم يفتح بيتاً أو يبني أسرةً بعد، بل إن منهم من لم يستكمل تعليمه الجامعي وما زال طالباً، ومنهم الأطفال والصبية وتلاميذ المدارس، ممن يؤمل عليهم، ويتطلع الوطن إليهم، إلى جانب رجال من طواقم الإسعاف والدفاع المدني، والعاملين في مجالات الإعلام وخاصةً المصورين منهم، الذين اعتادوا اختراق الصفوف وتقدم الجبهات لالتقاط الصور ونقل الحقيقة.
لست هنا لأعدد الإصابات، ولا لأبين مخاطرها أو أستعرض أشكالها، ولا لأستدر العطف على الجرحى والمصابين، فكلنا يدرك هذه الحقائق ويعيشها يومياً بنفسه إذا مشى في الشارع، أو راجع مصحةً أو دخل إلى مستشفى، وإنما أردت أن أضع المسؤولين الفلسطينيين جميعاً، سلطةً وفصائل، وأطباء ومدراء مستشفيات، وهيئاتٍ وجمعياتٍ تعنى بالمجتمع الفلسطيني، ليقوموا بواجبهم الأخلاقي والإنساني والوطني والديني تجاه الجرحى والمصابين، وليعلم الجميع أن الأسرى والجرحى لا يقلون مكانةً عن الشهداء، ولا يقل قدرهم عن الذين قضوا في المعارك والحروب، بل لعلهم يبزونهم قدراً، ويفوقونهم مكانةً، ويسبقونهم أجراً ومثوبةً.
بيروت في 27/7/2018