السيمر / السبت 08 . 12 . 2018
د.غسان السامرائي
أهمية القصيدة
حظيت ميمية الشاعر الفرزدق باهتمام النّقّاد والشّرّاح والمهتمين بالشعر والبلاغة عبر التاريخ ، وهو اهتمام محمود ولا شك ، بل هو متوقع لمثل هذه القصيدة الرائعة ، لكنه يخلو من وضع النقاط على الحروف.
ذلك أن الفرزدق عبر بشكل صريح عن أوصاف لأهل البيت (ع) ، سواء بذكرهم عموماً أو من خلال الإمام السجاد (ع) ، لا تتوافق إلا مع عقيدة أتباع أهل البيت (ع) فيهم.
نعم ، وجدنا حتى بعض الخطباء من أهل السنة يقرأ بعض أبياتها على المنبر في خطبة الجمعة ( كما فعل الأستاذ أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر سابقاً في مسجد الدسوقي بمصر (https://goo.gl/v5FVaA) )ولكن هؤلاء قصروا تناولهم للقصيدة على الفهم السطحي لبعض أبياتها وعلى تجاوز .. كتمان حتى الفهم السطحي الواضح لأبياتها الأخرى.
إن ميمية الفرزدق ، حالها حال تائية دعبل الخزاعي بعدها بأكثر من 100 عام تقريباً ، أو ميمية أبي فراس الحمداني – المعروفة بالشافية – بعدها بنحو 250 عاماً ، كلها إعلان للعقيدة الحقة في أهل البيت (ع) من خلال الشعر الجميل.
لهذا ، سأتناول القصيدة بالشرح المختصر جداً ، إلفاتاً إلى هذه المعاني التي في أبياتها ، تلك الأبيات التي هي من أعظم التوفيق لأي شاعر – مهما كانت مكانته أصلاً – أن يتفوه بأبيات شعر تجمع الجمال والجزالة وسهولة المفردات مع عقائد دينية لم تزل تدور حولها الأحداث.
أذكر اليوم قصتها باختصار ، مع إعادة لأبياتها ، ثم أتناولها بالشرح الملفت للمعاني المهمة في المقال وما يتبعه من مقالات قادمة.
قصة القصيدة
يقول ابن خَلِّكان في أعيانه: «وتُنسَب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنّة».
وهي أنه لما حج هشام بن عبدالملك ، فطاف وجَهِد أن يصل إلى الحجر ليستلمه،فلم يقدر عليه من كثرة الزحام ، فنُصِب له منبر وجلس عليه، ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام.
وفيما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام ، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً ، فطاف بالبيت ، فلما انتهى إلى الحجر ، تنحّى له الناس ، وانشقت له الصفوف ، ومكّنته من استلام الحجر،فقال رجل من أهل الشام: “من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟!”
فقال هشام: “لا أعرفه” (مخافة أن يرغب فيه أهل الشام).
وكان الفرزدق الشاعر حاضراً ، فقال: “أنا أعرفُه! “
فقال الشاميّ: “مَن هذا يا أبا فراس؟ “
فقال الفرزدق وأطلق قصيدته الشهيرة العصماء.
لما سمع هشام هذه القصيدة ، غضب وحبس الفرزدق ، فأنفذ إليه الإمام علي بن الحسين (ع) عشرين ألف درهم ، فردّها وقال: “مدحتُكم لله تعالى لا للعطاء”،فقال الإمام (ع): (إنّا أهل البيت ، إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده ، فقَبِلها).
القصيدة تشمل النبي (ص) وأهل بيته (ع)
لئن كانت مناسبة القصيدة تخص الإمام زين العابدين (ع) (كما علمت من قصتها أعلاه) ، فإنها ذكرت النبي (ص) وأهل بيته (ع) عموماً، لتطلق عليهم أوصافاً هي التي نعتقد بها ونجهد في أن نلفت إليها عموم المسلمين.
قصيدة الفرزدق
(هناك من يروي القصيدة مع أبيات أخرى ، ولكن النص التالي هو الأكثر شهرة.)
هـذا الـذي تـعرف البطحاءُ وطأتَه والـبيتُ يَـعرِفه والـحلُّ والـحرمُ
هـذا ابـنُ خـيرِ عـبادِ الله كـلِّهمُ هـذا الـتقيُّ الـنقيُّ الـطاهرُ العَلَمُ
هـذا آبـنُ فـاطمةٍ إن كنتَ جاهِلَهُ بـجَـدِّه أنـبـياءُ الله قـد خُـتِموا
هــذا عـلـيٌّ رسـول الله والـدُه أمـسَتْ بـنور هـداه تـهتدي الأممُ
إذا رأتــه قـريـشٌ قـال قـائلها إلـى مـكارمِ هـذا يـنتهي الـكرمُ
يـكـاد يُـمـسكه عـرفانَ راحـته ركـنُ الـحطيم إذا ما جاء يستلمُ
الله شــرّفـه قِـدْمـاً وعـظّـمه جـرى بـذاك لـه فـي لوحِه القلمُ
يُـنمى إلـى ذُروة العزّ التي قصُرَتْ عـن نـيلها عـربُ الإسلامِ والعجمُ
مـشتقّةٌ مـن رسول الله نبعتُه طـابت مغارسه والخيم والشيمُ
يـنشقّ ثـوبُ الدجى عن نور غُرّته كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلمُ
يُـغضي حـياءً ويُغضى من مهابته فـمـا يُـكـلّمُ إلاّ حـيـن يـبتسمُ
مـا قـال لا قـطُّ إلاّ فـي تـشهده لـولا الـتشهد كـانت لاؤُه نَعمُ
عـمّ الـبريةَ بـالإحسان فـانقشعت عـنها الغياهبُ والإملاقُ والألمُ
كـلـتا يـديه غـياثٌ عـمّ نـفعُهُما يُـستوكَفانِ ولا يَـعْروهما عَدَمُ
سـهل الـخليقة لا تُـخشى بـوادره يَـزينه اثـنانِ: حُسنُ الخُلْقِ والكرمُ
لا يُـخلف الـوعدَ مـيمونٌ نـقيبتُهُ رحب الفِناء، أريب حين يعتزمُ
حـمّـال أثـقالِ أقـوامٍ إذا فُـدِحوا حُـلْوُ الـشمائل تـحلو عـنده نِـعَمُ
هـم الـغيوث إذا مـا أزمـة أزمَتْ والأُسـدُ أسـدُ الشَّرى والبأس مُحتدِمُ
لا يُـنقص الـعسرُ بـسطاً من أكفّهمُ سـيانَ ذلـك إن أثْـرَوا وإن عَدِموا
أبـى لـهم أن يـحل الـذمُّ ساحتَهم خـيم كـريم وأيـدٍ بـالندى هـضمُ
مِـنْ مـعشرٍ حـبُّهم دِيـنٌ وبغضُهمُ كـفرٌ، وقـربُهمُ مـنجى ومُـعتصَمُ
مُـقـدَّم بـعـدَ ذِكْـر الله ذِكـرُهمُ فـي كـل بـدء ومـختومٌ بـه الكَلِمُ
إن عُـدّ أهـلُ الـتقى كـانوا أئمتَهم أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيل: هُمُ
شرح الأبيات التالية:
هـذا الـذي تـعرف البطحاءُ وطأتَه ** والـبيتُ يَـعرِفه والـحلُّ والـحرمُ
هـذا ابـنُ خـيرِ عـبادِ الله كـلِّهمُ ** هـذا الـتقيُّ الـنقيُّ الـطاهرُ العَلَمُ
هـذا آبـنُ فـاطمةٍ إن كنتَ جاهِلَهُ ** بـجَـدِّه أنـبـياءُ الله قـد خُـتِموا
هــذا عـلـيٌّ رسـول الله والـدُه ** أمـسَتْ بـنور هـداه تـهتدي الأممُ
إبتدأ بالرد على هشام بن عبد الملك وقوله “من هذا؟” حيث ضاق صدره إذ رأى الناس لم تهتم به وتفسح له المجال للمرور واستلام الحجر بينما انفرجت مباشرة عندما جاء الإمام السجاد (ع) لتفسح له المجال…
رد الجمهور كان: أنت تأسر الأبدان، ولكنه (ع) يأسر القلوب.
أنت تدعي أنك لا تعرفه ، وكيف ذلك و “هذا” معروف عند:الأرض التي تعرف وطأ أقدامه الشريفة ، فإنها تذكر بحنين الجذع إلى جده المصطفى (ص) ،(ذريّةُ بعضها من بعض) ؛ والبيت الحرام الذي أمامك يعرفه، فهذا بيت بالأمس القريب نظفه جداه المصطفى (ص) والمرتضى (ع) من الأصنام ، حتى عاد للتوحيد الخالص ؛ وتعرفه المناطق كلها: الحرام التي تحيط بالبيت العتيق ، والتي ما بعدها التي يحل فيها للحجاج ما يحل، وهي ما حول البيت الحرام ومنطقته الحرام.
“هذا” ابن خاتم المرسلين وسيد الخلق أجمعين (ص)، فكيف لا تعرفه؟!
“هذا” يتمتع بالصفات العظمى:
– التقي: والتقوى هي من أعظم أهداف المؤمنين.
– النقي: المتخلص من الشبهات والضعف والاهتزاز الذي عند الناس.
– الطاهر: الذي طهره الله تعالى من ارتكاب الخطأ والخطيئة.
– العلم : المنار المعروف الذي يتوجه إليه المؤمنون لمعالم دينهم.
“هذا” ابن فاطمة (ع) ، ويا لها من نسبة للسجاد (ع) ، فكأن الفرزدق يقول له:إن بنوّته لفاطمة (ع) تكفيه شرفاً وفخراً، فإذا نسب إليها فكيف لا تعرفه؟!
فكيف إذا جمعت له (ع) معها ما يزيده شرفاً وفخراً ومعرفة عند الله والناس: بنوّته لخاتم الأنبياء (ص)؟
“هذا” اسمه “علي” ، وجده رسول الله (ص) – فهل لا تعرف الإسم ولا الجد؟!
وأي جد؟ إنه الذي يهدي الناس جميعاً (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) – صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن أن يكون في هذا طعن باطن بهشام ، لأنه إنما يحكم على أساس خلافة النبي (ص) ، فأنت إما لا تعرف أقرب الناس إلى النبي (ص) ما يعني استهتارك بأصل القضية ، أو أنك تدعي كذباً أنك لا تعرف هذا العبد الصالح (ع).
شرح البيت:
إذا رأتــه قـريـشٌ قـال قـائلها ** إلـى مـكارمِ هـذا يـنتهي الـكرمُ
قريش ، فيها ما فيها: فهي قبيلة النبي (ص) ، ومنها خرج أعاظم الصالحين من أهل بيته (ع) وصحبه الأبرار ، كما خرج منها الأشرار ، ومنهم حتى الهاشمي أبو لهب والكثير من عتاة الكافرين والمنافقين من المسلمين.
مع هذا ، فإن “قريش” لا تستطيع أن تكابر في رأيها في السجاد (ع) أنه وصل بمكرماته التي يتفضل بها على الناس إلى غاية الكرم ، أقصى الكرم ؛ أو أن الكرم يحط رحله في بابه لأنه أبو الكرم وأمه.
وقد رويت الروايات كيف أن أولاده وجدوا أثر حمل أجربة الطعام التي كان يحملها ليلاً إلى المحتاجين، وجدوها بعـد موتـه وقـد علّمـت علـى ظهـره الشريـف .. وكيف أن الناس لم يكونوا يعرفون من هذا الذي يأتيهم متخفياً بهذه الصدقات إلى أن توفي السجاد (ع) فافتقدوها. سلام الله عليه.
وأما البيت الجميل:
يـكـاد يُـمـسكه عـرفانَ راحـته ** ركـنُ الـحطيم إذا ما جاء يستلمُ
فإنه من المبالغات الجميلة للشعراء ، أو قل مما يتكلمون به وكأنهم لسان حال الآخرين ، الآخر هنا شيء من الجماد ، ولكنه ليس كأي جماد ، بل هو “الركن”، ذلك الموضع العظيم من الكعبة المشرفة.
يقول، والمناسبة هي بالضبط مجيء السجاد (ع) ليستلم الحجر في الركن وكيف أن الناس انفرجت له: عندما جاء ليستلم الحجر فإن الركن ، من شدة حبه واندكاكه المعنوي بهذا الإمام الطاهر (ع) ، يكاد يخرج من مكانه ليقوم هو باستلام كف الإمام (ع)!
ولا أدري هل يقصد بكلمة “عِرفان” معنى “المعرفة” التي تتحقق بتحسس الكف،فهو يريد أن يمسكه “في عرفان كفه” ، أو أنه يقصد بكلمة “عرفان” معنى “المعروف” فعل المعروف ، فكأن الحجر يريد أن يمسكه “شكراً” أو “إعلاناً بتحقق المعروف” من الإمام (ع) إذ جاء يستلمه ، أو بما فعل من قبل ذلك في المواسم السابقة وقد استلمه قطعاً.
البيتان التاليان غاية في الأهمية:
الله شــرّفـه قِـدْمـاً وعـظّـمه ** جـرى بـذاك لـه فـي لوحِه القلمُ
يُـنمى إلـى ذُروة العزّ التي قصُرَتْ ** عـن نـيلها عـربُ الإسلامِ والعجمُ
هذا الشرف الذي حظي به الإمام (ع) ، وقد وصفه الشاعر أولاً بالتقوى والنقاء والطهر والمكانة في الدين ، ثم بخروجه من ذلك البيت الذي سبق الناس طرّاً،هذا الشرف ليس جديداً ، فهو:
– لم يبدأ عندما ولد الإمام (ع).
– بل ولم يبدأ عندما أعلن النبي (ص) موقعية أبيه وعمه وجده وجدته (ع).
– ولا قبل ذلك عندما صدع النبي (ص) بالدين.
– ولا قبله عند ولادة جده المصطفى (ص).
– ولا في أية مرحلة سابقة في قريش أيام عبد المطلب أو هاشم أو قصي الذي كان أول من أسس السكنى في مكة بعد أن كانت قريش تستعظم السكن بالقرب من البيت الحرام.
– ولا حتى عندما قام جداه الكريمان إبراهيم وإسماعيل (ع) ببناء البيت العتيق
– بل ولا حتى عندما بدأ الخلق!
هذا الشرف قديم قِدَم تثبيت الأمور في اللوح المحفوظ!
فهو (ع) ذو المكانة المذخورة لخلافة خاتم المرسلين (ص) في حمل الكتاب الخاتم والسنة النبوية المبينة لهذا الكتاب الخاتم، كتبت في اللوح المحفوظ الذي لا تبديل فيه .. وعندها .. فإنه ينسب ليس إلى أي موقع في العز والشرف أقل من “الذروة” ، الموقع الأعلى على جميع الناس ، بحيث قصروا كلهم – من عرب وأعاجم – عن “نيلها” ، لأن نيلها ما كان إلا بمعرفة المولى عز وجل بها ، فإنها منزلة لا تأتي من فراغ ، ولا حتى من ممارسة على الأرض ، بل إنها مما “كتبه القلم في اللوح”،
ثم تأتي الممارسة منهم (ع) في أرض الواقع لتعلن للناس كيف أن الله تعالى إذ اختارهم لدينه معرفة منه تعالى بهم،
فإنه ((وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة)).
وهذا لا يمكن أن يكون إلا إعلاناً للقيادة الشرعية للأمة،لأنه من المستحيل أن يكون في الأمة مثل هذا الشريف الذي تأسس شرفه وعزّه قبل الخلق عند تثبيت الأمور في اللوح المحفوظ ثم يكون تابعاً لغيره…
بل إنه (ع) هو الإمام المتبوع،
نسأل الله صدق الائتمام به وحسن اتباعه (ع).
ثم الأبيات التي تصفه (ع) وتصف النبي (ص) من خلاله:
مـشتقّةٌ مـن رسول الله نبعتُه ** طـابت مغارسه والخيم والشيمُ
يـنشقّ ثـوبُ الدجى عن نور غُرّته ** كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلمُ
يُـغضي حـياءً ويُغضى من مهابته ** فـمـا يُـكـلّمُ إلاّ حـيـن يـبتسمُ
ما أجمله من وصف:
تراه فتجده وقد اشتُقّ من جده المصطفى (ص)،
كما تشتق الكلمات من جذرها اللغوي، وكما تشتق الفروع من الأصول، فإنه (ع) مشتق من سيد الخلق (ص).
هذه النبعة الجميلة لم تأت إلا من الغرس الطيب للنبي (ص) وعلي وفاطمة والحسين (ع) ، فجاءت طيبة طبيعته وسجيته وطبعه ، ومعها طيبة أخلاقه وسائر شأنه ، فهو الطيب في
(1) الأصل.
(2) الطبع.
(3) الأخلاق، مع الشكل والمضمون المشتق من النبي (ص).
فهل بقي شيء إلا وكان جميلاً فيه (ع)؟
الأصل والشكل والطبيعة والأخلاق.
ثم البيت التالي بوصف يحبه الشعراء عند وصف الجمال ، كيف أن البياض يخرج من السواد وكأنه الصبح يخرج من الليل…
من هذا قول السيد محمد سعيد الحبوبي أحد قادة الجهاد ضد الانجليز عند دخولهم العراق سنة 1914 (ت 1915) في إحدى موشحاته العشرة التي لا مثيل لها:
مزّقت ثوب الدجى من ثغرها ** ثم حاكتهُ له من شعرها
ثم لما أسفرت عن نحرها ** ما رآها البدرُ إلا واستحى
واعترتْهُ دهشةُ المندهشِ!
فإنها عندما ابتسمت طلع الصبح ببياض أسنانها ، ثم لما أدارت رأسها ونزل شعرها الأسود الداكن عاد الليل – وفي الحالتين يصوره كثوب الدجى.
هنا ، ذهب الفرزدق أبعد من هذا:
فإن ثوب الليل ينشق ، فيكشف الليل ، من النور المنبعث من غرّة وجه الإمام (ع)،وبطريقة حاسمة وكأن الشمس نفسها قد أشرقت على العالم فكشفت الظلمات!
هذا الوجه النوراني الجميل تنظر إلى صاحبه فلا تجده ينظر كبراً ، بل على العكس، فإنه ينظر إلى أسفل حياءً ، من أجل أن لا يحرج الناظر أو المخاطب،ولكن المفاجأة هي أن الناظر والمخاطب ، بدلاً من أن يشعرا بالعلو ، إذا بهما يشعران بهيبته الطاغية ، فيغضون طرفهم عن تصعيد النظر إليه!
وعندها ينتظرون ابتسامته التي ترحب بكلامهم معه.
والبديع من نوع الطباق جميل في “يُغضِي” و “يُغضى” – بنفس المعنى تماماً،ولكن لسببين مختلفين: هنا حياء وهناك من أثر الهيبة.
ويأتي البيت الشهير المتميز ، ومعه بيتان يوضحانه:
مـا قـال لا قـطُّ إلاّ فـي تـشهده ** لـولا الـتشهد كـانت لاؤُه نَعمُ
عـمّ الـبريةَ بـالإحسان فـانقشعت ** عـنها الغياهبُ والإملاقُ والألمُ
كـلـتا يـديه غـياثٌ عـمّ نـفعُهُما ** يُـستوكَفانِ ولا يَـعْروهما عَدَمُ
من أشهر الأبيات وأكثرها فرادة – يبالغ الشاعر أن الإمام (ع) لم يقل في حياته “لا” لسائل أو طالب مطلقاً ، بحيث أن مفردة “لا” لولا أن كلمة الشهادة “لا إله إلا الله” فيها “لا” لما كان تلفظ بها! من أجمل الإلهام الشعري حقاً…
أما هذا فلأنه على أرض الواقع كان الكرم يتدفع منه (ع) ، بحيث أنه عمّ الخلق كلهم ، وبطريقة خلصتهم من سواد الأيام وسجون ضيقها ومن الفقر ومن الآلام.
فإنه (ع) – يستمر الشاعر – يتمتع بيدين كريمتين كرماً هائلاً بحيث أنهما كالمطر المغيث للأرض الذي يعم بنفعه الجميع ، وأن الناس يطلبان منهما – اليدين الكريمتين – الغوث ، كما يطلب الماء من العين ، وتستمران في العطاء فلا تتوقفان عن العطاء.
ثم يأتي وصف جامع له – في الشكل والمضمون:
سـهل الـخليقة لا تُـخشى بـوادره ** يَـزينه اثـنانِ: حُسنُ الخلْقِ والكرمُ
كم جميل ما نطق به الشاعر من تصوير عز نظيره – يصف الإمام (ع) أن طبيعته سهلة سمحة ودودة بحيث أن الناس – رغم مهابته التي ذكرها من قبل – لا يخافون منه أن يتوجه إليهم بنوبة غضب…
فهو يتمتع بالأمرين: حسن الأخلاق والكرم – فإن حسن الأخلاق عام ، أما الكرم،فمنه كرم الأخلاق في العفو والصفح والتسامح والحنو كما أن منه العطاء المادي.
ويستمر في وصف الكرم الكبير ، منه (ع) ومن أهل البيت (ع) عموماً:
لا يُـخلف الـوعدَ مـيمونٌ نـقيبتُهُ رحب الفِناء، أريب حين يعتزمُ
حـمّـال أثـقالِ أقـوامٍ إذا فُـدِحوا حُـلْوُ الـشمائل تـحلو عـنده نِـعَمُ
هـم الـغيوث إذا مـا أزمـة أزمَتْ والأُسـدُ أسـدُ الشَّرى والبأس مُحتدِمُ
لا يُـنقص الـعسرُ بـسطاً من أكفّهمُ سـيانَ ذلـك إن أثْـرَوا وإن عَدِموا
أبـى لـهم أن يـحل الـذمُّ ساحتَهم خـيم كـريم وأيـدٍ بـالندى هـضمُ
أما إذا وعد (ع) فإنه لا يخلف الوعد ، فإن طبعه محمود معروف بالوفاء ، وهو كأنه ساحة رحبة مرحبة بالجميع ، أما إذا نوى أمراً وقد عزم عليه فهو فاهم عاقل حكيم يعلم ماذا يريد وكيف يفعل.
ثم يصف كرمه وحلّه مشاكل الناس ، ليس أنه يعطي العطاء الكبير كما وصفه من قبل ، ولكنه يأخذها على عاتقه ويقوم بها ليخففها عنهم.
فأخلاقه حلوة ، ومن هذا الكريم (ع) تحلو النعم التي تأتي منه.
ثم يمد المدح إلى أهل البيت (ع) بمجموعهم ، فيصفهم أنهم:
– الغيوث بالكرم والعطاء في وقت الأزمات والمجاعة والقحط.
– أبطال المعارك عند اشتدادها.
فقد جمع لهم الصفتين اللتين كم ذكرهما الناس لهؤلاء الأبرار (ع).
كرم هؤلاء لا يستطيع إيقافه الفقر إذا ما وقعوا فيه ، فإنهم إن أعسروا لا يردوا السائلين (يعني يستدينون، يبيعون ما عندهم ، يرهنون ما عندهم ، من أجل العطاء) ، تتساوى أحوالهم في العطاء عندما تتيسر أمورهم المالية أو تتعسر.
هناك مانعان من أن يقوموا بالأفعال المذمومة في ساحة العطاء والكرم:
المانع الأول : الأخلاق الكريمة عموماً.
المانع الثاني : أيديهم بالعطاء تعطي فما تبقي شيئاً، فكأنها كالمعدة التي تهضم الطعام حتى تفرغه منها تماماً!
شباب النيل