الرئيسية / مقالات / الدولة العميقة في الحياة السياسية العربية

الدولة العميقة في الحياة السياسية العربية

السيمر/ فيينا / الاحد 30 . 06 . 2019

د. لبيب قمحاوي / الأردن

حديثنا اليوم موجه إلى سدنة وكهنة الدولة العميقة في كل دولة عربية مستبدة وظالمة وآثمة في كيفية تعاملها مع شعبها . فشعوب الأمة العربية مقهورة وطموحاتها مطمورة وآمالها ومصالحها مستباحة لصالح أنظمة حكم لا ترى في المرآة سوى صورتها ولا ترى في خلفية تلك الصورة سوى مصالحها الأنانية التي تسمو بالنسبة لهم على مصالح شعوبهم . مخاطبة العقل والتفكير بهدوء أمران مطلوبان هذه الأيام خصوصاً وأن القضايا المطروحة والتحديات المفروضة مصيرية وتبعاتها قد تكون في غاية الخطورة والحقائق المتعلقة بها غامضة والكثير منها غير معروف . الدعوة في حديثنا هذا موجهة إلى الدولة العميقة للتعامل مع شعوبها ومطالبهم بعقلانية وإلا فإن النتيجة قد تكون وبالاً على الجميع . والدولة العميقة تجنح دائماً إلى إعتبار نفسها حامي حمى الوطن وأنها أدرى بما هو في مصلحة البلد ، علماً أن رؤيتها تعكس في الحقيقة قدراً هائلاً من الأنانية والرغبة في الحفاظ على الوضع القائم كما هو وعلى مراكز القوى في البلد ، وعلى منع التغيير إلا إذا جاء عن طريقها . والدولة العميقة بذلك تُنصِب من نفسها وصياً على البلد وليس حامياً له وحارساً على مصالحه الحقيقية . الدولة العميقة باطنية وغامضة في طبيعتها وفي تكوينها ، وثقتها بالآخرين من أبناء الوطن تكاد تكون معدومة ، إذ أنها تمثل تحالف يضم إحتكارات ومصالح مالية وإقتصادية وعسكرية وسياسية تتجاوز في تفكيرها إغراء المنصب العام الذي يشكل فخاً دائماً للمواطن العادي ، إذ أنها تعتبر نفسها أكبر من ذلك كونها تسيطر على مكامن القوة الحقيقية وهي التي تضع الآخرين في المناصب المختلفة لخدمة أهدافها . العقل والتعقل ضمن إطار من المرونة الإيجابية هي الرسالة التي يتوجب على الدولة العميقة وسدنتها وكهنتها الإستيعاب والفهم والهضم ، لأن إستعمال العقل يفترض من الدولة العميقة الإبتعاد عن إستعمال السطوة الأمنية وجبروت الدولة لفرض إرادتها لأن في ذلك مؤشراً على وجود تعارض حقيقي بين مصلحة الشعب ومصلحة الدولة العميقة كما يمثلها نظام الحكم القائم ، ومن هنا ننطلق في محاولة جادة لإستيعاب وفهم طبيعة ما يجري من كوارث ونكبات على الأمة العربية وكيفية التصدي لها ومحاولة الخروج منها بأقل الخسائر . غياب الديموقراطية والشفافية والمساءلة ولو بأبسط أشكالها وضعف الأنظمة العربية وإستسلامها لإرادة الأجنبي ، بالإضافة إلى إبتعادها عن شعوبها وإعتمادها على الأجهزة الأمنية بأنواعها وأشكالها المختلفة هو أساس المشاكل التي تعاني منها الأمة . ومع أن وسائل الإتصال الحديثة وشجاعة بعض المسؤولين الأجانب في تبيان الحقيقة قد وفَّرت أمام المواطن العربي إمكانية الإطلاع على حقائق وتفاصيل الخنوع والإنهيار والإستسلام العربي ، إلا أن الأنظمة ومن ورائها الدولة العميقة ما زالت تصِرّ على تزوير الحقائق ومحاولة إستغفال المواطنيين و الإفتراض بأنهم لا يعلمون الحقيقة . تعاني الشعوب العربية بشكل عام من غياب المعلومة الصحيحة ، وكذلك من غياب الثقة بالأنظمة الحاكمة ونواياها . فحكام العرب عموماً لا يعتبرون أن من حق مواطنيهم الإطلاع على المعلومة الصحيحة ، والحكام العرب لا يبتعدون بذلك كثيراً عن سلوك العديد من الأنظمة الحاكمة في العالم ، وإن كانوا في المقابل لا يقتربون من الأنظمة الديموقراطية في مجالات إيجابية أخرى . الجماهير العربية أثبتت أنها اكثر وعياً من حكامها ومن الدولة العميقة التي تقف وراءهم. وما يجري الآن في السودان والجزائر مثلاً يؤكد رغبة الدولة العميقة في الإلتفاف على المطالب الشعبية واستخفافها بالنهج السلمي لتلك المطالب باعتباره علامة ضعف وليس ظاهرة قوة تعكس نضجا عفوياً في موقف الشعوب الراغبة في التغيير دون الولوج في دوامة العنف وتدمير الأوطان . إن تغيير الحاكم و إسقاطه قد لا يكون هو المعضلة بحد ذاتها ، بقدر ما يكون الاصرار الشعبي على تفكيك الدولة العميقة الداعمة لذلك الحاكم هو ما قد يدفع الأمور الى مسار “إما قاتلاً أو مقتولاً” كما هو عليه الحال الآن في العديد من الدول العربية وأهمها مؤخراً الجزائر والسودان . إن مطالب الشعب في كلا الدولتين بتفكيك الدولة العميقة وعدم الإكتفاء بسقوط الحاكم هو ما أدى إلى دفع الأمور بإتجاه الصدام . وإصرار الشعبين في السودان والجزائر على مطالبهما تلك قد تعود بشكل كبير الى رغبة الدولة العميقة في تجاهل تلك المطالب ولا يعود لعدم أحقيتها . فالشعوب تعلم جيدا ومن خلال تجارب العقود الأخيرة أن الحاكم المستبد هو بالنتيجة واجهة أمامية للدولة العميقة في هذه الدولة المستبدة أو تلك ، وأن أساس الحل يكمن بالتالي في تفكيك تلك الدولة العميقة وعدم الإكتفاء بتغيير الحاكم. العديد من القضايا الخطيرة التي يجابهها العرب الآن ترتبط ارتباطا وثيقا بالدولة العميقة صاحبة القرار الحقيقي الداخلي في كل دولة عربية . و الدولة العميقة تزداد قوتها و شراستها في غياب الديمقراطية . إن الخيارات الصعبة المطروحة الآن أمام الدول العربية تفترض أن الدولة العميقة قادرة على السيطرة على مجرى الأمور دون الإلتفات الى الموقف الشعبي من تلك الخيارات . وفي هذا السياق فإن قضايا مثل صفقة القرن أو التطبيع مع إسرائيل والتي تفتقر إلى التأييد الشعبي تفترض وتستدعي تَدَخّل الدولة العميقة لفرضها على الشعوب. إن ما يمر به الأردنيون الآن مثلاً ، ينطبق على معظم الشعوب العربية ، ويتمثل في نجاح الدولة العميقة في تشتيت مؤسسات العمل الوطني المدنية وخلق فراغ سياسي ومؤسسي يجعل من الصعب على تلك المؤسسات ، خصوصاً الأحزاب السياسية والحراكات الشعبية ، القيام بدورها في خلق بيئة سياسية فاعلة تساهم في تقدم المسار الديمقراطي وبشكل سلمي . وعملية احتواء أو إضعاف تلك المؤسسات يهدف في أصوله الى الحفاظ على الأمر الواقع ووضع حد للمطالب الشعبية ومنها تعزيز المسار الديمقراطي للدولة ومحاربة الفساد وعدم القبول مثلاً بمشاريع تصفية القضية الفلسطينية المفروضة على الحكومات العربية لصالح إسرائيل . كان من الأجدى أن تقوم الأنظمة العربية المعنية بدعم الحراكات الشعبية ومؤسسات وهيئات العمل الوطني المعارضة لتلك المشاريع كوسيلة لتعزيز قدرة تلك الأنظمة على مقاومة الضغوط الواقعة عليها ، وعلى إرسال رسائل واضحة بأنها تتعرض لضغوط شعبية تمنعها من القبول بما هو مفروض عليها . ان هذا الخيار ، فيما لو تم تطبيقه ، لا يعكس ضعف الأنظمة بقدر ما يعكس قوتها في فسح المجال أمام شعوبها للتعبير عن رأيها . ان هذا الخيار هو الأمثل فيما لو كان النظام ودولته العميقة صادقين في رفضهما لما هو مطروح مثل صفقة القرن وفي إدعائهما بوجود ضغوط خارجية لا قدرة لهم على مقاومتها . وفي هذه الحالة فإن الرفض الشعبي قد يكون هو المخرج الأهم للمساعدة على مقاومة تلك الضغوط . أما أن يتم قمع الإحتجاجات والحراكات الشعبية فهو يعكس إما ضعف الدولة العميقة وخوفها من انفلات الأمور من يدها ، أو رغبتها الدفينة في قبول ما هو مطروح عليها بالرغم من أي إدعاء كاذب برفضه . الدولة العميقة قاسية وجبارة على شعبها ولكنها أيضاً ضعيفة وضعفها قد يكون السبب وراء خوفها من التغيير الخارج عن إرادتها . بصراحة ، الخيار الآن بين الدولة العميقة بمؤسساتها وفيما إذا كانت ترغب حقيقة بفتح الباب أمام مسار التغيير السلمي للنهج ، أم الاكتفاء بممارسة سطوة الدولة لمنع التغيير السلمي. البديل قد يكون أقل سلمية لأن التغيير هو سُنِّة الحياة . فالدولة حاربت الاصلاح الى الحد الذي أفقد الشعب الثقة بجدوى الاصلاح مما فتح الباب في العديد من الدول العربية أمام بروز شعار التغيير كبديل لمطلب الإصلاح الذي عملت الدولة العميقة جاهدة على إفشاله . ومطلب التغيير يدعو إلى تغيير النهج بالطرق السلمية وضمن إطار الشرعية الدستورية . إن هذه هي الفرصة الأخيرة أمام الحكم ومؤسساته الأمنية والدولة العميقة بشكل عام . وإذا ما فشلت هذه الدعوة تحت ضغوط الدولة العميقة ، فإن البديل قد يكون شيئا لا يرغب به أحد كونه قد لا يترك من خيار أخر سوى خيار الإبتعاد عن المسار السلمي واللجوء إلى العنف كوسيلة للرد على ذلك الموقف السلبي والمتشدد واللامبالي للدولة العميقة صاحبة الولاية المفروضة وغير  الدستورية.

*مفكر عربي

29 . 06 . 2019

اترك تعليقاً