السيمر / فيينا / الأثنين 13 . 12 . 2021
د. لبيب قمحاوي* / الاردن
يسعى المخططون الاستراتيجيون الاسرائيليون الى تكريس النهج الابراهيمي بأبعاده المختلفة كفلسفة المستقبل لمنطقة الشرق الأوسط عموماً والعالم العربي خصوصاً . وهذا النهج يهدف إلى العودة بالمنطقة الشرق اوسطية الى التاريخ البعيد بحثاً عن عوامل جامعة لسكان المنطقة كما كانت قبل آلاف السنين والانطلاق منها الى الوقت الحاضر في محاولة بائسة لإسقاط البسيط الذي كان قائماً في الماضي على المعقَّد القائم في الحاضر. الأمر ليس خيالياً او مستحيلاً بالصورة التي يبدو فيها ، كونه في أصوله محاولة شيطانية ذكية لإستغلال النصوص الدينية و الثغرات التاريخية و الأصول االعرقية في محاولة لربط كافة أطراف معادلة العلاقة العربية – اليهودية معاً كمدخل لإعادة تشكيل تلك العلاقة وتحويلها من علاقة صراع الى اطار جامع للأطراف المعنية وتحويلهم بالتالي الى مجموعة إقليمية واحدة بهدف الحفاظ على المكاسب الاسرائيلية في فلسطين والعالم العربي .
تعتبر صفقة القرن وما تلاها من اتفاقات التطبيع العربي_ الاسرائيلي تحت عنوان ” الاتفاقات الابراهيمية “ وما تمخض عنها من اجراآت تطبيعية سريعة ، والمحاولات الجادة والمتسارعة التي نشهدها الآن لتخفيف الصبغة العربية و الاسلامية للعديد من تلك الدول والاجراآت المختلفة التي اتخذت في ذلك الاتجاه ، انتهاءاً بتحويل يوم الجمعة من يوم عطلة أسبوعية تعكس الهوية الاسلامية للدولة الى يوم عادي آخر من أيام الاسبوع ، كل هذا وذاك والكثير مما هو قادم هو في حقيقته جزأً من ” المسار الابراهيمي” وتمهيداً لما هو اكبر وأخطر من خطوات واجراآت قادمة. ومن المهم في هذا السياق مراعاة أن ما يجري الآن وما هو قادم لعالمنا العربي أكبر من قدرات وامكانات المسؤولين القائمين على مقدرات هذه الأمة وهم انفسهم نتاج حقبة الانحدار والسقوط ولا يملكوا بالتالي ما يؤهلهم للقيادة الفعلية لهذه الأمة بهدف اخراجها مما هي فيه من انحدار وسقوط .
إعادة تشكيل الفكر الديني والعبث بالعقل العربي وقناعاته وهويته كانا دائماً في ضمير المستتر لكافة السياسات والاجراآت التي تبناها أعداء العرب في مختلف المجالات و بمختلف الوسائل انتهاءً بالدعوة الى “الابراهيمية” بأبعادها المختلفة.
إن المحاولات الجارية حالياً لتبسيط قضية معقدة مثل قضية فلسطين ، وواقع مشتبك ومتناقض في مصالحه مثل العلاقات بين العرب واسرائيل كدولة احتلال ، وذلك من خلال العودة بضعة آلاف من السنين الى الوراء بهدف البحث عن عوامل مشتركة جامعة ، مهما كانت بسيطة أو مٌخْتَلقة ، هوأمر يُخفي في طياته نوايا شريرة تجاه الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً . الفلسفة الابراهيمية هي في واقعها استدعاء الماضي السحيق لتبرير واقع جديد ينافي المنطق كونه يسعى الى إضفاء الشرعية و القبول على الكيان الاسرائيلي مما يتناقض والمصلحة العربية العامة بغض النظر عن موقف الأنظمة العربية المعنية و مدى توافق مصالحها مع النهج الإبراهيمي .
تترافق الدعوة الروحية الخيالية الغيبية والمشبوهة تحت مسمى” العقيدة الابراهيمية ” او ” الديانة الابراهيمية” والتي تهدف الى ربط الديانات اليهودية والمسيحية والاسلامية معاً من خلال ” أبوالأنبياء ابراهيم” وهو الأقرب زمنياً الى اليهودية ، بهدف الخروج بمنظور ديني ابراهيمي واحد يجمع اتباع الديانات الثلاث ، تترافق هذه الدعوة مع دعوات أخرى مشابهة وسابقة لها تنتمي إلى الشق السياسي من معادلة الصراع مع اسرائيل وتتمثل بالدعوة إلى “شرق أوسط جديد” بحيث تصبح” الهوية الشرق أوسطية” بديلاً عن الهوية العربية. و بالإضافة الى ذلك فإن هنالك
محاولات واضحة للعودة الى التركيز على الأصول العرقية السامِيَّة (Semitic Origin) للعرب والعبرانيين اليهود باعتبارهم ” أبناء عم ” من نفس الأصول العرقية ، كوسيلة للتأكيد على أولوية هذه العلاقة على الهوية العربية ورابطة العروبة والاستعاضة عنها بهوية أو رابطة دينية أو مذهبية أو عرقية أو جغرافية لا تعني شيئاً مثل الهوية الشرق أوسطية أو الأصول العرقية السامية أو العقيدة الدينية الابراهيمية ، ولكنها تسعى في جوهرها الى قبول اسرائيل ودمجها في المنطقة و تهدف الى تبرير وتكريس بقاء الوجود اليهودي الاسرائيلي على أرض فلسطين ، بل وحق اليهود التاريخي فيها .
“النهج الابراهيمي” هو الطريق السريع لنقل التطبيع مع اسرائيل من حالته الفردية المبعثرة والمتفرقة ، الى مسار عام يشمل معظم الدول العربية و اسرائيل ويغطي معظم أوجه الحياه خصوصاً الانتماء الديني والهوية السياسية و مشاريع التنمية و التكنولوجيا الاستراتيجية والتعاون العسكري . القيام بمشاريع استراتيجية مشتركة تكون اسرائيل فيها طرفاً أساسياً قد يكون أحد أهم الوسائل للسيطرة الاسرائيلية على مستقبل المنطقة وعلى الثروات والمصادر الطبيعية فيها واخضاع اقتصادات الدول العربية المعنية للمصالح الاسرائيلية وجعلها امتداداً للرؤيا السياسية و الاقتصادية والأمنية الاسرائيلية وبشكل يغني الاسرائيليين عن القيام بأي جهد عسكري لفرض رؤيتهم تلك. إن ربط دول المنطقة بذيل التبعية لإسرائيل من خلال تلك المشاريع الاستراتيجية المشتركة هو نوع جديد من الاحتلال يمكن أن ندعوه “احتلال المصالح العربية” كبديل عن الإحتلال العسكري التقليدي للأرض وما عليها .
ان ترجمة بعض الأنظمة العربية لمسار التطبيع و تحويله الى تعاون امني عسكري يأتي في السياق الذي حّوًل اسرائيل في عام واحد من عدو معلن الى جار مقبول ثم صديق ثم حليف استراتيجي .
التسارع غير المتوقع في مسار التطبيع العربي مع اسرائيل من خلال المسارالابراهيمي يؤكد على وصول الأنظمة العربية المعنية والراغبة الى قناعة تامة بأن لا دور لشعوبهم فيما يجري وأن لا قيمة لأي تحرك شعبي مضاد للمسار الابراهيمي مهما بلغ ذلك المسار من تمادي وتهورفي تقديم التنازلات لإسرائيل . الأمر لن يقف عند ذلك بل قد يتطور الى حدوده القصوى من خلال تواجد قواعد عسكرية اسرائيلية وأمريكية في تلك الدول تحت أعذار مختلفة تجعل من تلك الدول العربية توابع تدور في الفلك الاسرائيلي وتحت القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية ، و تتجسد بذلك الرؤيا الاسرائيلية الحالمة “من النيل الى الفرات” ، دون الحاجة الى خوض حروب لتحقيق ذلك .
ان كل ما جرى ويجري يعكس تسليماً رسمياً عربياً وقبولاًعملياً بالرواية الصهيونية بأن فلسطين هي أرض يهودية منذ الأزل وهي وطن لليهود ، وأن الوجود العربي الفلسطيني على ارض فلسطين انما هو حالة طارئة مما يجعل من طرد شعبها العربي الفلسطيني منها أمراً مبرراً. هذه هي الترجمه الوحيدة للمسار المخجل للأنظمة العربية وأيضا للطبيعة الصهيونية العدوانية العنصرية لذلك المسارالابراهيمي .
الجميع يقر ويعترف بأن العالم العربي الآن في حالة انهيار ، وهذا الانهيارالى مزيد كون عوامل النهوض اصبحت إما غير متوفرة أو غير مسموح بها ، ومع ذلك فإن فضح هذه الأفكار والأساليب و المخططات والفلسفات مثل ” العقيدة الابراهيمية “هي الخطوه الأولى على طريق رفضها و مقاومتها وإفشالها ، وليس قبولها والخضوع لها والتسليم بها كأمر واقع .
*مفكر عربي
12/12/2021