أخبار عاجلة
الرئيسية / الأخبار / “فلسفة الحوار” / قراءة في رحاب فكر الامام علي(ع)

“فلسفة الحوار” / قراءة في رحاب فكر الامام علي(ع)

السيمر / فيينا / الأثنين 10 . 04 . 2023 

د. عبد علي سفيح
مع إحياء ليالي رمضان المبارك، رمضان الخير والعطاء، والرحمة والغفران؛ وبمناسبة جرح واستشهاد شهيد الانسانية في محراب العز والفضيلة، رغبت نشر هذا المقال.
لم يسعى هذا المقال بالغوص في الأبعاد الأدبية والبلاغية للغة الحوار عند الامام علي، بل اهتم بالتحليلات الفلسفية للحوار والتي تميزت بنسختها الانسانية، ولو أن البعدين البلاغي والفلسفي متساوين في الثراء.
 يعرض هذا المقال فلسفة الحوار بوصفها أحد أهم الوسائل التي استخدمها الامام وأصبحت نمط حياته واسلوب تفكيره يربط بين مفاهيمه الدينية(امام)، وأفكاره السياسية(خليفة)، كحقلان لا ينفصلان.
الامام علي أرسى أجمل وأبدع وأكمل قواعد للحوار الانساني الذي يحفظ وحدة نسيج الأمة وتصان كرامة الانسان. وأشار الامام الى قواعد ومرتكزات أساسية للوصول الى تلك الأهداف ومنها: تغليب رأي الأكثرية واحترام رأي الأقلية لها، وحسن الظن بالآخر وكشف الحقيقة، والحوار حديث ايمان لا حديث تكفير وحديث معرفة لا حديث شتم وتحقير.
إن الحوار قديم قدم وجود الشعوب والتجمعات البشرية وتجاورها وتفاعل بعضها مع البعض، حيث تبادل المعارف والتجارب وأنماط العيش، وقد أكدت على أهمية الحوار ووحدة الأمة، التشريعات والأديان والفلاسفة والحكماء على مر العصور.
في هذه الدراسة لم أدرس الحوارات الفلسفية التي أجراها الامام علي، بل أدرس فلسفة الحوار، لأن الحوار الفلسفي يصدم بسلسلة من الاشكاليات المرتبطة بغموض العلاقة بين الحوار والفلسفة. هل يمكننا بالفعل فصل دراسة الحوار الفلسفي عن فلسفة الحوار؟.
الفلسفة عادة، على الأقل منذ افلاطون اعتبرت الحوار كقيمة وكممارسة؛ وجدنا أن الامام علي اعتبر الحوار كقيمة واستخدمها كطريقة للخطاب تقدم على القيمة المعطاة للنظر في كلام الآخر، الرد، والاعتراف. بينما الامام علي في خطبه ورسائله نادرا ما مارس حوارا فلسفيا لكنه أعطى للحوار فلسفة ورؤية خاصة به، وهذه الرؤية قد لعبت دورا بارزا في التنظيم الأمثل لاشكال المحادثات، لأن الحوار بصورة عامة يمر عبر الخطاب مهما كانت طريقته ونظامه.
أكد الامام علي على أهمية الحوار ووحدة الأمة الاسلامية من خلال سيرته وخطبه ورسائله الى عماله والاهتمام بالقواسم المشتركة بين البشرية  ٌ اما أخ لكك في الدين أو نظير لك في الخلق  ٌ(1)، وذلك للوصول الى التفاهم ودرء الجدال والخصام والحرب، لأن الحرب بالنسبة للامام بقدر ما هي تغطية للباطل فهي متلفة للحق.
اتخذ الامام علي الحوار طريقا لمواجهة التطرف، وخاصة حواره مع أصحابه قبل وقوع معركة الجمل في البصرة، وحواره عن طريق الرسائل مع معاوية بن أبي سفيان، وكذلك حواره مع
الخوارج بعد فتنة معركة صفين.
ثقافة السلام ونبذ الحرب التي تميز بها الامام، تكمن أهميتها في تعزيز ثقافة التعايش والتشارك المبنية على القيمة المقدسة للانسان وهي الحرية والتي اعتبرها الامام ينبوع لكل سواقي القيم الأخرى مثل العدالة والتسامح والحوار واحترام حقوق الانسان في العيش. هذه الثقافة ترفض العنف وتتشبث بالوقاية من النزاعات في منابعها أو اللجوء الى الحرب والتفاهم لتسويتها. 
أشاع الامام علي فقه الحوار واللاعنف خلال مسيرته.
الإمام علي أرسى أجمل وأبدع وأكمل قواعد للحوار التي بها تتوحد الأمة وتصان كرامة الإنسان وتقدس الحياة وأشار الى قواعد ومرتكزات أساسية للوصول الى تلك الأهداف العليا منها:
القاعدة الأولى: تغليب رأي الأكثرية وإحترام الأقلية لها
هذا المبدأ إعتبره الإمام كقاعدة أساسية للتعايش و ضمان وحدة الأمة ” والزموا السواد الأعظم ” وبدونها لا يمكن بناء أي حوار مع الأخر، وهو مبدأ إحترام رأي الأغلبية (العامة) من قبل الأقلية (الخاصة) مهما كان قرب الأغلبية من الصواب او الخطأ.
ومن كلامه الى مالك الأشتر النخعي عندما ولاه مصرا ” وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة ” ( 2).
وأما في صفين وفي هذا الحدث الكبير يؤكد لنا جليا وبدون أي شك مفهوم الإمام لحكم الناس ضمن هذه القاعدة الأساسية وهي قبول حكم الأغلبية حتى لو وضعت تجربته في مهب الريح، وفعلا كان الإمام يدرك أن تجربته سوف تتعرض لأشد المخاطر، حيث قال ” لم يزل أمري معكم على ما أحب الى أن أخذت منكم الحرب… ألا اني كنت بالامس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون” (3 ).
حكم الأغلبية اعتبره الإمام دستورا يجب الألتزام به وأن يخضع له كل الناس من أميرهم الى مأمورهم لأن بها دون غيرها تتحقق وحدة الأمة وبناء الحوار الصحيح، ومن أجل موقفه من الخاصة والعامة أحبه العامة وارتضوه إماما وهاديا ومهديا، وأنكره معظم الخاصة وأهل المطامع، وفضلوا لغة القطيعة على لغة الحوار، ورغم ذلك كله لم يغلق الإمام الأبواب في وجوههم حيث استمر ببعث الرسائل والوفود لدفع الحرب وإجتثاث ثقافة العنف كبديل لحل الخصومات بالطرق الدستورية المبنية على الحوار.
القاعدة الثانية: الحوار هو كشف الحقيقة، وحسن الظن بالآخر
لقد كان عصر خلافة الامام علي عصرا مضطربا، لأن الرجل في ذلك الزمن كان يمسي مؤمنا بخلافته ومطيعا لأوامره، ويصبح متطلعا للالتحاق بمعارضيه، وقد وجد الإمام عليّ أن التغيير الحاصل في حياة الناس وتطلعاتهم نحو الرخاء أوصلتهم الى حالة جعلتهم يصدّقون أي شئ في الفريقين (الخاصة و العامة) ، فكان أسلوبه مع الناس أسلوب المكاشفة والشفافية، فقال لهم (( يا أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، ولا تسيء اللفظ وإن ضاق عليك الجواب، ولا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل، تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه)) (4).
قال يوما للخوارج ((أكلكم شهد معنا صفين؟ قالوا: منا من شهد ومنا من لم يشهد، فقال لهم: فاحتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفين فرقة ومن لم يشهده فرقة، حتى أكلم كلا منكم بكلامه))(5) كان هدف الإمام هو إزالة الشك من قلوب الناس لوأد الفتن قبل طلوعها، وكان الإمام يحسن الظن بالناس رغم معارضتهم له، ويبصر أن التغيّرات السريعة في حياة المسلمين من قبيل الرخاء الذي أصابهم جعلتهم لأن يتخذوا المواقف غير السليمة، طبقا لقوله تعالى(إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق: 6-7 )، فالمكاشفة النزيهة والحوار المسؤول هما السبيل الأسلم لضمان سلامة الرعية من الانحراف.
القاعدة الثالثة: الحوار من أجل البناء. الحوار الصحيح مناظرة لا مهاترة، تعارف لا تخالف ، حديث مودة لا حديث بغضاء، الحوار الموضوعي بنظر الإمام علي يفترض التسامح والتفاهم والأحترام والتقدير بين المتحاورين، فإن شرعة اللاعنف التي نادى بها عليه السلام في مسيرة حياته هي شرعة الرسول محمد، وشرعة الحوار الصحيح في الحقيقة الدينية، هي أصلا شرعة القرآن (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: 256)، فالعقيدة الصحيحة المبنية على القرآن تفرض إحترام المحاور مهما كان رأيه، ويجب تقدير عقيدته، وإن كنا لا نأخذ بها، ولقد سن القرآن هذه السنة بقوله تعالى: ((لكم دينكم ولي دين )) (سورة الكافرون:6). 
ومما يؤدي الاختلاف من وقوع تدافع بين الناس يشكل أحد أهم مقومات بناء الأرض ورفع الفساد عنه كما عبر القرآن عن هذه الحالة بقوله تعالى ((وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ))( البقرة :251).
جاء أحد الخوارج واسمه الخريت بن راشد الى الإمام علي بعد رفع المصاحف وانتهاء التحكيم، وجرى بينهما حوار أمام الناس، فقال الخريت للإمام علي: لا والله من اليوم لا أطيع أمرك، ولا أصلي خلفك، وأني غدا لمفارق لك.
فقال له الامام علي: ثكلتك أمك، إذن تنقض عهدك، وتعصي ربك، ولا تضر الا نفسك، فأخبرني لم تفعل ذلك؟
أجاب الخريت: لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت الى الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راد، وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين.
أجابه الإمام: ويحك هلم إلي أدارسك وأناظرك في السنن، وأفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت الآن منكر، و تبصر ما أنت عنه عمُِ وبه جاهل.
قال الخريت: فأنا غاد عليك غدا، ثم إنصرف من عند الإمام علي.
لم يعد الخريت في الغد ولا بعد غد، وبقى على مفارقته لعلي، فجاء أحد أصحاب الإمام علي مشيرا عليه بأن يقبض على الخريت فرفض الامام هذه الإشارة.
القاعدة الرابعة: الحوار هو حديث إيمان لا حديث تكفير، وحديث معرفة لا حديث شتم وتحقير.
لم يكن الإمام علي رجلا مستبدا برأيه وهو القائل ٌمن إستبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم، ومن إستقبل وجوه الآراء عرف مواقف الأخطاء ٌ(6). وكان يسعى الى فهم الغير قبل الحكم عليه، إذ يصح أن نصدر حكما بالإستناد على ماعندنا وحده فقد يكون ماعنده صحيحا كما نعتقد صحة ما عندنا، والحقيقة تنشد الحقيقة، هذه الشرعة أخذها علي من القرآن (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) (سبأ:24-25-26 ) وهذه الآيات نزلت عندما كان الرسول يحاور غير المؤمنين ولكنهم كانوا يصرون على أن الحق من جانبهم، فحسم الرسول (ص) الحوار على قاعدة النص، حيث وضع نفسه في مستوى من يحاوره تاركا الحكم لله، هذه القاعدة طبقها الإمام علي خلال حكمه. فمن الأولى على المسلمين التمسك بهذه القاعدة لا سيما في زماننا هذا، والعمل بالنقاط المشتركة الجامعة لمصالحهم.
لقد سبب الخوارج شرخا كبيرا في وحدة الأمة التي طالما سعى الإمام للحفاظ عليها طوال حياته، لقد سمع قولهم: (( ولا حكم إلا لله، فقال الإمام: كلمة حق يراد بها باطل، نعم أنه لا حكم الا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة الا لله، وأنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، ولكن إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبه والتأويل)) (24)، رغم هذه الخصومة التي أدت الى القتال لم يكفرهم الامام علي ولم ينسب لهم ما يهين كرامتهم بل قال إخواننا في الدين، وعندما ضُرِبَ من قبل أحد الخوارج أطلق وصيته الشهيرة فيهم ” لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”.
أما بالنسبة الى السب والشتم فقد سمع الإمام علي قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فقال لهم “أني أكره لكم أن تكونوا سبابين. ولكنكم لو وضعتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم؛ اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يَعرِفَ الحق من جَهَلَهُ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لَهِجَ به” (7).
فمن سيرة الامام علي نرى ونطّلع على أن طابعين أساسيين كانا سائدين في الثقافة الاجتماعية العربية آنذاك: هما:
الأولى: نزعة الحرب والقتال أي ثقافة العنف واللاحوار.
والثانية: هي نزعة العصبية القبلية أي التوحيد القبلي، بدلا عن التوحيد على أساس دستور يضمن حقوق الجميع بدون تمييز، فالمتتبع يلحظ بكل يسر وسهولة عدم تأثر الامام علي بهما.
والتاريخ يثبت أنه لم يكن الإمام علي داعية حرب يوما ما، وكان يقول لأمرائه (لا تدعونّ الى المبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع ) (8)، أي كل دعوة الى العنف هي خسارة في نظر الامام علي، وكان (ع) يرى في الحرب والقتال مَتلَفَة، وكان مؤمنا بالحوار والسلم أشد الايمان، وهو القائل: إياكم والخصومة.
فثقافة العصبية القبلية والتوحيد القبلي هو فقه الطاعة للأمير و ليس فقه الحوار.
الفقه الذي تبناه الامام علي هو فقه الإصلاح الذي أساسه الدستور وهو القرآن، والفقه الذي إلتزمه خصوم علي هو فقه الطاعة للأمير حتى لو تسلط على رقاب المسلمين بالغلبة وقطع الرؤوس كما يسمى اليوم بالانقلاب العسكري.
ولو ألقينا نظرة على مفهوم الرئاسة والإمرة عند الإمام علي فنرى أنها لم تكن حقاً يستأثر به أحد أيا كان، بل الولاية والإمرة هي من الجماعة تولي من تشاء وتخلع من تشاء بحسب قربه أو بعده من الدستور وهو كتاب الله، ويوضح هذا المفهوم بقوله: (فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك فتم أمرهم، وإن اختلفوا فدعهم وما هم فيه)(9)، لقد غلّب الإمام علي فقه الإصلاح أي الحوار على فقه الطاعة للولاة أو القبيلة.
المصادر والهوامش
1.سيد عطية أبو النجا(1988): كتاب نهج البلاغة مترجم الى الفرنسية، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1986، ص150.
2 شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، دار كتب الاحياء العربية، مصر 1986، ج8 ص236.
3.المصدر نفسه، ج9 ص135.
4.المصدر نفسه، ج20 ص255.
5.المصدر نفسه،ج18 ص56
6.المصدر نفسه، ج20 ص250.
7.المصدر نفسه، ج11 ص21
8.المصدر نفسه، ج20 ص16
9.المصدر نفسه، ج18 ص151.

اترك تعليقاً