السيمر / فيينا / الثلاثاء 04 . 07 . 2023
حمزة الحسن
ـــ إنهم يريدون منا أن نعتبر فجأة أن الخنازير أصبحت خيلا وأن العذارى انقلبن ذكورا وأن الحرب هي السلام؟
* نعومي تشومسكي. كتاب:
قراصنة وأباطرة:الارهاب الدولي في العالم الحقيقي.
الجواب التقليدي نعم نفكر لكن التفكير غير الاجترار والتلقين،
التفكير يعني إنتاج معرفة وبمفاهيم غير مستعارة، وعكس ذلك الانسان لا يفكر بل يكرر ويستعيد ويجتر سواء كان يدري أم لا يدري.
الاحتلال اللغوي لا يقل خطراً عن احتلال الأرض، رغم ان الاحتلال العسكري قائم اليوم بـــ 12 قاعدة عسكرية والقرار السياسي مرتهن،
ولا يمكن احتلال الارض بلا خطاب ولغة للتبرير،
وكعادة الولايات المتحدة عند احتلال بلد ما،
تلجأ لخلق القاموس الخاص بها وتقطره على مراحل،
ومع قاموس لغوي تشرع له مؤسسات،
ويصبح العراقي مثلاً لا يفكر عندما يعتقد أنه يفكر،
بل يفكر من خلال مفاهيم أمريكية جاهزة،
وعبارة تشومسكي تلخص الخطاب الأمريكي وقاموسه المزيف وهو بروفسور اللسانيات وقضى حياة في تفكيك هذا القاموس المقلوب والمراوغ.
في كتابها المرجعي” هل يستطيع التابع أن يتكلم ؟” للمفكرة الهندية الامريكية الكبيرة غاياتري سبيفاك الاستاذة في جامعة كولومبيا تقول ان التابع يتكلم لكن لغة المستعمِر وهو ما يقوله ادوارد سعيد والفيلسوف الهندي الانكليزي هومي بابا الاستاذ في جامعة هارفرد في كتابه ” موقع الثقافة” والفيلسوف الايراني الامريكي حميد دباشي وكل الكتاب الذين اهتموا بخطابات ما بعد الكولونيالية والاستعمار لانه عندما يرحل يعتقل الناس بقاموس شرير خف،
وحميد دباشي وريث أدوارد سعيد وضع كتابا بعنون: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟ في تحليل عميق للمركزية الغربية التي تحتكر النظرة للحياة وتلغي ثقافات الشعوب الأخرى.
هؤلاء الفلاسفة غير الاوربيين أثبتوا ان الحياة يمكن رؤيتها من غير المركزية الأوروبية Eurocentrism التي تعتبر رؤية طبقية عنصرية للشعوب حسب توصيف سمير أمين.
خلال سنوات الاحتلال نزلت لسوق التداول عبارات
منتقاة تم تنزيلها بهدوء وصمت بالقطارة لكي لا تظهر خارجة
من مراكز أبحاث وفي السفارة الامريكية أكثر من ثلاثة آلاف خبير
في كل العلوم والاختصاصات والحقول بما في ذلك التاريخ
والتقاليد والطقوس واللغة والعادات وكل الخصائص المحلية العراقية.
هذه العبارات الجاهزة المنتقاة صارت جزءاً جوهرياً من الثقافة السياسية
ومن الحوار السياسي بين الساسة وفي حوارات التلفزة وعامة الناس وبين الانسان مع نفسه مثل:
محاصصة ـــ توازن قوى ـــ قانون ـــ تشريع ـــ لعبة سياسية، دستور؛
مرحلة عبور ـــ العملية السياسية ـــ الكتلة الاكبر ـــ فصائل موالية، إنتخابات الخ.
في حالات قتل عوائل يتم تبرير ذلك بقاموس:
تقاطع رصاص ـــ نيران صديقة ـــ معلومات خاطئة،
تصبح جريمة مسح عوائل سوء تقدير.
الثقافة السياسية منذ الاحتلال رهينة هذه اللغة المشرع لها
بمؤسسات كالبرلمان والمحكمة العليا والرئاسات والدستور وتداول سلطة
على أساس عرقي وطائفي صار عرفاً.
لذلك العراقي عندما يفكر لا يفكر بلغة خارج القاموس الأمريكي كما يتوهم،
بل يبحث عن حل من خلال لغة جاهزة سلفاً،
هو يسبح لا شعوريا في نسيج لغوي جاهز،
وقاموس جاهز سلفاً لكي لا يتم الخروج على قواعد اللعبة
وهذا القاموس أشبه بلوائح سجناء لا يغيرون قواعد السجن بل يطبقون القواعد.
هذا النظام ومعه نحن أشبه ما نكون أمام لعبة اطفال للسيارات الالكترونية أمام شاشات،
يشعر الطفل بحرية زائفة في العمل والاثارة واحتراق أو انقلاب
السيارة أو الفوز لكنه ينسى أن كل شيء مبرمج.
نحن لا نفكر بقاموس وطني بديل بل بالقاموس الامريكي،
ومنذ ظهور مصطفى الكاظمي، كمثال، ضخت مراكز الابحاث الامريكية
في البنتاغون رقم 2 ـــ تسمية تشومسكي للسفارة في بغداد ـــ مفردات
وعبارات بصورة مباشرة أو قنوات محلية وخليجية تصف الكاظمي:
معتدل ـــ يمسك العصا من الوسط ـــ خبير ـــ تفاوضي ــ لا يميل للخصام،
حل وسط ـــ خارج مراكز القوى ـــ علاقات مع الجميع والخ الهراء.
في الغالبية العظمى من تحليلات الانشاء السياسي المتداول
لا يخرج الكاتب عن هذا القاموس المنجور بدقة،
وتتوارى هذه اللغة ليس فقط عن من يؤيدون النظام فحسب بل عن من يعارضونه
وهؤلاء يعارضونه بلغته وليس بلغة مضادة لانها تتداخل مع الثقافة المحلية
وتلوح كما لو انها لغة وطنية.
هذه اللغة تؤدي وظيفتين:
الأولى: تم تحديد وتوصيف من هو الكاظمي، كما في وصف غيره، من رؤية مسبقة.
الثانية: على العراقيين رؤية الكاظمي من خلال هذا القاموس
والحوار تم على خلفية هذا القاموس حتى نهاية سنوات هذا الابله والجاسوس والدمية.
حاول أن تقرأ أي تحليل سياسي بلا استثناء أو الاصغاء لحوار متلفز ، ستجد خلفية التحليل هذا القاموس الشرير بلا شعور،
وعلى مدى سنوات قادمة سينتقل للأدب والفولكلور بل ظهر في اعمال روائية الان كما ظهر في روايات سلمان رشدي المسلم وروايات س. ف. نايبول الهندوسي وحاز نوبل وفي روايات تسليمة نسرين البنغلادشية وغيرهم،
والجوائز الأدبية العربية تشجع المضي في هذا الاتجاه بطرق التفافية غير مباشرة.
هذه اللعبة تجري في كل مشروع سياسي أمريكي،
هم يصنعون القاموس ونحن نفكر من خلاله،
ويغيب القاموس البديل الوطني:
في الحقيقة نحن لا نفكر
بل نجتر قاموساً جاهزاً ملقّناً وليت الامر توقف على التلقين الامريكي وحده،
بل عشرات القوى والمؤسسات المحلية تُلقن وكل فريق يلقن ويثقف ضد الاخر:
التابع لسلطة أو جماعة أو فرد لا يفكر ولا يتكلم بلغته.
كيف يفكر إذن الانسان؟
بل كيف يتوازن على قيم ومعايير ومقاييس متعادية متناقضة؟
واي جيل مختل سيكون نتاج هذه التناقضات الحادة في المعايير؟
إن انهيار المعايير العامة التي تضبط الايقاع الاجتماعي وسيطرة المعايير الفردية وكل فرد يحلل ويحرم حسب مصالحه، علامة خطر جدية على انهيار شامل يوماً مهما طال الزمن.
نحن سنواجه سلسلة انهيارات مروعة في أية لحظة لان الواقع الحقيقي غير ما نراه فلا نقع في رهانات االمظاهر كما في السابق والتعويل على خلافات الاحزاب،
صراع الساسة اليوم هو صراع على أسلاب وغنائم ومواقع وليس على برامج تنمية ولا يمكن الرهان عليه،
وهؤلاء، بتعبير جورج أورويل:
” كالقرود اذا تشاجروا، أفسدوا الزرع، وإن تصالحوا أكلوه”