السيمر / فيينا / الأربعاء 11 . 10 . 2023
أ. د. عبد علي سفيح
الغرض الأساسي من هذا المقال نقل فكرة مفادها، العنف والقسوة في العراق أساسه التنوع في المكونات، والمشكلة العراقية الأساسية هي كيفية ادارة هذا التنوع، إذ هو ولد من رحمه هويات محلية مختلفة، وكلما مر العراق في ازمة توشك على الانقسام أو حرب داخلية، يبحث العراقيون عن كبش فداء يرمون عليه عيوبهم كلها.
ويبدو أن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث والمعاصر يتسم بالعنف الشديد، إذ تتخلله أحداث صادمة أكثر من أي بلد في الشرق الأوسط مزقته المآسي المتكررة، ويشعر سكان العراق بفقدان السيطرة على مصائرهم؛ لأنهم يخضعون إلى حركة بلا هوادة يتدهور فيها أمنهم الجسدي والمادي.
وينفرد العراق عن باقي الشعوب العربية وغير العربية المحيطة به، بأنه يقتل أبناءه المؤسسين، وعلى سبيل المثال: قتل عائلة الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية، وجعفر العسكري (1885-1936) مؤسس الجيش العراقي، ويوسف سلمان الملقب بفهد (1901-1945) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وعبد الكريم قاسم (1917-1963) مؤسس الجمهورية العراقية، وفؤاد الركابي (1935-1980) مؤسس حزب البعث، والسيد محمد باقر الصدر(1935-1980) مؤسس حزب الدعوة الاسلامي، والسيد محمد باقر الحكيم (1939-2003) مؤسس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية.
وشهد العراق كذلك رجالات مضرب الأمثال في العنف والقسوة ومنهم أبا العباس السفاح، والحجاج ابن يوسف الثقفي، ومن قبل قتل في العراق الامام الحسين سبط مؤسس الدين الاسلامي النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهنا يكمن السؤال كيف يمكننا أن نحلل ظروف انتاج العنف في العراق؟ وهل المجتمع العراقي عنيف وقاسي قابل للاشتعال؟ وهل ظاهرة العنف والقسوة صفة تلازم ملامح الشخصية العراقية قديمًا وحديثًا؟ كل هذه التساؤلات شرعية وتحتاج إلى دراسة مستفيضة للوقوف على جذورها وينابيعها والروافد والسواقي التي ترفد منها.
ومن تجربتي الشخصية تلك التي اكتسبتها خلال(44) عامًا من الهجرة والترحال والبحث العلمي، وجدت أن العنف والخوف صنوان لاينفصلان، أين ما وجد العنف، نرى الخوف ملازم له، قمع العنف أمر مستحيل حتى في أكثر المجتمعات تطورًا، بل يمكن تقليله، إما الأشخاص الذين يمارسون العنف والقتل يخافون من أنفسهم دائمًا، ولذلك ليس لهم ثقة في الآخرين ويشكون في ولائهم وكانما يهدد وجودهم، إذ أن الحروب جميعها تبدأ بخوف شديد ومنه يكون العنف مشروعًا.
والعراقيون ينتابهم الخوف والريبة وعدم الثقة دائمًا، فيولد لديهم شعور بأن عليهم أن يقاتلوا، وهناك أدوات لفهم مناخات العنف، إذ يظهر اليوم ما عاناه العراق ككارثة من الحروب المتكررة، والقبور الجماعية، وسرقة المال العام، ومصادرة حقوق الأقليات، كلها صور للعنف لا معنى لها وغير مفهومه؛ لكن وجدت كتناقض في الرغبة عند رؤية ظاهرة، وفي الوقت نفسه الرغبة في زوالها.
السؤال هنا، من أين ولد الخوف عند العراقيين وتوارثوه أجيالًا؟.
كما ذكرنا سلفًا العنف والخوف صنوان لا يفترقان، يتأثر الخوف بالسياق التاريخي والثقافي للمجتمع، وكثير منها مكتسبة من البيئة المحيطة، اسباب الخوف يعود إلى سببين بارزين، أحدهما خارجي والآخر داخلي، إذ يقع العراق ضمن دائرة التدخل الخارجي الأكثر جاذبية في الشرق الأوسط، فكانت شهوة التدخل بقصد السيطرة على الثروات وقهر المنافسين، فهو قلب العالم القديم فعلى أرضه تحتك الحضارات والثقافات، وتتصارع الامبراطوريات والدول الطامحة مع نظيرتها العراقية وغير العراقية، ومنها الامبراطورية الفارسية، واليونانية، والمغولية، والعثمانية، والبريطانية، وأخيرًا وليس آخرًا الأميركية.
اما العامل الداخلي، فهي الفيضانات لنهري دجلة والفرات، منذ عهد بعيد تحل المآسي في العراق من جراء الفياضانات والخسائر الجسيمة في الأنفس والممتلكات، وتصاحب هذه الكوارث الطبيعية الأمراض ومنها الطاعون والكوليرا، وتشير المصادر التاريخية أن أعظم كارثة حلت في بغداد عام(1030، و1073، و1077، 1830، و1907). واستمرت هذه الكوارث وتوقفت في نهاية سبعينات القرن الماضي، وهذان العاملان الخارجي والداخلي جعل العراقي يخاف من يومه ومن الزمن، وهما ايضًا جعلوا الخوف والعنف عند العراقي صنوان لا يفترقان.
أرجع الى السؤال الرئيسي وهو: لماذا يقتل العراقيون مؤسسيهم؟ هل يعتقد العراقيون بأن هؤلاء هم سبب مآساته ومشاكله الأساسية؟ فعندما تدخل الرغبات الفردية في المنافسة، فتحدث ارتباك فتتحول إلى ازمة تهدد وحدة المجموع، وفي ذروة هذه الازمة، يبحث المجموع عن كبش فداء يتم اعدامه في جريمة قتل جماعي في غياب المسؤل كفرد، فيعود السلام للمجموعة، قوة السلام تعد كبش الفداء، وخير مثال على ذلك، قتل حسين كامل، ومن قبله نوري السعيد، والفرهود لليهود، والعائلة المالكة، وعبد الكريم قاسم، والسيد الصدر الأول والثاني، وناظم كزار، كذلك ما حصل في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا في ازمة قوية اتسم النظام بعديد من التوترات والصراعات الداخلية مما أدى إلى وصول هتلر والغاء الجمهورية، مع تولي هتلر منصب مستشار الرايخ في عام (1933)، أصبحت معاداة السامية سياسة حكومية فأتخذ اليهود كبش فداء لاعادة اللحمة والوحدة للمجتمع الألماني، والأعجب من ذلك، حتى المفكرين الألمان وكبار الفلاسفة ومنهم هيديغر كان مع هذا التيار.
ولا يمكن للمجتمعات أو المجاميع البشرية أن تتسامح مع العنف الداخلي الذي يهدد وجودها، ولذلك يحاول المجتمع تصدير العنف والفوضى إلى الخارج وذلك بصياغة رواية شبه أسطورية يتم من طريقها تقديس هذا العنف كما يحصل في الادعاء بتحرير فلسطين أو الحرب ضد أميركا والكويت وايران.
وان مفهوم كبش الفداء، مرتبط ارتباط كبير بالطقوس الدينية لارتباطها بالأضاحي(الفداء) البشرية وغير البشرية، متطلبات العقائد الدينية والطقوس هي تقديم الأضاحي، السؤال هنا، لماذا أزداد عددًا وحجمًا عدد الأضاحي البشرية في العراق خلال التاريخ الحديث والمعاصر؟
ورد في مقولة شهيرة للملك فيصل الأول عام(1921) : “أقول وقلبي ملآن أسى…انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة”، ما ورد في هذا القول سواء كان ينسب للملك فيصل الأول أو لغيره، يعبر عن حقيقة تاريخية بأن سكان وادي الرافدين حتى فترة تأسيس الدولة العراقية كان النظام الاجتماعي محلي، والأعراف والتقاليد المحلية هي التي تنظم الحياة الاجتماعية، وبما أن العراق كان أكثر من (80%) من سكانه هم من أهل الأرياف، فكانت الأعراف القبلية هي المنظم الأساسي للقبائل والعشائر، اما المدن العراقية التي أصبحت نواة الدولة العراقية الفتية، ولم تمثل أكثر من (20 الى 30%) من السكان، كان السوق هو المنظم للحياة الاجتماعية، أي التجار والتجارة هما أساس التنظيم الاجتماعي.
وبما أن السوق وتجار السوق لم يسمح بالعنف والقتال، لذلك أصبحت الأسواق مناطق منزوعة السلاح محرمة يحرم فيها القتال، بعد تأسيس الدولة العراقية أخذت مساحة الأسواق والمدن تتوسع على حساب الأرياف، بدأ ازدهار الدولة لأن أساس النظام كان قائم على نظام السوق، هذا النظام يدير الاختلاف والتنوع العراقي بنحو سليم ومنتج، نظام السوق في المدن كان قائمًا حتى (1958).
إن ولادة الحركات السياسية والعقائد المثالية البعيدة عن الواقع، أدت إلى تسييس السوق واقصاء رجالاته، الحزب الشيوعي اتخذ التجار أعداء له، والأحزاب القومية اتخذت اليهود والكرد الفيليين أعداء لها، وهذه التنوعات جميعها كانت ضامنة لنظام السوق في المدن، ابعادهم هو اضعاف المدينة التي تعد نواة الدولة العراقية، ولعرقلة انقسام وحدة المجتمع العراقي وتهشم نسيجه، توجب سلطة مركزية قوية وقاسية، مع اتخاذ بين فترة وأخرى كبشا للفداء لمنع الانقسام الداخلي، وعلى سبيل المثال في عام (1968) عند وصول حزب البعث للسلطة، تم اعدام (13) تاجر عراقي يهودي وعلقهم في ساحة التحرير ككبش فداء، وفي (1980) عند وصول صدام حسين للسلطة، عمل على تهجير أكثر من ربع مليون كردي فيلي بحجة التبعية الايرانية وأكثرهم كانوا من التجار.
أن المشكلة العراقية الأساسية هي كيفية ادارة التنوع، والعجز عن الادارة أو الضعف إذ يؤدي إلى البحث عن كبش فداء، اي إلى العنف والقسوة، واحيانًا الى الحرب والقتل.