السيمر / فيينا / الاحد 17 . 05 . 2020 — توفيت المخرجة المغربية، دليلة النادر، في العاصمة الفرنسية عن عمر يناهز 53 عاما إثر معاناة مع المرض، بحسب عائلتها.
وبهذا الرحيل المبكر، حرمت السينما المغربية من مخرجة أفلام وثائقية لها صوتها المميز ومشروعها الخاص، الذي لو قيض لها إكماله لأعطت لهذه السينما الكثير، والأكثر منه للمرأة المغربية التي كرست كل أفلامها لتصوير واقعها وهمومها وأحلامها.
فالنادر، تمتلك عينا حانية وحساسية خاصة في تصوير واقع النساء المهمشات الوحيدات والمنسيات والطبقات الفقيرة المسحوقة، وتخرج من هذا الواقع البائس بنتاج جمالي مختلف.
ويكاد الرجل أن يغيب عن أفلامها، وحتى إن حضر، يظل حضوره هامشيا أو لتقديم شهادة عن هذا الواقع الصعب الذي تتحمل نساؤها الوحيدات قسوة الحياة فيه بقناعة مصحوبة بسخرية عالية وإصرار مقابل على إدامة الحياة وأداء كل واجباتها؛ من عمل لكسب العيش وعمل منزلي ورعاية الأطفال وسط واقع الفقر والتهميش الذي يغرقن فيه.
حكايات النساء
نساء النادر يُثرثرن ويعملن كثيرا في الوقت نفسه، وهذا المزيج يمثل مادة عمل المخرجة الأساسية في كل أفلامها التي تبرع في مونتاجها وإبراز التناقضات الكامنة تحتها.
فالكلام، أو بالأحرى الحكي، هو مادتها الأساسية، لذا تكاد أفلامها تقترب من الريبورتاج الصحفي وتعتمد كثيرا على إسلوب المقابلات، لكنها تتوفر في الوقت نفسه على عين يقظة تلتقط بكاميرتها تفاصيل الحياة اليومية المحيطة لتعطي لمقابلاتها تلك طابعها السينمائي.
وتترك نساء أفلام النادر، بحيوتهن وصدق انفعالهن وحضورهن الممتلئ بالبساطة والتلقائية أمام الكاميرا، انطباعا عميقا في ذاكرة المشاهد، فلا يمكن نسيان سعدية في فيلم “بطلات”، التي تثرثر عن حياتها الشقية: بدءا من طلاقها وعبورها للعمل في الخدمة في إسبانيا وعودتها لتربية طفليها، وهي تعجن العجين، أو قل تعجن الكلام بالعجين.
وكذلك الحال مع فاظمة في فيلم “لطالما أحببت” المرأة العجوز البربرية التي تتحدث بسخرية مرة عن حياتها العجيبة، عندما أخذت مع الجنود المغاربة للعمل كمومس لتسلية الجيش الفرنسي في الهند الصينية، وتطالب الحكومة الفرنسية بالاعتراف بخدماتها كما اعترفت بخدمات الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي؛ أو بلاغة عائشة ابنة الصحراء التي يقترب عمرها من مئة عام وعاشت حياة العبودية في موريتانيا والصحراء الغربية، لكنها تُلقي الشعر بلغة عربية جزلة وتتحدث في النحو العربي.
وتحرص النادر على أن تسم نساءها دائما بالبطولة، فتراها تكرر هذه الكلمة في بعض عناوين أفلامها من أمثال “بطلات: نساء المدينة القديمة” أو “فاما: بطلة بلا مجد”.
العودة إلى المكان الأول
ويمثل التعامل مع المكان العنصر الأساسي الثاني في أفلام النادر، المهاجرة التي ولدت في الدار البيضاء عام 1966 وانتقلت للعيش في باريس منذ طفولتها المبكرة، لكنها عادت لتجد في مكان طفولتها الأولى، في المدينة القديمة بالدار البيضاء، منجما أساسيا تنهل منه موضوعات أفلامها، وتعيد في ضوء العلاقة به تعريف مفاهيمها للهوية والاغتراب والعلاقة بالمكان الأول، الوطن.
ولا ترى في أفلام النادر، ذاك التعامل الفوقي، أو التعامل الغارق في الحنين (النوستالجيا) الذي يميز بعض الفنانين المغتربين عن بلدانهم الأولى، بل تراها تغوص فيها الواقع ملتقطة أدق تفاصيله؛ لا سيما ما يتعلق بنسائه الوحيدات المسحوقات، مخفية تحت ذلك محاولتها هي للتعرف على نفسها وهويتها في ضوء هذا المكان المُكّون.
لقد بدت النادر متعطشة للمكان المغربي، أو مكان طفولتها الأول، فكان مستقرها الأخير الذي كرست جُلَّ أفلامها لتصويره، محاولة عبر عين كاميرتها اكتشافه.
ويتوضح معنى تلك العودة إلى المكان الأول عند التدقيق في حياة النادر، التي عاشت طفولتها وترعرت في ضاحية السان دوني إلى الشمال من العاصمة الفرنسية باريس، وتركت الدراسة وهي مراهقة بعمر 16 عاما، لتعيش حياة تنقل لأكثر من عشر سنوات؛ عاشت فيها غويانا الفرنسية وألمانيا والمغرب ومقاطعة كيبك في كندا.
وقد تعلمت السينما خلال هذه الفترة تعليما ذاتيا، دعمه وجود أهتمام بهذا الفن من أبيها وأخيها الذي احترف التصوير الفوتغرافي، وتمكنت من العمل كمساعدة ومديرة انتاج في بعض المسلسلات التلفزيونية والأفلام قبل تحولها إلى الإخراج السينمائي.
اختارت النادر السينما الوثائقية كحقل عمل أساسي لها، واختارت المكان المغربي كمادة عملها الفيلمي المفضلة؛ مستقرة عنده بعد حياة التنقل تلك. لذا تبدو كل أفلامها محاولة لاكتشاف هذه المكان تحرص فيها على التقاط اليومي والمألوف وترك الواقع يثرثر في أفلامها كما هو ومن دون تدخل كبير منها، أو محاولة تزويق بغرض الخروج بجماليات فنية ما.
وعلى الرغم من أن النادر قدمت أول أفلامها في عام 1987، وأخرجت فيلمين أخرين في عقد التسعينيات من القرن الماضي، إلا أنطلاقتها الحقيقة وظهور الاهتمام النقدي بأفلامها كان مع مطلع الألفية، عندما قدمت فيلمها “بطلات: نساء المدينة القديمة” عام 2000، الذي قدمت فيه مقطعا من حياة يومية لعدد من النساء المغربيات وإصرارهن على صنع الحياة وإدامتها وسط واقعهن البائس في العيش في قاع المدينة القديمة في الدار البيضاء.
“مومس مع الجيش الفرنسي في الهند الصينية”
وفي عام 2003 انتقلت إلى عمق الصحراء الغربية لتصور لنا عيشة (عائشة) المرأة العجوز التي عاشت نحو قرن متنقلة في حياة عبودية عند شيخ قبيلة يدعى المعيني، لتلتقط سحر حكيها، الذي يفيض بالشعر والبلاغة بلغة عربية فصيحة في قلب الصحراء.
وعادت في عام 2004 لتقدم في “فاما: بطلة بلا مجد” بورتريها أخر لأم مغربية ومناضلة نذرت حياتها منذ عمر 15 عاما للحرية في بلادها، وبدت أقرب إلى صورة الأم “شجاعة” في مسرحية برتولد برخت الشهيرة.
ولفتت النادر الأنظار في فيلمها “لطالما أحببت” أو “أحببت كثيرا” 2008، الذي لم تخرج فيه عن ثيماتها المحددة: المرأة والمكان المغربي، لكنها زواجتها هذه المرة مع مشكلات الهوية والماضي الاستعماري، في حكاية فاظمة التي كانت مومسا في العشرينيات من عمرها وانتقلت مع الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي إلى الهند الصينية.
صورت النادر فاظمة في حياتها اليومية الحالية وهي في الـ 75 من العمر في الريف المغربي، وسجلت انثيال حديثها بين حياتها الحالية وذكرياتها، وهي تتنقل بحيوية بين موضوعات مختلفة من الطبخ ومشكلات العمر والحياة اليومية إلى الله والدين والقناعة وإلى عملها مومساً مع الجيش الفرنسي في الهند الصينية.
وكانت كاميرا النادر تمثل محطات استراحة وسط هذه الحديث المكثف والمنوع، عندما تتأمل جماليات المشهد الريفي، برفقة صوت نسائي شجي يؤدي أغانٍ بربرية مغربية.
وقد حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان السينما الأفريقية في مدينة طريفة الإسبانية.
“صوت المدينة”
ووجدت النادر في تغيير قانون مدونة الأسرة في المغرب، (وهو قانون شرعه البرلمان المغربي وأقره الملك في عام 2004، يحدد الشروط والواجبات والحقوق في قضايا الأسرة المغربية كالزواج والطلاق والنفقة والحضانة والنفقة)، مناسبة لأن تزور نسائها العاملات من الطبقات الفقيرة، لترى ما الذي تغير لديهن.
وعلى طريقتها في أسلوب الريبورتاج، تتنقل في كاميرتها لتسأل النساء عن القانون الجديد، سواء في معمل سردين يعملن به أو في طرقات الدار البيضاء أو دروب قرية في الريف المغربي، لتكشف أن الكثير منهن لا يعرفن شيئا عن القانون بينما يواصلن حياة الكد والشقاء وسط ظروفهن الاجتماعية البائسة.
وتقدم مفارقة هنا مقابل واقع النساء هذا بانتقالها إلى مقهى للمثقفين، لتظهرهم وهم يناقشون مدونة الأسرة ووضع المرأة، من دون وجود أي امرأة بينهم.
وتصبح رحلة المخرجة تلك للسؤال عن القانون مناسبة لتقديم صورة بانورامية عن عمل المرأة والتهميش الذي تعيشه ولقراءة واقع النساء كما هو في الواقع اليومي وليس في المدونة القانونية النظرية.
وفي فيلمها “صوت المدينة” أو “رجال وجدران” الذي توج بجائزة أفضل فيلم وثائقي “الأمياس الذهبي” في مهرجان الجزائر الثاني للسينما المغاربية، تعود النادر إلى موضوعها الأثير في تصوير قاع المدينة، لتقدم صورة بانورامية للمدينة القديمة في الدار البيضاء مركزة على الشرائح المهمشة وواقع الفقر والحرمان والبطالة الذي تعيشه، وأحلام الشباب بالهجرة إلى الغرب وانتشار المخدرات والجريمة في هذه الأوساط المهمشة، لكنها تحرص في الوقت نفسه على أن تلتقط كل ما يدل على الحياة وسط هذه الواقع البائس من ابتسامات الأطفال ورقصهم، إلى حس السخرية في التعامل مع شروط هذا الواقع القاسي.
ولعل فيلم النادر الأخير الذي لم ير النور بعد، بيد أن مصادر من عائلتها تقول أنها أكملته، يتناول حياة الكاتب الفرنسي جان جينيه في المغرب، وقد صورته في العرائش جنوب مدينة طنجة المغربية التي عشقها جينيه وعاش ودفن فيها.
المصدر / بي بي سي