الرئيسية / اخبار الفن / “الشيخ زكريا”.. حيوي ونابض على مرّ الزمن!

“الشيخ زكريا”.. حيوي ونابض على مرّ الزمن!

زكريا احمد

درس في الأزهر الشريف وكان قارئاً ومنشداً ويُعدّ بين كبار المُلحّنين.. تعالوا لنتعرف إلى “الشيخ زكريا أحمد”.

هائِلٌ هو في العديد من أعماله، رفيع الأسلوب عموماً، “يُسلطنُ” بمزاجٍ عالٍ، غزيرٌ في عطاءٍ ونتاجٍ مُتنوّعين حدّ الإذهال، مُتجذّرٌ أصيلٌ وحيويٌّ في نبضه التاريخي الذي يُلهِم في عصرنا هذا موسيقيين هواة ومُحترفين، أكاديميين أو مُبدعين خارج الإطار الأكاديمي.

في المعاهد و”الكونسرفاتوارات” العربية والأمسيات الفنّية الطربيّة التي يُحييها فنانون معاصِرون برفقة فِرَق وأوركسترات، حاضرٌ هو في المناهج والألحان والأغاني كما في حفلات السَمَر حيث تشكِّل أغانيه خلفيةً موسيقية تشفّ عن رقيٍّ بَيِّن.

زكريا احمد وام كلثوم

يُعَدُّ بين كِبار المُلحّنين الذين أغنوا الموسيقى العربية وطبعوا بصماتهم وآثارهم في سِجِلّها وذاكِرتها. إنّه الموسيقي المصري زكريا أحمد (1896-1961). من المعلوم أنه عُرِف أيضاً بـ”الشيخ زكريا أحمد” لأنّه درس في الأزهر الشريف وكان قارِئاً ومُنشدِاً فترةً مُعيَّنة، وكان لرخامة صوته الوقْع المؤثّر في المسامِع. من فضاء الدينيّ موسيقياً انتقل إلى ميدان الموسيقى الدنيوية حيث جاد وأثبت شخصيّته الموسيقية وقدَّم ما يُعتدّ به.

زكريا احمد وام كلثوم

من ألحانه الخالِدة التي تكتنف ذكاءً موسيقياً جليّاً وامتيازاً في الاختيار المقاميّ والمواءمة بين الشعبيّ والنُخبويّ أغنية “يا حلاوة الدنيا يا حلاوة” (على مقام “زنجران” الذي يُسمّيه بعضهم “زنكولاه”)، وقد سمعناها بصوتَيْ فتحية أحمد “مُطربة القُطرين” (1898-1975) وسيِّد مكاوي (1928-1997). هنا الثِّقَلُ يختلط بالخفّة فيتبدَّى اللحن عابِراً للزمن، عِلماً بأنه يكسو كلاماً جميلاً بسيطاً وعميقاً معاً، لا يخلو من الطرافة (بيرم التونسي).

ارتبط إسم زكريا أحمد فنياً أيضاً بمُنيرة المهدية (“الحلوة شافت صورتها” مثلاً)، وأمّ كلثوم، وليلى مراد (“إن كان فؤادي شاف الهوان”…)، وأسمهان (“عذابي في هواك” مثلاً)، ونجاة الصغيرة (“ناداني الليل” مثلاً)، إلخ. أما التجلّي التلحينيّ لديه، فكان في تعاونه مع أمّ كلثوم، وهو ما سنُضيء عليه.

إضافةً إلى المسرح الغنائي، عمل في الأغنية السينمائية وقد أسهم في تلحين أغاني 37 فيلماً، وأهمّها التي لحَّن فيها لأمّ كلثوم. في هذا الإطار نذكر أغنية “غنّي لي شويّه شويّ” (من فيلم “سلامة”)، وأغنية “الورد جميل” (من فيلم “فاطمة”) على سبيل المِثال.

مُقدِّمة أغنية “الورد جميل” تشفّ عن عبقرية تلحينية فريدة وقُدرة على الإطراب – بتكثيفٍ وإيجازٍ ورشاقةٍ – لا تُضاهى. هذه الأغنية نَسَجَها على نَوْل مقام “راحة الأرواح” أي مقام “السيكاه” مصوَّراً Transposé على درجة “سي نصف بيمول”، ويمكن اعتباره مقام “سيكاه” بكل بساطة. يستطيع أيّ مطرب تأديتها مصوَّرةً على الدرجة التي تناسب طبقات صوته. إيقاعها ثُلاثي.

لقد تفوَّق زكريا أحمد في “الترجمة” الموسيقية لكلمات الأغنية. تندرج هذه “الترجمة” في “العَبْر- سيمياء” Diasémiotique أي تفسير نظام سيميائي بنظامٍ سيميائي آخر وهو النظام الموسيقي الذي “يترجم” المعاني اللغوية، عِلماً بأنّ السيمياء هي دراسة نُظُم العلامات وإحالاتها الدلالية. “الورد جميل ولُه أوراق/ عليها دليل من الأشواق/ إذا أهداه حبيب لحبيب/ يكون معناه وصالُه قريب/ شوف الزهور واتعَلِّم/ بين الحبايب تتكلّم/ (…) يا فل ياروح يا روح الروح/ مين شَمّ هواكْ/ عُمرُه ما ينساكْ/ لِكُلِّ حبيب تقول بلغاك/ حبيب مُشتاق بيستنّاك/ شوف الزهور واتعَلِّم…” (محمود بيرم التونسي).

أما أغنية “غنّي لي شويّه شويّ”، فهي طقطوقة من أشهر الطقاطيق لأمّ كلثوم، عِلماً بأنّ الطقطوقةَ قالبٌ غنائيّ. تحتوي الطقطوقة هنا على “أغضان”، وعلى “مذهبٍ” يشكّل المطلعَ الغنائي ويتمّ ترداده بعد كل “غصن”. “غنّي لي شويه شويّ” على مقام “الراست”. الأغنية سهلة الحفظ، والنبوغ فيها، كما يعلم الذوّاقون بمعظمهم، يكمن في المزواجة التلحينية بين التطريب الذي له قيمة واعتبار والانشراح والزهوّ الخفيف، ما يجعل الأغنية مُحبَّبة إلى الآذان وغير محصورة في حُقبةٍ مُعيَّنةٍ أي أنها قادِرة على القفز من الماضي إلى الحاضر والغد. هذه النماذج من روائع زكريا أحمد، إضافةً إلى أغنية “هُوَّ صحيح الهوى غلاّب” حيث أبدع زكريا أحمد، عِلماً بأنّ الأغنية على مقام “الصبا” وهو مقام حزين “غير مُتماثِل” asymétrique؛ يتميَّز عن سواه أنّ “قرارَه” يختلف عن “جوابه” (أي يبدأ  بنوطة “ري” RE وجوابها في السُلّم “ري بيمول”Bémol   RE). “هُوَّ صحيح الهوى غلاّب” من الأغاني العربية التي تستبطن تفكيراً موسيقياً دراماتيكياً وطربياً في آنٍ واحد، ما يُحسَب لزكريا أحمد.

الشيخ زكريا أحمد نذكره اليوم استحضاراً مع الكبار بين المُلحّنين والمؤلّفين الذين يوازونه أهميةً وتأثيراً في مصر، رغم اختلاف التجارب والمسارات: رياض السنباطي، محمّد عبد الوهاب، محمّد القصبجي، وسواهم.

في زمن السرعة والهبوط والاستهلاك ثقافياً، كأن الفنّ بات أشبه بــ “الوجبات السريعة”، وفي ظلّ الموجة الجارِفة التي يختلط فيها الحابِل بالنابِل ويتساوى فيها الجيّد مع الرديء والخالِد مع العابِر في تقييمٍ إعتباطي مُعوَجّ، نتيجةً لعوامل عدَّة، بينها ما تبثّه الكثير من الشاشات والإذاعات في ما يُعرَف بالـmatraquage… من واجبنا إبراز هذا اللمعان لترميم الذائِقة الجمعية، ثم الانطلاق إلى الأعلى والأبعد والتجديديّ، استناداً إلى معرفة عُمق كلاسيكياتنا وركائزها.

زكريا أحمد يجد استحساناً في النفوس والآذان لدى المُتضلّعين، يُحرِّض على نبش الجماليّات الكامِنة في أعماله وأعمال سواه ممَن يحضّونك بتشويقٍ على الرجوع إليهم كمراجع في صميم التلحين والتأليف الموسيقي العربي.

الشيخ زكريا أحمد بنى عمارات موسيقية وفنية سنظلّ نحاول بتلذُّذٍ اكتشاف سرّ ديمومتها.

الميادين

اترك تعليقاً