د . ميثم الجنابي
إن تجربة ما بعد الصدامية وما آلت إليه الأحداث اليوم، بما في ذلك رد الفعل الجماهيري العارم في وسط العراق وجنوبه، تكشف عن حقيقة جلية، ألا وهي عدم إقناع النظام السياسي الحالي للمجتمع. وان نقطة الضعف الجوهرية فيه هي “بديل المحاصصة الديمقراطي” الذي لا يختلف عن “النظام البائد” من حيث تأديته إلى نفس المآل- الأزمة والتحلل والانحطاط.
لقد كشف نظام المحاصصة والدستور الداعم له، من انه نظام بدائي ومتخلف. وهو في الأغلب نتاج افرازات “الأقلية الكردية” المنتعشة بتقاليد المحاصصة القبيلة والحزبية التي جرى تجريبها وتهذيبها في “الإقليم” قبل سقوط الصدامية. الأمر الذي أعطى لهذه الظاهرة طابعها المدمر، وتغليب فكرة الأقلية المستفحلة، رغم خوائها المادي والمعنوي، وضعفها البنيوي وفسادها الشامل بالنسبة لفكرة الهوية الوطنية العراقية.
ولم يكن ذلك معزولا عن الاحتلال وضعف المجتمع العراقي العربي وقواه الاجتماعية. فقد كان الجميع يعاني من ضعف جلي في تأسيس فكرة الدولة الشرعية وفكرة الوطنية العراقية. مما جعل من آلية “المحاصصة” كما ظهرت في أول تشكيل “شرعي” لإدارة “مجلس الحكم” نتيجة حتمية لهذا الضعف. وفي هذا يكمن أحد الأسباب الجوهرية لنفسية المؤامرة والمغامرة في نشاط اغلب الحركات السياسية المعاصرة. وهي نفسية ملازمة لضعف تاريخ وتقاليد الشرعية والديمقراطية السياسية. من هنا إنتاجها لبيئة المتسلقين والمتملقين، التي عادة ما ترافقها نفسية المؤقتين، الذين تشكل بالنسبة لهم فكرة “انتهاز” الفرص الأسلوب الوحيد للتعويض عن انعدام أو ضعف الاحتراف. فالعراق ما قبل انهيار الدكتاتورية كان يفتقد للنخبة والاحتراف. بينما هي القوة الوحيد القادرة على اللمعان في سمائه وأرضه في ظروفه الحالية.
وليس اعتباطا أن تكون فكرة ونموذج “مجلس الحكم المؤقت” هي الصيغة الوحيدة الممكنة بالنسبة للنخب السياسية التي تحولت بين ليلة وضحاها من قوة مغتربة ومشردة إلى عمود الصنعة الجديدة للسلطة. وهي حالة تعكس طبيعة وحجم الشذوذ الهائل الذي رافق زمن الدولة، أي افتقادها لتاريخها الذاتي فيما يتعلق ببنية المؤسسات الشرعية وتداول السلطة وتراكم الخبرة والكفاءة الضرورية للسلطة والمعارضة.
فعوضا عن أن يكون مجلس الحكم الانتقالي مرحلة منفية في الوعي السياسي للأحزاب والنخب السياسية، نراه يتحول تدريجيا إلى أسلوب لتأسيس فكرة المؤقت من خلال تفريخ مختلف ظواهر الحزبية الضيقة والطائفية والعرقية والجهوية في بنية الدولة ومؤسساتها وأساليب عملها. فعندما نتأمل تاريخ ظهور “مجلس الحكم الانتقالي” وكيفية فعله على الساحة العراقية والعربية والدولية، فإننا نقف من جديد أمام اغلب الإشكاليات الكبرى وبالأخص إشكالية الوعي السياسي الوطني والاجتماعي للأحزاب في مواجهة المصير المأساوي الذي تعرض له. ولعل أهم عوارض ومظاهر هذه الإشكالية تقوم في سيادة نفسية وذهنية المؤقت المشار إليها أعلاه. من هنا تعمق واتساع مدى الانحسار الفعلي لهذه القوى عندما ننظر إليه بمعايير الرؤية المستقبلية والعقلانية. وهو انحسار جلي في تناقض ادعائها الأيديولوجي تمثيل “الشعب العراقي” وتعارضه شبه التام مع سلوكها العملي في كل شيء! وهو تعارض يستعيد في الكثير من عناصره الخطر الكامن بالنسبة لتدمير الشخصية الوطنية، واقصد بذلك إمكانية انتقال الأطراف إلى المركز، وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور. فهي الظاهرة التي تفسد في نهاية المطاف الجميع وتجعل من الدولة والمجتمع ضحية حماقات يصعب تفسيرها بمعايير المنطق والأخلاق! وهي نتيجة تعادل من حيث رمزيتها فعل الأعاصير والزلازل والجراد. بمعنى إننا نرى صورة الجحيم دون إدراك مغزى العقاب فيه!
وعندما نتأمل تجربة ما بعد الصدامية وحتى اليوم فإننا نقف أمام ضعف الإدراك السياسي والتاريخي لماهية الوطنية العراقية وحقيقتها من جانب القوى والأحزاب السياسية المكونة “لمجلس الحكم الانتقالي”. من هنا انتشار وتوسع وترسخ الحزبية والعرقية والقومية الضيقة والجهوية والطائفية في كل ما تقوله وتفعله. وهو سلوك يعبر عن انغماسها العميق في بقايا ومكونات البنية التقليدية. مما يعني بدوره، أنها لم تستفد شيئا من تجربة القرن العشرين، وأنها مازالت من حيث الجوهر خارج إدراك حقائق التاريخ العراقي ومعاناته الفعلية. الأمر الذي حدد مفارقة تعامل “مجلس الحكم الانتقالي” مع حالة الانتقال أو المؤقت في وجوده السياسي. أما “الاتفاق” السياسي حول ضرورة إلغائه فقد كان تعبيرا معقولا عن إدراك قيمة المؤقت والعابر فيه.
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ظاهرة تقول، بان ظهوره وزواله يمتلكان نفس القيمة “التاريخية”. وهي قيمة زهيدة للغاية. والمأثرة الايجابية الوحيدة الممكنة التي يمكن الحديث حولها بهذا الصدد كانت مرهونة في حال تحولها إلى فعل سياسي عقلاني يؤسس لقيام الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. وفي هذا التأسيس فقط كان يمكن “لمجلس الحكم الانتقالي” أن يحتل موقعه التاريخي في حياة الدولة والمجتمع بوصفه الحلقة الضرورية (والأضعف أيضا) في إرساء أسس وقواعد الانتقال السلمي والحقوقي للسلطة. وبالتالي التأسيس لإمكانية إعادة إرساء أسس الوحدة الوطنية.
غير أن ما جرى هو إلغاء “مجلس الحكم المؤقت” وبقاء نفسية وذهنية المؤقت!! بينما الجوهري بالنسبة لإلغاء فكرة المؤقت لا تقوم في “حل النفس”، بقدر ما تقوم في تأسيس وإرساء أسس الثبات الديناميكي في بنية الدولة والنظام السياسي والحياة الاجتماعية. وهو فعل لم يكن مميزا للقوى السياسية التي شكلت عناصر “مجلس الحكم الانتقالي”. وهي عناصر مختلفة جدا، إلا أن ما يوحدها بهذا الصدد هو نفسية وذهنية المؤقت. فعندما نتأمل”المأثرة التاريخية” لمجلس الحكم الانتقالي، فإنها لا تتعدى في الواقع أكثر من محاولة إرساء أسس المؤقت من خلال ترسيخ وتأسيس فكرة المساومة الحزبية الضيقة والإلغاء التدريجي لفكرة القانون والشرعية والمضمون الاجتماعي المتنور بمعايير المصالح الوطنية العليا.
طبعا إن ذلك لم يكن معزولا عن النقص الفعلي المرتبط “باستحقاقات” ظهوره واستلامه السلطة. إلا انه واقع لا يفسر كل حيثيات الظاهرة. وذلك لان “مجلس الحكم الانتقالي” كان يعاني من ضعف بنيوي يبرز في التعامل مع النفس ومع الإشكاليات الكبرى التي واجهت وما تزال تواجه العراق وبالأخص ما يتعلق منها ببناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني، بوصفها أساس الفكرة الوطنية السليمة. الأمر الذي وضعه من الناحية التاريخية أمام مفترق طرق، أما السير صوب تحقيق فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي وإما السقوط في هاوية الانقراض السياسي. وذلك لان معاداة ومحاربة الدكتاتورية الصدامية بحد ذاته ليس ضمانة لترسيخ أسس الديمقراطية، كما أنها لا تحتوي بالضرورة على إدراك لقيمة الدولة والشرعية والمجتمع المدني. وهو واقع كان يمكن رؤيته بوضوح على مثال تنامي ضعف الحس السياسي الديمقراطي، وتنامي ضعف الشفافية في المناقشة والقرارات، والانزواء المتزايد صوب “الاتفاقات” الحزبية الضيقة والجزئية، وتعاظم ميوعة الخطاب السياسي والاجتماعي والوطني وعدم وضوحه واقتضابه المزيف وانعدام المسئولية أحيانا فيه. وهي ظواهر لها أسباب عديدة منها ما يتعلق بضعف التجربة السياسية العلنية وتقاليدها الديمقراطية والكفاءة الشخصية والنزعة الأبوية والوراثية الناتئة أحيانا عند أغلبية الأحزاب والحركات السياسية المكونة للمجلس، إلا أنها لا تبرر ما أسميته بالنقص البنيوي فيه.
ولعل تجربة أكثر من عقد من الزمن ما بعد سقوط الصدامية، يكشف عن الضعف البنيوي في النظام السياسي الحالي. لقد بقي النظام السياسي “الديمقراطي” و”الدستوري” من حيث الجوهر هو نفس نظام “مجلس الحكم الانتقالي”. الأمر الذي يضع مهمة تهديمه من اجل إرساء أسس البناء الضرورية للثبات في الدولة والنظام السياسي والتكامل الاجتماعي والوطني.
إذ لا يمكن بلوغ حالة الثبات الديناميكي في العراق من خلال إعادة بناء الدولة والنظام السياسي الحالي، بل عبر إعادة تأسيس شامل لهما. فقد كشفت تجربة ما بعد الصدامية بان النظام السياسي الحالي ليس بديلا إصلاحيا للماضي بل استكمال له. الأمر الذي يفترض تحقيق البديل المنظومي الشامل بهذا الصدد من خلال
• إرساء أسس نظام سياسي محكوم بالدستور الثابت
• إلغاء الدستور الحالي، بعد تبين حجم والية الخلل فيه، وكتابة دستور جديد يتمثل حصيلة التجربة العراقية منذ تأسيس الدولة ولحد الآن
• إخراج الأكراد من العراق وبما يتوافق مع معطيات تشكله الأولى في عشرينات القرن العشرين
• إعادة توحيد العراق على أسس وطنية (عراقية) وقومية (عربية) متجانسة وشرعية
فهي الشروط الضرورية لإعادة تحرير العراق من التدخل الأجنبي أيا كان شكله ومحتواه وقواه. كما أنها المقدمة الضرورية لإعادة بناء نظام اجتماعي اقتصادي فعال وحديث يعتمد على برنامج ينفي بصورة جذرية وتدريجية كل نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية السائد لحد فيه.