الرئيسية / مقالات / التوجهات السياسية العامة

التوجهات السياسية العامة

السيمر / فيينا / الجمعة 28 . 10 . 2022

د. ماجد احمد الزاملي                                                                

  أنَّ أي سياسة عامة هي نتاج للبيئة الاجتماعية التي تُمارس فيها، وهي تأتي أصلاً لمعالجة المشكلات والظواهر والاختلالات الناشئة في تلك البيئة، وهي استجابة حيّة لما يدور في المجتمع من مشكلات وتحديات مختلفة، وما يتبناه المجتمع من قيم اجتماعية وسياسية ودينية، وهي تختلف بالطبع من دولة الى آخرى.       ويمكن أن ُنرجع القصور المعرفي في الوطن العربي بشأن أهمية البعد النظري ونظريات التغيير إلى مسألة ّ مهمة مفادها انعدام الاكتراث، أو ّقلته، بأطاريح الأوساط النظرية من الذين ّ يوجهون السياسة الخارجية في البلدان العربية. ولكن لا يمكن تجاهل ّ أن ّكل توجهات السياسيين في العالم الغربي لها قواعدها النظرية المستمدة من نظريات مختلفة. فنحن بحاجة، إذا إلى فهم النظريات الموجهة إلى صانع القرار الغربي في إطار المساعدات الخارجية التي ُتعد بالغة الأهمية من أجل أن نضفي ً نوعا من الفهم المتكامل بخصوص كيفية صنع هذه السياسات، حتى إن كانت في نظرنا جزءاً من توجهات العولمة، أو كانت ُتفسَّر على  نحو آخر. فالتباين في ْ وجهات النظر في هذه المسألة لا ّ يؤدي إلى اختلافات جوهرية حول البنى الفكرية الأساسية التي تسهم في صياغة سياسات المساعدات الدولية.               

والسياسات ببساطة استجابات لمشاكل وقعت, وبالتالي لا يمكن القول أن هذه السياسات قد أحدثت أثراً بنجاح إلاّ إذا تم تطبيق حل نهائي للمشكلة التي أدت لخلق تلك السياسة أصلاً (أو تم وضع تلك المشكلة قيد السيطرة بشكلٍ مستدام). ويتناقض هذا المنظور مع الرأي الذي يَعتبِر السياسات مجموعات من “المنتجات التقنية” (مثل القوانين) التي قد يكون، أو لا يكون، الدافع في إنتاجها هو وجود مشكلة ما أصلاً. ووفق ذلك المنظور، يُنظر إلى “النجاح” على أنه تقديم تلك المنتجات التقنية فحسب. بينما يجب النظر إلى السياسات العامة على أنها شيء تم صياغته كرد فعل لما يواجه المواطنين من مشاكل لا يمكنهم حلَّها دون مساعدة وتدخل الحكومة، أي أن المشكلة كانت المحفز الرئيسي والدافع لتدخّل السياسات. ووفق هذا المنظور للسياسات كرد فعلٍ لمشكلة ما، لا يمكن أن نعرّف “أثر السياسات” إلاّ بصفته حلاً جذرياً لتلك المشكلات (أو السيطرة عليها). ونجاح أي سياسة عامـة لأي دولة لابد أن يكون هناك عمليـة تقويـم علميـة تتسم بالاستمرارية في كل مراحل رسم السياسات العامـة, إذ تمارس سلطات الدولة بأجهزتها الرسمية وغير الرسميـة هذه العمليـة للوصول إلى سياسـة عامـة رشيـدة وعقلانيـة تُعالج المشكلات العامـة وتصنع الحلـول المناسبـة لها مستنـدة إلى أجهـزة ونظم من المعلومات الدقيقـة داخليـة وخارجيـة ووسائـل أعلام واتصالات متطورة تواكب التطور العالمـي المـذهل في نقـل المعلومـة وتفسيرها , أن التقويـم للسياسات العامـة أمـر جوهـري وهـام لأي حكــومـة تريـد أن تكون سياستها العامـة ناجحـة وتحقق أهــدافها بصورة حقيقة , إذ أن التقــويم هـو المستنـد إلى أرضـية علميـة ومعلومات دقيقـه وحديثــه عن أي برنامـج حكـومي وفي كل مراحلـه من تحـديـد المشكلـة لغايــة التنفيـذ العملي للبرنامج. وهو امرُ في غايـة  الاهميـة لأي دولــة تريـد أن تواكب عصر الثورة العلميـة والتقنيـة الهائلـة وفي كل المجالات.أن معيـار تقــويـم السياسات العامة تتجـسد فـي الفاعليــة والكفـاءة … ويقصـد بالفاعليـة الدرجـة التــي تحقق السياسة العامـة أهـدافهـا, أي حجـم مـا أنجـزه الجهـاز التنفيـذي المكلَّف بتنفيـذ السياسـة أو البرنامج أو المشروع مـن الأهـداف التـي خططت لهـا خلال فتـرة زمنيـة معينــة.والجهات المُخَططة للسياسة العامة على نطـاق الحكومــة القوميــة يتــم تقــويــم السياسات بطرق مختلفــة ومـن جهـات مختلفـة ومتعــددة , وأحيانـاً يكـون التقـويـم دوريـاً ومنتظماً , بينمـا يكـون في أحيانا أخرى طارئـا ومفـاجئـاً , وقـد يكــون التقـويـم مـؤسسيـاً ولــه أجهـزة متخصصـة , بينمــا يبقى غيــر رسمـي وليس لــه أطـار مـؤسسـي(1).             

وهنـاك عـدة مستـويات لعمليــة التقـويـم منهــا , التقـويـم علـى مستـوى الاثـار التـي تركتهـا السياسـة العامــة وتتـولى السلطـة التنفيـذيـة عمليــة التقـويـم باعتبارها المسؤولـة عـن التنفيـذ دون أن يعنـي ذلـك استبعـاد دور السلطـة في ممارسـة دورهـا في تقـويـم السياسة العامــة , فضلاً عـن جماعات أخرى خارج الحدود الرسميـة للدولـة مثـل الأحزاب السياسية وجماعات الضغط والمصالح , وبالتالي يمكـن أن يتولى التقـويم أجهزة علـى عـدة مستويـات , داخـل الجهاز الحكومـي وخارجـه , وأن اشراك هـذه الأجهزة الحكوميـة وغيـر الحكوميــة في تقـويـم العمـل الحكومـي لا يعنـي أنها جميعـا تتبـع أسلوبـا واحـدا للتقـويم بل تتفـاوت الاساليب المتبعـة إذ أن السياسة العامـة تتخـذ أسلوبـا ترابطيا في عملياتها وأنشطتها(2).           

  تُصنع مشروعات السياسات العامة في مختلف الاقطار والنظم السياسية بعد ان تناقش من قبل الجهات الرسمية وغير الرسمية ثم تُقَر من قِبل السلطة التشريعية , وبعدها تُنفَّذ من قبل الاجهزة التنفيذية, بعد ان مرَّت بمراحل وخطوات متعددة , فعملية صنع السياسات العامة هي عملية ديناميكية معقدة تشارك فيها اطراف مجتمعية ورسمية مستفيدة منها او متأثرة بها.ويعرف دور عملية صنع السياسة العامة على انها( عملية معقدة تتسم بتنوع مكوناتها التي يكون لكل منها إسهامه المختلف , فهي تقرر الخطوط الاساسية للفعل وتتسم بتوجهها نحو المستقبل وسعيها لتحقيق الصالح العام وذلك بأفضل الوسائل الممكنة).  وتنطوي السياسة العامة على عدة خصائص وتمر بمراحل متعددة تختلف في طبيعتها وحدَّتَها وتعقيدها من دولة الى اخرى وفقاً لعوامل كثيرة اهمها النظام السياسي ونظام الحكم لأنه يُحدد صلاحيات المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدولة. أن منهج علم السياسة  العامة موجه بشكل صريح نحو القيمة ففي كثير من الحالات ،يتعامل موضوعها المركزي مع أبعاد الديمقراطية والكرامة الإنسانية ، وهذا التوجه القيمي كما ينظر إليه السلوكيون الذين يركزون على الخلفية “ الوضعية ”في العلوم الاجتماعية ، يعترف بأنه لا توجد مشكلة اجتماعية ولا توجه منهجي متحرر من القيم . وعليه لفهم مشكلة ما ، يجب على الإقرار بالقيم ومكوناتها، ومثلاً لا يوجد عالم سياسة بدون قيمه الخاصة وبالتالي لا بد الاعتراف بأهمية القيم  في إيجاد الحلول للمشكلات وهذا التوجه الذي يمثِّل جوهراً لما بعد الوضعية.                          

ان مشاكل السياسات العامة كثيرة ومتنوعة، ويصعب اتفاق المعنيين على تحديد مكوناتها واسبابها، واساليب التعامل معها، مثل: التضخم، الانكماش، البطالة، الجريمة، الفقر، التلوث، وغيرها. اذ ان هذه المشاكل وامثالها غالباً ما تتباين وجهات النظر حولها بين المهتمين والمعنيين والمختصين انفسهم من جهة، وبينهم وبين المواطنين من جهة اخرى. ففي حين ينظر اليها بعض المعنيين على انها مشاكل حقيقية يعاني منها المجتمع، ولا بد من وضع الحلول الناجعة لها، بينما يرى البعض الاخر منهم على انها مجرد حالات تتشابك مع تحقيق بعض القيم والحاجات الشخصية لعدد من الافراد، وانها لا تستحق ان تأخذ صفة المشاكل العامة. ويمكن عدّ التلوث من الامثلة على ذلك، فقد يُعُدّه بعضهم حالة طبيعية في المجتمعات المعاصرة نتيجة للتقدم التقني والحضاري الذي تشهده هذه المجتمعات، وبالتالي لا داعي للاهتمام له، وتخصيص المبالغ، وحشد الموارد للحد منه او معالجته. في حين يراه غيرهم مشكلةً تمس افراد المجتمع جميعهم وانه من اللازم عدّه من المشاكل العامة المهمة، التي تحتاج الى وضع الحلول اللازمة لها.                                      

   الاجهزة التنفيذية تُعتبر الاداة الرئيسية للسلطة التنفيذية التي تسعى  في تحقيق اهداف السياسات العامة للحكومة , وعليه فأن ضمان تنفيذ تلك الاهداف يتطلب الكفاءة والخبرة المطلوبة لتلك الاجهزة من خلال مواردها البشرية التي تتولى ادارتها , والتي يجب اختيارها من ضمن العناصر الادارية التي تدرَّجَت عبر السلم الوظيفي لمؤسسات الدولة العراقية , ولها الخبرة المطلوبة للنهوض بالإصلاح المنشود على اسس مهنية , بعيدا عن تولي ادارة الاجهزة الحكومية التنفيذية شخصيات تمثل احزاب سياسية كل مؤهلاتها أنها جاءت بناءً على نظام المحاصصة والنموذج التوافقي , مما جعل الاجهزة  الحكومية التنفيذية تتخبط في اداء واجباتها وتعرقل بصورة مباشرة تحقيق اهداف اغلب السياسات الحكومية العامـة في العراق , فضلا عن اتخاذ افضل السبل لتطوير اداء الاجهزة الحكومية التنفيذية من خلال ارسال الكوادر المتقدمة فيها للتدريب واكتساب المهارات الادارية المطلوبة في أكثر الدول تقدماً في مجال ادارة الجودة الادارية , أو الاستعانة بخبراء ومستشارين ادارين دوليين للتدريب والاستفادة من خبراتهم في خلق كادر اداري متطور يستطيع تنفيذ المهام الموكلة له, وتحقيق الاهداف الاساسية لأغلب السياسات العامة التي تريد الدولة العراقية تحقيقها حاضراً ومستقبلاً. أن الاصلاح الحكومي المطلوب للحد من التحديات التي تواجه السلطة التنفيذية في العراق , يجب أن يكون شاملا ومتوازنا وتكامليا من أجل ترشيد عمل الاجهزة الادارية الحكومية  التنفيذية , وفق معايير الجودة الشاملة في ادارة الموارد البشرية والمادية , لكي تكون السلطة التنفيذية قادرة على وضع الإطار التشريعي للقوانين والخطط والأهداف موضع التنفيذ السليم والرشيد , باعتبار أن الاصلاح الحكومي للسلطة التنفيذية هو الضمانة الاساسية لوضع  الاسس التشريعية الدستورية والعادية والفرعية موضع التنفيذ , فالجهاز التنفيذي الذي لا يعاني من الفساد , ويمتلك موارد بشرية تتميز بالكفاءة والخبرة والنزاهة , ويعتمد على ابرز  مباديء حكم القانون ( الشفافية , المسألة , المحاسبة ) , وتكامل الكفاءة والخبرة والتعاون بين الاجهزة الادارية الاتحادية وبين الاجهزة الادارية في الاقليم والمحافظات.                    

أن السياسة العامة ما هي إلا المستقر القانوني النهائي لإدارة المجتمع الذي تقوم به المؤسسات الحكومية، وينطلق من نظرية “مونتسكيو” لفصل السلطات التي يعتبرها آلية ضرورية لتنظيم شؤون الجماعة كما ينطلق من القاعدة التقليدية التي يقوم عليها علم السياسة، من أنه علم يُعنى بدراسة المؤسسات أو التكوين المؤسسي للحكومة. ويبقى  المحور الرئيسي لهذا النموذج هو وصف آلية العمل في مجموعة المؤسسات التي تكَوَّنَ منها نظام الحكم، ، بالنظر إلى أن الحياة السياسية في أي مجتمع لها صلة وثيقة بسلوك السلطات والمؤسسات الرسمية في الدولة، وبما أن السياسة العامة من مخرجات هذه المؤسسات نجد أن المدخل المؤسساتي يميل إلى الثبات والسكون لأنه كثير الاهتمام بدراسة المؤسسات الحكومية ووظائفها الرسمية التي تناولها من الناحية الدستورية والقانونية، وأساليب ممارسة الدولة لسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية معتمدا في ذلك على الوصف والشرح ,الهدف من تكوين المؤسسات الحكم ويبرز اختصاصاتها كما نص عليها الدستور الذي يوضح علاقاتها المؤسسية.وهذا ما يظهر في درجة التفاعل والتكامل بين أداء المؤسسات الدستورية تؤثر على محتوى ونوعية السياسات العامة ومدى اتساع الأثر المترتب على كل منها وعلى سبيل المثال إلى أي مدى يؤثر توزيع اختصاصات السياسة العامة لحماية البيئة بين سلطات الحكومة المركزية وسلطات الجماعات المحلية هذا ما يستوجب دراسة تشخيصية تحليلية للترتيبات المتعلقة بتوزيع السلطات وكيفية ممارستها من طرف المؤسسات المعنية ، ورواد هذا النموذج يعتبرون أن هذه الأخيرة هي الإطار الذي تُصنع فيه السياسات العامة وأن القوى السياسة والمصلحية مهما كان نفوذها لا يمكنها أن تصدر سياسةُ ما خارج إطار المؤسسات وبموافقتها وإقرارها لتكون شرعية وملزمة وشاملة ولها صفة القابلية للتطبيق والمسائلة لمن يخالفها ومن خلالها يبقى عملها ديناميكياً و تكاملياً ومؤسسياً.                       

—————-

1-جيمس اندرسون , صنع السياسات العامة , ترجمة عامر الكبيسي , دار المسَرَّة للنشر والتوزيع والطباعة , عمان  ,ص 203

   -2-صدام عبد الستار رشيـد  , الادارة والسياسة العامة , رسالة ماجستير , جامعة النهرين , ص 91-92

اترك تعليقاً