أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / العدم ينجب الخلود

العدم ينجب الخلود

السيمر / فيينا / الخميس 23 . 02 . 2023

د . عبدعلي سفيح

جوهر الفكرة المراد نقلها للقاريء الكريم في هذا المقال هي: إن ثقافات واساطير وديانات وفلسفات وافكار العالم الشرقي والغربي مستوحاة من قصتين أو حكايتين تعود جذورها إلى حضارة وادي الرافدين السومرية والبابلية؛ الأولى هي قصة الطوفان، والثانية هي قصة الموت والخلود.
هاتان القصتان لا تقتصر على الحضارات الشرق اوسطية، ولكن يمكن وصفها بالحدث الكوني لكثرة انتشارها، فنجدها في الأساطير الإغريقية والهندية والصينية وفي التراث الشعبي الأفريقي، ويشير كل من David Adam Leeming، والباحث خزعل الماجدي في كتبهم عن الحضارات العالمية، أن قصة الطوفان لم تترك ثقافة أو حضارة أو بلد الا وتركت آثارا لها على حكاياها الشعبية.
القصة الأولى وهي قصة الطوفان، جوهر فكرتها مستوحاة من رؤية الإنسان للعالم المحيط به وكانت ولا زالت رؤية  متشائمة غير سارة، لما يراه من فوضى وعدم الأمان والاستقرار، وقد ذكرت الأساطير الشرقية والاغريقية بأن الفوضى وعدم الاستقرار موجودة مسبقًا وهي حالة طبيعية للارض التي لا تنتهي، والديانات وخاصة الديانات التوحيدية عبرت بوضوح عن النزعة العدوانية المتاصلة عند الإنسان، وقتل قابيل لأخيه هابيل خير دليل على ذلك؛ وحسب قول العالم النفساني فرويد سببها الغريزة العدوانية عند الإنسان، ومن قبله توماس هوبس،  عبر عنها بالطبيعة الذئبية للإنسان بقوله:(الإنسان ذئب للآخر)،وقال الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر:(جهنم هو الآخر).
كان الاعتقاد السائد بأن الالهة أو الإله هو خالق الكون وسموه الاغريق بالcosmos، فأحسن وابدع خلقه، وكان كل شيء بقدر وحساب ونظام دقيق، لكن بعد خلق الإنسان، استيقظت قوى الشر من الأنس والجن، وحاولت هذه القوى زراعة الفوضى وتدمير الخلق، فخلقت الالهة أو الإله رجال مصلحين واقوياء لإنقاذ واعمار الأرض، بإستخدام عدة وسائل ومن اهمها هي المياه؛ المياه اغرقت قوم نوح وانقذت نوح والصالحين معه، والمياه أنقذت الطفل موسى من ظلم فرعون مثلما أنقذت الطفل سرجون الأكدي من القتل وأصبح ملك الأقاليم الاربعة، كذلك المياه أغرقت فرعون الظالم وأعوانه وانقذت موسى وقومه، والمياه اغرقت يونس وانقذه الحوت في الماء؛ وفي القرن السادس عشر قال الجنرال والكاتب البريطاني Sir Walter Raleight :(من سيطر على المياه، سيطر على التجارة، ومن سيطر على التجارة، سيطر على الغنى، ومن سيطر على الغنى، سيطر على العالم كله).
ان قصة الطوفان وضحت ثلاث مراحل للحياة البشرية، بدأت المرحلة الأولى بالنظام واللافوضى، بعد ذلك المرحلة الثانية بالفوضى واللانظام، وانتهت بالمرحلة الثالثة بالنظام والاستقرار؛ هذه المراحل الثلاث عبرت عنها الأديان من طريق خلق آدم وحواء في الجنة، ثم نزولهم إلى الأرض وولادة القتل والظلم والمعاناة، بعدها رجوعهم إلى السماء، ومن اللافت للنظر، أن الفيلسوف كارل ماركس كانت محور نظريته مبنية على هذه المراحل الثلاث، قال :(في بداية البشرية، كانت المشاعية هي السائدة، تلته مرحلة التملك ومنها استعبد واستعمر الإنسان الشعوب الأخرى، واندلعت الحروب ، وسوف ترجع البشرية إلى المشاعية الاولى، ولذلك الحزب الشيوعي منع التملك).
كذلك وضحت قصة الطوفان، اصلاح الأرض واعمارها يحدث على يد منقذ أو مخلص بإرادة غيبية، ولذلك لقد شاع وانتشر اعتقاد فكرة المنقذ أو المخلص، واكدت الدراسات والبحوث أنه لا يكاد شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تخلو من هذه الفكرة وهي ضاربة في عمق التاريخ البشري منذ نشوء الخليقة، فكل أمة تنتظر المنقذ الذي يخلصها من الشرور والظلم ويحقق لها العدل والمساواة والحياة الكريمة؛ حتى السياسيون يستعملون في خطابهم هذا المفهوم، وأما القصص والروايات والسينما، تبدأ بقصة حب وأمان، ثم تتحول إلى العنف والفراق، بعدها ترجع إلى الاستقرار واللقاء ويتم على يد منقذ اما شخص أو القانون ؛ أي النزعة الاسطورية لا زالت حاضرة، لا تخلو منه الخطاب الديني والفلسفي والسياسي والفني والشعر، التي تهيمن على النزعة العقلانية للإنسان، لأنها تستعمل القوى السحرية للغة كوسيلة هيمنة وكشف وإثارة المشاعر.
اما القصة الثانية هي الخلود والموت، سر الأسرار وينبوع الأسئلة، ولقد استوحت الأساطير والديانات والفلسفات والأفكار من هذه القصة واجابوا عن مسألة الموت وافاضوا في وصف فنونه وشجونه؛ نجد جذور هذه القصة في ملحمة كلكامش ملك الوركاء في جنوبي وادي الرافدين، وكان ملكا غير محبوب حيث نسب إليه ممارسات سيئة منها جنسية واخرى استعباده للناس، وكانت والدته اله ووالده بشر، أي ثلثيه اله خالد وثلثه بشر ميت، وبسبب هذا الثلث البشري، بدأ يدرك كلكامش بأنه غير خالد. بحث كلكامش عن الخلود، وفي رحلة البحث عن سر الخلود، أدرك في نهاية المطاف بأن الموت حتمي على الإنسان، وأن الخلود يأتي من عمل الخير، فعاد إلى اوروك وبنى سورها الكبير لحماية الناس من الخطر، وأصبح ملكا محبوبا إلى أن مات فحزن عليه سكان اوروك، ومنه وضعت البشرية مذ يومها الأول السؤال: ما هي الحياة السعيدة والكريمة لإنسان غير خالد؟، إن كلا من الأساطير والدين والفلسفة والعلم أجاب على هذا السؤال بطريقته الخاصة كعقيدة الخلاص، فالاساطير  أجابت عن طريق العيش بنحو متجانس مع الكون، والدين قال السعادة في الدنيا والآخرة تحدث من طريق الإيمان بالخالق والطاعة، والفلسفة أجابت بأنها تحدث من طريق التعايش مع الإنسان الاخر، اما الحكمة وعلم النفس قالت تحصل السعادة من طريق معرفة النفس. من تصالح مع نفسه تصالح مع الناس اجمع.

اترك تعليقاً