فيينا / الأحد 04. 08 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
كفاح الزهاوي
كانت متعبةً للغاية حتى وقعت أسيرة لنوم عميقًا وشاملًا. لم تكن لديها القدرة على الهروب من أسرها حتى الفجر، أُخلي سبيلها في ظل جو صباحي مشرق والموثق بالخضرة، تتألق في السماء أنواع الطيور.
عاشت في زمن انتشرت فيه التقنية الحديثة، ودون شك كان عقلها مبتلًا بماء تطورها، إلا أنها كانت عاكفة على قراءة الأساطير والانغماس في الأوهام والخرافات، لأن الجو العام كان ملبدًا بغيوم اللاوعي.
لم تكن تهتم على الإطلاق بالمستقبل، ولم تدغدغ أحاسيسها آفاق التمدن والتحضر، علما أنها كانت مواظبة على استخدام الإلكترونيات المتقدمة والاعتماد على مصادر تدفقها؛ لأن عقلها لم يكن يستطيع التمييز ورؤية الازدهار بعيون متحررة، بل عقلها عاش في بيئة كانت ولا تزال تتمرغ في وحل الماضي.
كان وباء الفقر، والجهل، وهوان الفكر هو الأكثر شيوعًا في هذا الوَسْط المتدهور. حالما فتحت عينيها، وجدت نفسها أمام رجلِ ملتحٍ يقف منتصبًا كالشبح، يرتدي زيًا يعود إلى زمن ما قبل أكثر من ألف عام.
التقت عيونهما في توجس وغموض؛ وقد اعترتها نوبة استياء مفاجئة، وتَخَضب وجهها بحمرة شديدة. كان ينظر إليها بعين ملؤها الشهوة؛ فهو يرى وجها خارق الجمال، يخطف انتباهه بمزيد من القوة. بدأ الرجل يرخى العِنان لخياله، ابتسم لها واشتهاها على الفور، فهي ليست سوى جاريةً وجسدًا للمتعةِ.
إن ما تشعر به في هذه اللحظات ليست أخيلة سراب أو مصادفة عبثية؛ وإنما واقع محسوس دون أن تفلح في فك طلاسم اللغز المبهم. نشأت تتفرس فيه بازدراء، وطفت على وجهها انطباعة الدهشة والريبة، فلم تملأ منه عينيها، لا سيما عندما شاهدت أشياء غريبة، أثارت في نفسها تساؤلات عدة: رداء الرجل غير مألوف، وطريقة كلامه وتفوهه بلهجة، كما في ـ المسلسلات التاريخية ـ التي تشاهدها على شاشة التلفزيون.
كانت تقدح ذهنها كي تلملم أفكارها في مزيج محبوك بنسيج رهيف يساعد في الحفاظ على الراحة والأمان، ولم يمض على الأمر وقت طويل قبل أن تبدأ الهواجس الخفية المخبأة في مكان ما هناك في الظهور، تلك الهواجس التي بدت وكأنها شعور خفي، إلا انها تكتسي مظهرًا محسوسًا. إنها معركة بين الجديد القديم والقديم الجديد.
“بات من الصعب وصف الأبعاد الفكرية لدن عقول استهجنت وَسْط ـ صراعات الحضارات ـ وهيمنتها على شريحة واسعة من المجتمع، تعيش في غياهب الجهل المسرف“.
كل مباهج الحياة التي استمتعت بها لم تكن تعني لها شيئا، في الوقت الذي كانت تعيش في فراش وثير وناعم وبيت فخم وتركب أفخر السيارات، إلا أنها ما زالت مملوءة ذهنيًا برغبات عفا عليها الزمن تسري في أعماقها بيسر، تنظر إلى الأشياء الجديدة بنظارات سوداء؛ بسبب تلك التراكمات الكمية لأفكار جامدة رست على أرصفة الخلايا الصدئة وتوالت عبر الأجيال حتى أدت إلى تلف كامل في أجهزة الدماغ.
مع أن النفس قد تتحرر من بعض حماقاتها، ولكن التصاقها بتلك البيئة لا بد أن يرغمها أن تسقط في وحل القطيع، إن هذا الظلام الذي يحيط بأفق روحها الداخلي يجعلها لا تعي وعيًا سليًما في كل ما يجرى من تناقضات في نفسها؛ وثمة هناك أشياء عدة ساطعة كالشمس؛ ولكن الضباب الكثيف المحيط بصفحة الدماغ، يمنعها من الرؤية الواضحة.
فجأة اختفت الفتاة كالسراب، فيما لبث الرجل واقفًا في مكانه، وعلى وجهه تبرق ابتسامة الفرح وأسارير الاندهاش معًا.