فيينا / الخميس 15. 08 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
بإطلاقه هجوما على منطقة كورسك الروسية في 6 آب/ أغسطس، حاول الجيش الأوكراني إعادة توزيع أوراق الحرب بعد أسابيع من الجمود على الجبهة الأوكرانية، وفق مختصين. وعلى الرغم من أن رهان كييف يبدو محفوفا بالمخاطر في ظل نقص الإمكانيات البشرية والمادية، إلا أن العملية سمحت بإظهار مكامن ضعف الجيش الروسي ووجهت ضربة للدعاية الرسمية للكرملين. فيما صرح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي أن الأمر يتعلق بـ”نقل الحرب” إلى روسيا.
في قرية روسية على الحدود مع أوكرانيا، كان العلم الروسي الأبيض والأزرق والأحمر يرفرف على واجهة مدرسة. وبعد بضعة ثوان، سحبه جندي أوكراني ورماه أرضا. تم تداول هذه الصورة على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي الأوكراني وهو أمر لم يكن متوقعا البتة قبل بضعة أسابيع. إلا أن القوات الأوكرانية تواصل الخميس 15 آب/أغسطس عمليتها العسكرية في منطقة كورسك الروسية الحدودية حيث قامت بتحرك عسكري مباغت -هو الأكبر من جيش أجنبي على أرض روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد أسبوع من إطلاق هذا الهجوم، تؤكد كييف سيطرتها على 1150 كيلومترا مربعا و82 قرية في هذه المنطقة التي تمثل قاعدة خلفية لموسكو في الحرب بشرق أوكرانيا. من جهتها، أقرت السلطات الروسية الإثنين خسارة السيطرة على 28 بلدة مضيفة أن توغل القوات الأوكرانية يمتد على منطقة بعرض 40 كلم وبعمق 12 كلم.
وحسب إحصاء قامت به وكالة الأنباء الفرنسية بالاعتماد على مصادر روسية نقلها معهد دراسة الحرب الأمريكي، حققت القوات الأوكرانية توغلا على مساحة 800 كيلومتر مربع في منطقة كورسك. وعلى سبيل المثال، حققت روسيا تقدما بـ 1360 مترا مربعا في الأراضي الأوكرانية منذ 1 كانون الثاني/ يناير 2024 وفق تحليل وكالة الأنباء الفرنسية.
بدوره، أعلن قائد الجيش الأوكراني أولكسندر سيرسكي الخميس إقامة إدارة عسكرية في منطقة كورسك، وقال سيرسكي خلال اجتماع مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي إن هذه الإدارة مكلفة تولي شؤون المنطقة وضمان الأمن فيها، والإشراف على المسائل اللوجستية للقوات الأوكرانية. كما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن قواته سيطرت بالكامل على مدينة سودجا في منطقة كورسك الروسية.
فكيف يمكن تفسير التقدم الأوكراني السريع؟ وما هي استراتيجية كييف؟ وكيف سترد موسكو؟ وما تداعيات ذلك على النزاع؟
توغل مباغت في منطقة قليلة الحماية
بدأ التوغل الأوكراني في منطقة كورسك إثر شروق شمس 6 آب/ أغسطس في حدود الساعة 5:30 صباحا، وفق رئاسة الأركان الروسية. في المجمل وفق موسكو، توغل ألف جندي أوكراني -وآلاف وفق كييف- في هذه المنطقة الحدودية مع 11 دبابة وأكثر من 20 عربة مدرعة إضافة إلى طائرات مسيرة.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذا الهجوم لم يواجه مشاكل كبيرة. ويعود ذلك إلى أن الانتباه منصب منذ عدة أشهر على منطقة الدونباس حيث تتركز المعارك، ويفيد خبراء عسكريون بأن منطقة كورسك لم تكن تتمتع بحماية كبيرة. “روسيا لم تكن مستعدة لحدث مماثل” وفق قراءة الجنرال جان بول بالوميروس القائد السابق للقوات الجوية الفرنسية، الذي وصف كورسك بأنها “منطقة رخوة” لا تتمتع بالحماية إلا من “عساكر التجنيد الإلزامي”.
“لم يكن الأمر شديد الصعوبة” وفق توضيح ستيفان أودرون المختص في المخاطر الدولية في تصريح لجريدة لوموند. “منذ خريف 2022، كانت الجبهة التي تقع شمال الدونباس هادئة، باستثناء بعض الغارات. لم يكن هناك سوى خطان دفاعيان بسيطان، بعض حقول الألغام وعدد قليل من الرجال -مئات من أعضاء جهاز إف إس بي والدرك الوطني الروسي”.
“الحدود لم تكن محمية. لم يكن هناك سوى ألغام مضادة للأفراد موزعة بالقرب من الأشجار على قارعة الطريق وألغام أخرى نجحوا في زرعها على طول الطريق السريع” وفق تأكيد جندي أوكراني لوكالة الأنباء الفرنسية. وبما أنها بعيدة عن مركز المعارك، كانت منطقة كورسك إذا هدفا أسهل من أي مكان آخر على الجبهة الممتدة على 960 كلم في شرق وجنوب أوكرانيا.
إضافة إلى هذه الجبهة غير المتوقعة، فإن عامل المفاجأة كان كبيرا جدا على موسكو في ظل تكرار السلطات الأوكرانية منذ أشهر بأنها تعاني من نقص في الجنود والذخائر. وبالتالي كيف يمكن -في هذا السياق- تخيل أنها قادرة على إطلاق هجوم بهذا الحجم؟ “هذه العملية كانت مفاجئة أيضا للأوكرانيين. لم يكن أحد يتوقع رؤية ذلك” وفق تأكيد تاتيان أوغاركوفا الصحافية ومسؤولة القسم الدولي في مجموعة “أوكرانيا كريزيس ميديا”.
إلا أن تقرير سلم إلى السلطات الروسية قبل شهر من الهجوم أشار إلى “رصد قوات (بالقرب من كورسك) وأكدت المخابرات أن هناك استعدادات لشن هجوم” وفق تأكيد أندرري غوريلوف النائب في البرلمان الروسي والعسكري السابق الرفيع في الجيش في تصريح لنيويورك تايمز. إلا أن رئاسة الأركان لم تصدق ذلك أو لم ترد تصديقه.
زعزعة الجيش الروسي
أمام التقدم السريع للجيش الأوكراني، تأخر الرد الروسي في القدوم. فبينما تركز قواته منذ عدة أشهر على جبهة شرق أوكرانيا، فإن فتح هذه الجبهة أجبر موسكو على تحريك قوات بشكل عاجل لحماية المنطقة”.
“من المؤكد أن ذلك يمثل جزءا من الاستراتيجية الأوكرانية” وفق بالوميروس. “من خلال هذه العملية، أجبر الأوكرانيون الروس على كشف قدراتهم العسكرية وإعادة تنظيم صفوفهم من خلال تحريك جنود إلى كورسك لم يكن مخططا لهم أن يكونوا هناك”.
“لا أحد يعرف الأهداف الدقيقة للجيش الأوكراني لكن هذا التوغل يبدو مثل عملية إنقاذ” وفق تاتيانا أوغاركوفا التي تضيف “الخطوط الأوكرانية لم تتحرك منذ عدة أشهر. وبالهجوم على روسيا، أجبر الجيش الأوكراني روسيا على تسليط الانتباه على مناطق أخرى وتغيير ديناميكيته”.
خلال الساعات الماضية، ما زال الوضع غامضا على الأرض. فيما أعلنت السلطات الروسية وقف التقدم الأوكراني بعد أن أرسلت تعزيزات وأسلحة إلى المنطقة منها قاذفات صواريخ ومعدات عسكرية ثقيلة ودبابات. وهو ما سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تكذيبه، مؤكدا “نواصل التقدم في منطقة كورسك. ومنذ بداية اليوم، تقدمنا لكيلومتر أو اثنين في مناطق مختلفة”، مضيفا أنه تم “أسر أكثر من مئة جندي روسي”.
أيام مقبلة حاسمة
يبدو أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة. فهل ستنسحب القوات الأوكرانية أم أنها ستحاول الحفاظ على مواقعها؟
أعلنت كييف الأربعاء فتح “ممرات إنسانية” في المنطقة الروسية، بهدف “حماية سكان المناطق الحدودية من غارات العدو اليومية” وفق تصريح وزير الداخلية الأوكراني إيغور كليمنكو على تلغرام. “سكان المناطق الواقعة في منطقة العملية تم التخلي عنهم من روسيا” وهم “محرومون من الاحتياجات الأساسية”، مؤكدا أن الاستعدادات مستمرة لإيصال الغذاء والماء والدواء ومواد النظافة إليهم.
إلا أن الجنرال جان بول بوليموس يشدد على أن العملية الأوكرانية تخدم بالأساس استراتيجية سياسية قائلا: “هذا التوغل في أرض روسية هي مخاطرة بالنسبة للأوكرانيين لإعادة المسك بزمام الأمور، الجميع يعلم أن الأشهر المقبلة قبل الشتاء ستكون حاسمة. وللأوكرانيين مصلحة في إعادة توزيع الأوراق ليكونوا في موقع قوة من خلال إضعاف الجيش الروسي على الجبهة الشرقية”.
ويقدر بوليموس أنه لا مجال “للحفاظ على هذه المواقع لوقت طويل: “الأوكرانيون يريدون إبراز ما فعلوه بالروس، هم ليسوا هناك لمهاجمة روسيا أو شعبها أو أرضها بل إن الأمر يتعلق بدفاع شرعي عن النفس”.
من جهتها تقول أوغاركوفا: “القوات الروسية ستستعيد السيطرة على المنطقة عاجلا أو آجلا، والهدف هو جلب الانتباه إلى مناطق خارج دونيستك وخيرسون، وقد نجح الأمر جزئيا”.
وصرح زيلينكسي بعد ثلاثة أيام من الهجوم أن الأمر يتعلق بـ”نقل الحرب” إلى روسيا فيما قال وزير خارجيته أن الهجوم الأوكراني “شرعي” وسيتوقف في حال قبلت موسكو بـ”سلام عادل” ينهي غزوها.
فلاديمير بوتين في موقف محرج؟
مهما كانت النهاية العسكرية للتوغل الأوكراني، فإنه شكل صفعة للسلطات الروسية وفلاديمير بوتين. فقد أدى الهجوم على كورسك إلى مقتل 12 شخصا وإصابة 121 آخرين من المدنيين بينهم عشرة أطفال. وتم إجلاء 121 ألف شخص وتم إرسال مساعدة عاجلة للمناطق الحدودية وتنظيم رحلات عبر القطار إضافية إلى موسكو.
في منطقة بيلغورود الحدودية أيضا مع أوكرانيا، تم إعلان حالة الطوارئ الأربعاء مع عمليات إجلاء أقل نطاقا، وهو ما يوجه ضربة للسردية الرسمية للكرملين الذي ما انفك يؤكد بأن “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا “تحت السيطرة”.
وفي مؤشر على الإحراج في الكرملين، بدا بوتين متوترا في كلمة متلفزة وأمر جيشه “بطرد العدو” إلى خارج روسيا.
وتخلص أوغاركوفا إلى القول: “سياسيا، إنها ضربة كبيرة لبوتين الذي لم يكن يتوقع هجوما مماثلا. وهذا يؤكد أن روسيا أضعف مما تريد أن تظهره. أما على الجانب الأوكراني، فإن العملية تعطي انطباعا بأن الأمور تتحرك بشكل يدعو للتفاؤل”.