فيينا / الأربعاء 29 . 01 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
عبدالرحيم الجرودي
على أريكته المفضلة وفي حضرة حبيبته التي قدمت له القهوة في فنجان إيطالي موسوم، متربع وسط صحن يمنحه المقام والتقدير، ارتشف رشفة عميقة ليلامس البن خلايا دماغه المرهقة ويضع الفنجان كعادته على الطاولة متجاهلا الصحن المعد لذلك لتخاطبه قائلة: مثقف في أزمة.
يحاول أن يفهم، ليس فقط كيف انتهى به الحال إلى هنا، بل لماذا يبدو وكأنه في أزمة طوال الوقت ربما لأن المثقف ككائن متأمل ومتفكر يجد متعة خفية في دراما الحياة اليومية، إنه كائن مثير للاهتمام، فهو دائم البحث عن الحقيقة، منشغل بتحليل الأحداث، إلى أن ينتهي المطاف به في أزمة وجودية عميقة. لا تقلقوا، هذه الأزمة ليست نتيجة حرب أو كارثة، بل نتيجة بقايا قهوة باردة في فنجان غادر صحنه تحت طائلة الإكراه السيكولوجي.
دعونا نتأمل هذا الكائن الذي يمارس الثقافة ونحاول فك خوارزمية أزمته المزمنة، فهو يعيش الآن إشكالية وجودية، ليس بسبب التفكير ذاته، بل بسبب التساؤل المحوري: كيف أصبح مثقفاً عصرياً في زمن اختُزلت فيه الثقافة إلى تغريدة على منصة امبريالية عداد حروفها لا يتجاوز بضعة أسطر.
في ركنه الهادئ الذي يجمع بين رائحة القهوة الأرسطقراطية وأصوات نقاشات لا نهاية لها على موائد البرامج التلفزية عن السياسة، يجلس مثقفنا الذي يحمل على عاتقه أعباء كوكب الأرض الفكرية شارد النظرات وكأنه يستقبل رسائل غامضة من ثنايا الكون، يحاول فك رموزها بين رشفة قهوة مرة سوداء وقراءة كتاب مهم عنوانه يحتل ثلاثة أرباع الغلاف على الأقل بلغة تعتمد الإسترسال المطول، ينسيك آخرها أولها ويجعلك لأنك مثقف تحس بالخجل من نفسك إن راودك شعور بإعادة القراءة للفهم فهنا تكمن العبقرية.
إنه أغرب كائن على وجه الأرض، يمتلك قدرة خارقة على تحويل كل شيء حوله إلى فكرة أو مسلكية تستحق النقاش. ولكن الحدث الصعب عندما يصبح مثقفنا هو الفكرة ذاتها.
دعونا نغوص في أعماق أزمتة، ونحاول أن نفهم كيف يعيش هذا الكائن المأزوم، والذي يبدو أحيانًا وكأنه يتلذذ بأزمته كما يتلذذ أحدنا بقطعة حلوى تعدها له حبيبته بعد يوم شاق.
لقد كان يعتبر نفسه مفكراً، يحاول أن يشرح نظرية نيتشه ودلالات مطرقته، فيستخدم فيس بوك، لكنه يكتشف أن تغريداته العميقة تُهزم بسهولة أمام صورة صحن منسف أردني فيقرر كتابة تغريدة ساخرة عن أزمة المثقف، فيحصل على إعجابين: واحد من حبيبته تقديرا له، والآخر من صديقه الذي لايقرأ ولا يكتب ليرفع معنوياته.
مثقفنا يشكر السماء على وجود “جوجل” الذي وفّر عليه عناء البحث في المكتبات عن معلومة بسيطة. في المقابل يتمنى لو أن الواي فاي ينقطع كلما حاول أحدهم نشر صورة لوجبة عشاء في مطعم تركي على فيسبوك بدلاً من قراءة مقال عن الصراع الطبقي.
يفتح صاحبنا هاتفه ليتصفح الأخبار على منصة تلغرام. وهنا يجد نفسه في مواجهة عناوين تبدو وكأنها كتبت خصيصا لاستفزازه. فتجده يقرأ عن التآمر الإمبريالي ضد القوى الثورية فينفجرغضبًا ويقرر أن يكتب بيانًا طويلًا لا يقرأه سواه، ولكنه يشعر بأنه قام بواجبه الثوري تجاه الإنسانية ليكافئ خلايا دماغه برشفة قهوة باردة تذكره برودة موسكو وأشعار تروتسكي الثورية.
أصبحت على يقين أنه لا شيء يسعد مثقفنا أكثر من كتابة مقال بعنوان: أنا مثقف في أزمة.
ولنكن صادقين، هو يحب أزمته لأنها وقود الإبداع لديه والمحفز لشرب القهوة، وهي ما يدفعه للاستمرار في النقاش والتحليل والكتابة، وبدونها لن يكون لدينا كل تلك المقالات والتغريدات التي تجعلنا نضحك ونسخر و نفكر.
من خلال أزمته يعيش مثقفنا في صراع بين كونه قطعة من هذا الفسيفساء البشري وسعيه للتفوق. فهو الناقد المتميز لكل شيء والضحية الأولى لما ينتقده، فلا تستغرب إن عنون مقالة بقوله مثلا: الوجود عبث منتظم ويصوغها بلغة سريالية توحي أنه نبي جاء من عالم يسبقنا بسنوات ضوئية ولا يفهما سوى من مارس الثقافة مثله، فالمجتمع كما نعرف، لا يتفهم دائمًا معاناة المثقفين.
أما على مستوى العلاقات الاجتماعية، فالأمر لا يقل تعقيدًا، فهو يتحدث عن نظريات ماركس وفرويد وهيجل وسط حفل عقيقة ويناقش أزمة الهوية أثناء تناول طاجين. والأسوء، عندما يسأله أحدهم سؤالا عن الجو والطقس، يسترسل في مداخلة عن الثورة الزراعية وإسهامها في تحرير المجتمعات في ظل الهيمنة الإمبريالية.
أن تكون مثقفًا ليس أمرا متناولا، فهو كد وسعي وراء شيء وجودي يثبت الأنا دون استعلاء وهنا مكمن الأزمة . وتحت هذا العنوان لم يعد مثقفنا يحتاج إلى فهم كل شيء أو حتى إقناع الآخرين، فقرر أخذ جرعة من عمقه الفكري كل يوم بالإستمتاع بالكتب والموسيقي الكلاسيكية. ولتخفيف جرعة العمق قليلا، لا بأس من قراءة رواية خفيفة أحياناً بدلاً من كتاب ينقد العقل. فالبساطة أحيانا هي أعمق أشكال العبقرية، لذا قرر التمرد على الإتكيت وممارسة السؤال الفلسفي الذي لن ينتهي أبدًا ويشارك تدوينات لا يفهمها أحد في زمن كل شيء فيه قابل للتحول إلى تدوينة أو تغريدة ، ويشرب قهوته بسعادة وفخر فهي الشراب الرسمي للمفكرين، فالمثقف الحقيقي هو الذي يدرك أن الأزمة ليست إلا جزءًا من رحلته الكونية للخروج من دائرة القلق الوجودي.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات