الرئيسية / ثقافة وادب / عبد الإله كمال الدين العابر بين الخشبة والمكتبة

عبد الإله كمال الدين العابر بين الخشبة والمكتبة

فيينا / الأربعاء  04 . 06 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية  

محمد علي محيي الدين

في أطراف مدينة الحلة، وتحديدًا في قرية “عوفي” الوادعة، وُلد عام 1942 رجلٌ كُتب له أن يُمضي عمره متأرجحًا بين الضوء والظل؛ بين وهج الخشبة المسرحية ونور المعرفة المتوقد في بطون الكتب. هناك، في تلك الأرض الخصبة بالنخيل والماء والتقاليد، بزغت إرهاصات الموهبة الأولى للدكتور عبد الإله كمال الدين، الذي سيصبح لاحقًا منارة أكاديمية وثقافية في العراق والعالم العربي.

من مدرسة “الكص” الابتدائية، حيث بدأت حكاية الطباشير والسبورة، إلى المتوسطة المركزية، كان الصبي الحليّ يُظهر ميلًا واضحًا للفنون والجمال، ميلًا لم يُخيب ظنه حين اختار أن يلتحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد. هناك، تفتحت روحه على آفاق التعبير المسرحي، وعلى تقنيات الفن البصري والدرامي، فكان من خريجي المعهد عام 1962، ومن أولئك الذين جعلوا من التدريس في مدارس الحلة منبرًا لنشر الذوق الفني وتربية الحس الجمالي.

لكن اللحظة المفصلية في حياته لم تكن في قاعة درس، بل على خشبة مسرح. في منتصف الستينيات، شهدت قاعة التربية في محلة الكراد الحلية عرضًا مسرحيًا برع فيه عبد الإله كمال الدين، رفقة زميله علاء يونس، حتى أن وزير التربية نفسه استدعاهم ووهب كلاً منهما أمنية. كانت أمنيته أن يسافر ليتعلم. وهكذا، طار إلى تشيكوسلوفاكيا بمنحة دراسية، وهناك حصل على الدبلوم العالي من كلية الدراما بجامعة “تشارلز” العريقة عام 1967.

عاد إلى العراق، وقد نضجت تجربته وتعمّقت رؤيته، ليُدرّس في معهد الفنون الجميلة ببغداد، قبل أن يشد الرحال مرة أخرى إلى أوروبا الشرقية، حاصلاً عام 1979 على شهادة الدكتوراه في الدراما المسرحية من كلية الآداب بجامعة بوخارست – رومانيا. ولم تمض سنوات قليلة حتى بلغ مرتبة الأستاذية عام 1995، وهو شرف لا يناله إلا من جمع بين غزارة العطاء وصرامة المنهج.

لكنّ درب عبد الإله كمال الدين لم يكن مفروشًا بالورود؛ ففي عام 1997 غادر العراق، بعد أن ترك الوظيفة مضطرًا، حاملاً معه مكتبته الثرية وهمومه الأكاديمية. حطّ رحاله في ليبيا، حيث عمل أستاذًا في كلية الإعلام والفنون بجامعة الفاتح حتى عام 2001. ثم عاد إلى العراق قبيل الغزو الأميركي، ليُستعاد إلى وظيفته ويُكلَّف بتدريس الأدب المعاصر، والسيناريو، والدراما الإذاعية والتلفزيونية في كلية الإعلام – جامعة بغداد.

لم يكن الأستاذ عبد الإله مجرد مُدرّس يوزع العلامات، بل كان باذرًا للمعرفة في كل محفل. أشرف على عشرات الرسائل والأطاريح، في كليات الفنون الجميلة والإعلام، وترك أثرًا لا يُمحى في طلابه الذين ما زالوا يذكرونه بكلماتٍ تنضح بالعرفان والاحترام.

أما مكتبته الشخصية – تلك الكتلة الحية من الورق والذكريات – فقد آثر أن يهديها إلى متحف الحلة المعاصر، في بادرة وفاء لمدينته الأم، وكأنه أراد لروحه أن تبقى في ترابها حتى وهو يعيش اليوم في الولايات المتحدة.

رأي النقاد

يرى النقاد أن الدكتور عبد الإله كمال الدين هو أحد العقول النادرة التي جمعت بين التكوين الفني الصارم والرؤية النقدية العميقة. فبعضهم يصفه بأنه “الدرامي الذي تفكر بلغته الفنون”، وآخرون يعدّونه “من أوائل الذين أدخلوا المناهج النقدية الغربية إلى مقاربة الأدب العربي في الجامعات العراقية، دون أن يفقد روح النص العربي وهويته“.

في دراساته، لا يتعامل عبد الإله مع النص كجثة على طاولة التشريح، بل كنص حي، يتنفس في إيقاع الثقافة والتاريخ. مؤلفاته مثل “تحولات النص الأدبي” و”النقد الأدبي المعاصر” و”الرؤية الثقافية في الأدب” كانت علامات بارزة في مسار النقد الثقافي في العراق والعالم العربي، وقد شكلت مرجعًا مهمًا للباحثين وطلاب الدراسات العليا، لما فيها من تحليل رصين وشغف واضح بقضايا الإنسان واللغة والمجتمع.

إن عبد الإله كمال الدين ليس مجرد أستاذ جامعي ولا باحث في الدراما والنقد الأدبي، بل هو سيرة فكرية وجمالية متكاملة، تبدأ من ريف الحلة وتمر عبر مسارح بغداد وشوارع براغ وبوخارست وطرابلس، ثم تعود لتستقر في وجدان الأجيال التي تتلمذت على يديه أو قرأت من كتبه. في زمنٍ تهاجر فيه العقول بصمت، يظل عبد الإله شاهدًا على جيلٍ آمن بالكلمة، وأخلص للفن، وأحب وطنه رغم الغياب الطويل.

هو الآن في مغتربه الأميركي، لكن أوراقه ما زالت تعبق برائحة الحلة، وصوته – ولو في بعد – ما زال يُلقّن النصوص كما لو أنه واقف على خشبة الحياة، يلقي درسه الأخير بشغف لا يذوي.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً