الرئيسية / ثقافة وادب / زيد الشهيد ، وميلودراما (فراسخ لآهاتٍ تنتظر) (1)

زيد الشهيد ، وميلودراما (فراسخ لآهاتٍ تنتظر) (1)

هاتف بشبوش

للمرّة الثالثة التي أجد نفسي فيها مشدوداً لروائي كبير فأكتبُ عنه ، وعن دراما روائية جمعت بين الخيال والواقع والظواهر الطبيعية ، لزيد الشهيد ، الذي له من الشهرة التي يحسد عليها . بدأ مشواره الأدبي 1986 في قصته القصيرة ( الدراجة) ثم تتالت روائعه بعد ان ترك رسالة الماجستير في اللغة الأنكليزية جزَعا من العراق الذي لايطاق أنذاك ، ويشد الرحال الى اليمن ، يعود فترة الى الوطن لكنه يشعر بأن الأجهزة القمعية للنظام البائد تلاحقه أثر نشره رؤية بعنوان ( أسفل فنارات الوقيعة ) فيهرب على أثرها الى ليبيا ومن هناك تنعتق قريحته الإبداعية ليعطينا من الجمالات الرائعة لفيضه المتميز . روائي له من المنجزات التي وصلت الى المكتبات الرئيسية للدنمارك ( حكايات الغرف المعلقة) ، نال العديد من الجوائز الأدبية ، في عام 2004 عادالى الوطن بعد سقوط الصنم ليكمل لنا روايته المثمرة موضوعة دراستنا هذه ( فراسخ لآهات تنتظر) .
الرواية هي من أدب السيرة الذاتية ولكنها ليست بالضرورة أنْ تخص الكاتب نفسه بمجملها ، الروائي يصنع بطله في مخيلته ثم يتكلم هو بالنيابةِ عنه وهذا هو الإبداع الحقيقي ، مثلما ( الإعترافات ) لجان جاك روسو ، و(مذكرات لص) لجان جينيه . محور الرواية يدور بين ثلاثة أمكنة ( العراق ـ ليبيا ـ عمان) . عنوان الرواية هو من النوع الذي يثير التساؤل ، ماالذي ينتظر العراقيين هناك في المدى المنظور وغير المنظور ، وماهي المدة الزمنية لهذا الإنتظار ؟ الدمار والتخريب هو الذي ينتظر العراقيين هناك في خط النهاية المستقبلية المظلمة ، أنّ هذه الحالة هي مثل العدّاء الذي يصل خط النهاية فبدلاً من أن يفرح بالفوز ، يجابه النكوص الذي يصيبه نتيجة لأعتراض الحكم على خطأ قد إرتكبه دون دراية منه ، المسافة الزمنية التي تفصلنا عن هذه الآلام غير محددة ولكنها عبارة عن ( فراسخ) ، العراقي يتسابق في الوصول الى آلامه القادمة وآهاته نتيجة الحكام الطغاة . هي بالضبط مثل الركض وراء الذئاب للروائي علي بدر ، تركض ثم تركض حتى إذا مسكتَ بها تدور عليك ثمّ تنهشك وتقطعك أربا أربا . هذا ماينتظر العراقي في مستقبله القادم ، وليس ماينتظره هو ، هناك فرق كبير ، والاّ أصبح عنوان الرواية تقليدي كلاسيكي لايميل الى الإبداع المتميز . رِهاب المستقبل هو الذي ينتظر العراقي هناك ، في خطوط النهاية التي لاحصر لها ، وهذا هو إبداع زيد الشهيد غير المألوف .
زيد الشهيد كروائي ينفرد بشكل مذهل ومميزعن بقية سرد الروائيين الآخرين في إستخدام النعوت المرادفة والسلسة بدلا من المعتادة ، تلك النعوت التأكيدية المضاعفة مما يزيدها بهاءاً وألقا ولغة ، كما وأنها تعطي الرونق في النغمة عند قرائتها ، على سبيل المثال ( وطيئة, راهصة ، الهياب ، الفياض ، الخفيض ، القصدية ، الهليك الوسيع ، صائت ، عديد المرات ، دفيء، وطيئة ، رقيم أعوامي ، النايفة من العشرين ، الخذيل ، جدران لميعة ، جفيفة الشفتين ، رعشية الأصابع ، الشسيع ) وهلم جرا .
زيد الشهيد حين تنفلت قواه السردية يكون في حيوية عظيمة وتحكم بارع في قيادة العبارات الرخيمة التي يزجها على الورق . في روايته هذه ( فراسخ لآهات تنتظر) وجدت ُكلماتاً وسرداً فيّاضاً معطراً بالهوية الخمرية الجميلة للشعب العراقي والتي نراها في الصفحة الأولى كمدخلٍ أولي لأروقة الرواية المذهلة ، حيث الجواهري الكبير صاحبُ الكأس الأبدية بقوله البديع :

مُقيمٌ حيثُ يضطربُ المُنى .. والسعيُ والفشــــــــــــــــلُ

وحيثُ يُعـــــــــــاركُ البلوى .ز فتـلـــــويهِ ويعـــــــــــــتدلُ

ســــــــــــــلاماً أيها الندمان .. إنّي شـــــــــــــــاربٌ ثمِـلُ

منذ الأزل والعراقي هو معاقر للخمر ، منذ سيدوري صاحبة الحانة التي يكرع عندها كلكامش بعضا من خمرها قبل أن ينطلق في رحلته الى ( دلمون) ، نزولا الى الخمارين في زمن الرسالة النبوية و منهم من تركها وصبأ وأولهم الحمزة عم النبي ومنهم من ظلّ يعاقرها لغاية مماته في معركة أحد وهو ابو جهل حيث يقول كما رأيناه في فيلم الرسالة الشهير لمطفى العقاد ( وعشرون ناقة مني تحمل دنان الخمر ) ، نزولا الى الفيلسوف العربي (الفارابي) الى الشاعر الكبير (الجواهري) الى الروائي الراحل (غائب طعمة فرمان) الى الكاتب الشهير الذي ناهز التسعين ولازال يتلهف للكأس كل يوم وهو الكاتب الشهير والأديب ( الفريد سمعان) ,الى العديد من الروائيين في هذا الزمن المرّ ، الذين لايستيطعون الإبداع من غير معاقرة الخمر ، الى كاتب السطور هذه . ومازالت راية الخمر مرفوعة حتى اليوم رغم منعها ومحاصرتها من قبل فتاوى الذين يدعّون الأمامة والتقوى في هذه الأيام وحملاتهم المشينة بين الفترة والأخرى . الرسالة الأخرى التي يريد إيصالها لنا الروائي من خلال المدخل هذا هو أنّ العراقي رحال من بلد الى بلدٍ فتراه مقيما هنا أو هناك حيث الهرب من الأجهزة القمعية التي لم تفارق العراق على مر الأزمنة ، فتراه في معترك الحياة الرهيب الذي تارة يلويه وتارة يستقيم على قدميه فيعيش مرة أخرى ومرات حتى يهده التعب , وهذه حالة ملاصقة لأغلب المبدعين عربا أو عراقيين ، فذاك هو مظفر النواب المقيم في سوريا وفي كثير من البلدان العربية ، وذاك أدونيس المقيم في فرنسا ، وهذا زيد الشهيد مقيم في اليمن شوطا وفي ليبيا شططا مع مرارة الحياة وقسوتها .
في الرواية نرى المتضاد لهوية الخمر هو الأدعية والدعاء على لسان الأمومة ، كلما غادر أحد الأبناء مكانا ما فنراه يحمل في جيبه الصغير حنان الأم ( وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا …..) ، لكنّ هناك تشابهُّ واحد بين الأدعية ورفع انخاب الخمور ، هو انّ الأثنين يرفعوا وجوههم الى السماء أثناء أداء الطقوس ، ربما لكلٍ إلههُ الخاص ،( ديونيسيس) إله الخمر ، ورب العالمين إلهُ الكون الكائنُ في السماء السابعة . بعد ذلك تعرّج الرواية الى السياسة التي أعيت الأمهات لحبهنّ لفلذات أكبادهن من البطش الظالم ، فها هو بطل روايتنا الذي ذاق الأمرّين في تفاصيل حياته ( مبدر داغر) ، تطلق عليه عمته بالأخرس على خطى عمه (عباس) الشيوعي الذي أعدم في عام 1963 مشنوقا من قبل البعثيين . تطلق عليه بالأخرس لطيبة قلبه ، قليل الكلام لكنه الوطني الدؤوب الذي لايكل عن حب وطنه ، فتخاف عليه عمته من كثرة مايقرأ من الكتب التي تركها عمه في درج خزانته والتي أرادت أحراقها ، لكن الأب (داغر) إحتفظ بها إحياءا لذكرى اخيه (عباس) بعد أعدامه : ( ومات أنذاك تحت طائلة التعذيب ، عندما مارس البعثيون معه ومع الكثير ممن سحرتهم الشعارات الأممية ، تواليات من إنتهاك أخرق ينآى عن الفعل العقلاني إبتداءاً من إجلاسهم على قناني المشروبات الغازية ثم إدخالها في مؤخراتهم ).
الرواية تذكرني بالروائي اليساري الكبير السوري (حيدر حيدر) وروايته (وليمة لأعشاب البحر) لمافيها من لمة أصدقاء أداروا محتوى الرواية المذهل بين مشاكساتهم ونضالهم المرير وكل ماتحمله من معاني القهر التي تصب على شباب شعوبنا من أنظمة الفساد . الروائي زيد الشهيد في روايته هذه جعل من الشخوص الرائعين أنْ يمثلوا أطياف صبانا وعنفواننا أنذاك حيث السياسة وما تجلبه لنا من من صحبة راقية ولكنها في نفس الوقت تتكلم عن المآسي والحيف الملاصق على طول الزمن . شخوص الرواية هم الأصدقاء الذين مثلوا الحقبة التأريخية أنذاك ، اليساري( مبدر داغر) بطلها كان شاعراً ، (كمال) الرسام الشفيف والرهيف والمتشاؤم كما نرى لاحقا ، عبد الرحمن الشارد الى تخوم اوربا حيث المنفى البعيد الذي ضم ملايين العراقيين ، هو الآخرأديب وناقد ، ثم العطر الأساسي لأي عمل روائي وبدونه يكون العمل الإبداعي في غاية النقص ، وهو حوّاء والمتمثل هنا بحبيبة مبدر ( نجاة ).
بين حب الحياة في الصبا والرفقة الصداقية الذهبية في عمرها الزهوي يتألق الأصدقاء حبا وفداءاً في الوطن . بين لعب الطفولة ونزقها ثم صعودا الى عمر البلوغ الجنسي الذي لايطاق في ظل شعوب محافظة تجعل من العاطفة الجياشة تضيع هدرا وانسحاقا مع مر السنين دون أن تنطلق كوابحها كي تأخذ مداراتها بين الجنسين في العناق والقبل والتوحيد بالضم والشد وجميع مستلزمات الجسد ، والرعشات التي تثير هرمون السعادة ، كل هذه في بلداننا محرمات، بينما في بريطانيا رأيتُ مايسمى (السكس بوكس) هو برنامج جديد يقوم على فكرة دخول رجل وإمرأة الى صندوق موضوع في الإستوديو لممارسة الجنس الحقيقي وسط عدد كبير من الجمهور وهذا البرنامج أعد لغرض توعية الرجل والمرأة بالثقافة الجنسية التي تنقصهم أثناء الممارسة ، أين نحن من ذاك حيث العمر الجنسي يمضي الى الذبول بين فصولٍ من الإستمناء وحرمانٍ يستمر في زواجٍ تقليديٍ بائسٍ فوا أسفاً . فلم يبق غير العمر الكسبي والثقافي والسياسي الذي من خلاله يستطيع المرء أن يناضل في سبيل تحقيق رغباته المكبوتة في العيش والجنس وفي الثقافة وحرية الرأي ، فيبزغ الألق هنا في السياسة وتأتي المصائب عندها ، ولاتخلّف غير التشريد والزج في السجون والهروب الى بوابات العالم حيث المنافي والإغتراب . في دوامة الإنسحاق التي يشب عليها الأصدقاء ، نراهم يتشظون الى كتل متباعدة رغما عنهم , في البدء يخرج عبد الرحمن الى بريطانيا وينجو بجلده ، ثم مبدر بطل روايتنا لم يكن في حسبانه المغادرة لولا تحذير بنت الجيران( نجاة) له والتي أصبحت فيما بعد الحبيبة المرتقبة والتي من الممكن أن تكون الزوجة والأم ولكن كيد الأيام المعجون بالإضطهاد البعثي حال دون ذلك ، بل تحول الى سراب دامي ودامع وحزين . نجاة هي بنت الحزبي في المنطقة ( شهاب)الذي إستفاق ضميره بعد ان عرف أنّ القادم من الأيام سوف يكون عليه وعلى عائلته في الدمار ، فبدأ يحذر مبدر من البطش ، فأعطاه النصيحة بيد إبنته نجاة ، نجاة تلك الرمز لثقافة المرأة العراقية النادرة أنذاك ، وحتى اليوم فالمرأة العراقية لاتزال في المستوى الذي لايرتقي الى الحضارة ، بل هي محكومة بثالوث المرأة اليومي ( المطبخ ، السرير ، السجادة ) كما قالها الكاتب القدير (محمد الباز) في كتابه المثير (الإنحراف الجنسي والديني في بلاد العرب … السعودية) . نجاة يجمعها بمبدر الشعر وأول نتاجاته البذرية في عالم الخواطر. تخبره نجاة بذلك قبل أن يأخذ الحب بينهما المأخذ الشكسبيري الذي يكون في تواليات الأيام مصدر هيام وإلهام في كتابة العديد من الإأبداعات لمبدر ، أول نظرة من مبدر الى نجاة هي الشرارة الأولى لدخوله في وصف عالم النساء وأجسادهن ، هو ذاته الإنتشاء الذي غمر شكسبير وهيامه في حب فتاة ثرية والذي جُسِّد في فيلم رائع بعنوان (شكسبير عاشقا Shakespeare in Love ) والحائز على سبعة جوائز أسكار من تمثيل الشقراء ( جونيت بالترو) و ( جوزيف فيانس) حيث يظلّ شكسبير قلقا هيّاما قليل النوم ، حين يراها لأول مرة ، فتنطلق قريحته السردية في تأليف الكثير من مسرحياته وهو بالقرب منها ينهل إبداعه من جمالها الأخاذ . بين هذه وتلك (نجاة) تنصحُ مبدر في المغادرة قبل أن يبطشوا به مثلما فعلوا مع عبد الرحمن وكمال ، لكن عبد الرحمن أخذ الدرس وخرج الى بريطانيا ، هكذا أوصاها أبوها الحزبي أن تنقل الكلام هذا الى مبدر . تنتهي زيارة نجاة لمبدر بقبلة مسروقةٍ خفيفةٍ خجلى على شفتيها فتنسى أوراق الشعر عصارة بوحها على الطاولة ، وتخرج بنشوتها الدفينة . أحاديث الشعر بين مبدر ونجاة في تلك الغرفة البسيطة في السماوةوبين خدر الحب الكامن في الجسدين دون اللمس ودون تذوّق العُسيلة ، يزيد من فداحة الأمر في اللوعة والحرمان والعطش والحب الذي يَعرَم في تقادم السنين ، حب بلداننا في النظرات فقط ، وحتى هذه يشوبها الخوف والخجل ، بينما في الدنمارك الكثير من الفتيةِ والفتيات يتضاجعون في حمّام المرقص ، الحمام الذي هو الآخر يثير الجنس ليس كما في بلداننا حيث البول على الأرضية ، وقذاراته التي لاتطاق ، بل هو أنظف من أعظم بيوت الساسة العراقيين السرّاق ، بل هناك موسيقى هادئة ( مونامور مثلا) ، فمن خلال ذلك حتما سوف تكون السعادة المنشودة هذه مع كؤوس الخمرة تؤدي الى فعل الجنس والأورجازم في هكذا أماكن .
ثم تبينت الأمور واضحة لدى مبدر في خطورة بقاءه في العراق ، إذ رآى كيف ان رجال الأمن سحبوا رجلا من البار بالقوة ورموه في حوض الحقائب للسيارة وانطلقوا به أمام مرأى الجلاّس . البار هو المكان الوحيد لذي يلجأ له المحرومون من كل شئ ، من الحب ، من التسلية ، من الحرية, البار الذي يجمع الفقير والثري والغبي والذكي واليساسي والمندس والنادل والسيد والمتملق والمنافق الذي يصلّي صباحا ثم يسكر ليلا ويعربد. الخمرة تعطي إجابة سريعة لكل تساؤل محير مرتبك خارج المألوف ، هاهو مبدر يفكر بنجاة لربما لها علاقة بصديقه عبد الرحمن حيث يقول 🙁 لعنتُ رشح الخمرة الذي ينساب متسللاَ لمخدع الروح ، ليطلق سراح التشككات متنقلة بعربات التحسس الرمادي ، وقلتُ هذا يكفي لئلا تستحيل نجاة فتاة فاجرة وأمي إمرأة عاهرة ويغدو البيت منفى والمدينة قبرا) ، ولذلك نرى الخمرة تتوقف عند حد معين حين تعطي الأجابة الشافية ويرتاح الضمير بدوائها .
مالذي جناه مبدر من ذلك الوطن الذي حتى في أجمل سنين العمر وهي المرحلة الطلابية تراه خائفا مرعوبا من مدرّس شريف( ناهض) لأنهم يحذرونهم منه لكونه الشيوعي الذي جاء نقلا من كركوك نتيجة ميوله الشيوعية فانه كافرا ملحدا بينما هو الذي دلّهم على العمالقة من لوركا وبوشكين ، كيف سقينا الفولاذ وبناءا على نصيحته كانوا يتابعون بطلها (بافل) الصغير ونهوضه في مسيرة العمال النضالية .

zaie_235678