السيمر / الأربعاء 04 . 07 . 2018
صالح الطائي
للمرة الثالثة يطل علينا زهير البدري من نافذة العتمة الأبدية وهو يحمل بيده مشعلا من جميل الكلمات، وباقة من المقطوعات الموسيقية العذبة التي تستشف من خلالها عتبا بين الإنسان والماء، بين البشر والبحر، دافعه الهرب من ضيق الحياة وعسفها وجورها وأخبارها التي توجع القلب، والخوف مما هو آت، حيث لا ضوء ولا نفق، سوى حلم يراود الخيال، يتعنت محاولا الظهور مع أنه مقيد بأغلال توجع الضمير، ذلك ما حاول البدري قوله؛ وهو يحكي قصة هذا الحوار، بل هذا العشق للمتوسط:
كلما أشعر بضيق
أهرب إليه وآخذ قسطا من الراحة
أرتمي في أحضانه
أطهر جسدي من
زمن العهر العربي
ومتاهات حرب البسوس
الممتدة من بغداد حتى طرابلس
دوت توقف
هو المتوسط
صديقي الذي لا يخونني.
البدري هذا الرجل الذي يدعو إلى محبة كل الألوان والأديان(ص: 65ـ66) الرجل الذي يعيش برتابة هادئة، المحتاج إلى كأس من حنين يروي به عطشه(ص: 97)، الثائر الحكيم الذي يرى أنه لا يكفي انتظار بزوغ الفجر دون أن نكون مستعدين لإشراقة يوم جديد(ص: 77) الرجل الذي وصف الغربة في حديثه مع صديقه حميد الزاملي: الغربة أرضة تقطعك من جذور الوطن الأهل من حيث لا تدري ولا ترضى(ص: 55)، هذا الرجل الذي عاش مطاردا مغتربا سائرا في الشمس الحارقة خوف أن يتهم بأنه يدبر مؤامرة ضد السلطان، كان يختزل القهر في زمن العهر بكلمات يحفظها في أعمق نقطة من كيانه، تحت تلافيف النسيان، في جب العتمة كي لا يتهم بالتمرد والعصيان أو التحريض على المتنعم بخير البستان والأوطان، وحينما شعر بفسحة من الانفتاح الفوضوي غير المقنن، بعد أضحوكة التغيير، قرر أن يشارك في الفوضى لا ليزيدها تغريبا ويباسا، بل محاولا ترطيب الأجواء وتهدئة اللعب، وحصرها في مكان ضيق عبر تلك الوريقات التي سطر عليها جمله وأفكاره، بعد أن اجترها على مضض من عمق ذاكرة اتعبها الزمان، وزحمة ما تنوء بها من هم السنين وآهات القهر السرمدي؛ ووجع كثير، وحيرة بلا اشتهاء ولا انتهاء ليعلن عن شاعريته من خلال ثلاث مجاميع، وكثير من القصائد المنشورة في مواقع التواصل وكأنه يعترض على ما يحدث، ولكن إما بأسلوب مؤدب ناعم سلس فيه الكثير من الليونة والمرونة وكأنه يريد أن يصنع عصفا ذهنيا يستنفر بواسطته طيبة الإنسان:
ماذا لو استبدلنا الطلقة بوردة
الكره بالحب
التطرف في التسامح
الحرب في السلم
الأنانية بنكران الذات؟
ماذا لو استبدلنا
الانتماء للقبيلة
والمذهب والعرق
إلى الانتماء للوطن
والشعب(ص:65)
وإما أن يلبس وجها حديديا صلبا خال من التعابير يبعث الرهبة في النفوس متقحم غير خائف ولا وجل، إلى درجة أن يصف الحكام الفاسدين بقوله:
أقسم برب الكون
أن العاهرات المسالمات
أشرف بكثير
من الساسة
الذين يبيعون الوطن
كخردة
في بازار الدول المجاورة
التي ما انفكت يوما
في تمزيقنا
وتدميرنا
وتصدير كل وسائل الموت إلينا(ص: 56)
زهير البدري إنسان عراقي شاب بمظهر شيخ، شاب الروح حكيم الرؤى يافع الحلم لا يختلف كثيرا عن العراقيين الآخرين الذين كانوا ولا زالوا مشاريع شهادة بسبب نزق الإنسان وغبائه وغروره وجهله، كان يصرح مخاطبا الذين سبقونا على درب الشهادة: انتظرونا سنلحق بكم قريبا، كلنا مشروع شهادة، ليست رغبة منا بالموت، هذا هو قدرنا، حكامنا أرادوا ذلك(ص: 17) ثم لا ينفك يخاطب حبيبة لا وجود لها سوى في خياله المثقل بالهموم: أنت ساكنة روحي، التقينا أم لم نلتق، راهب في عشقك مثل بوذي منغمر(ص: 16) يسابق الأيام التي تجري سراعا تاركة آثارها عليه: يمضي قطار العمر مسرعا في محطات الحياة تمر السنون كالبرق تترك آثارها على جسد متهالك، روح أنهكها الوجع(ص: 19) ولا ينسى أن يعلن للسائرين عما ينضوي عليه وجدانه من ذكريات الزمن الطويل: اتخذْ القرار بنفسك حين يغادرك المنافقون، كن حليف نفسك، لا تكن مفترسا أو وديعا، كن كما عاهدت نفسك، أرق من النسيم العليل وأصلب من الماس(ص: 23)
حوار مع صديقي المتوسط مجموعة نصوص نثرية وومضات، تمتد على مدى 116 صفحة لتحكي لنا أسطورة زمن لم يفارق ذاكرتنا الصدئة منذ طوفان نوح، صدرت عن دار المثقف للطباعة والنشر البغدادية، وهي باقة أزاهير ربيعية يفوح ضوعها على مدى العراق.