السيمر / الأربعاء 16 . 12 . 2015
هايل المذابي* / اليمن
ثمة أدب جماهيري، يسعى لإرضاء القراء، و يكتفي بذلك، و ثمة أدب رفيع، يسعى لإثراء المكونات الداخلية للجنس الأدبي، و بينهما جدل واسع، و من الأدب الجماهيري، ” أدب الرعب”، الذي لم يدخل حيز دائرة النقد الأكاديمي التطبيقي، حتى اللحظة، بسبب احتكامه إلى الجماهير، و الاكتفاء بإرضائهم..
ماذا يمكن القول، عن تجربة، تجمع بين إرضاء الجماهير، و إثراء المكونات الداخلية للجنس الأدبي، في آن؟!.
هكذا يمكن وصف مجموعة ” الدخلاء ” القصصية للكاتبة الجزائرية سارا النمس الصادرة عن دار فضاءات بالأردن عام 2013 وتضم ست قصص تجمع بين الأدب الرفيع والفنتازيا السوداء..
في هذه المجموعة التي يطالعنا عنوانها بانفتاحه على عوالم واسعة، من الإشارات، والدلالات، لا تفصح عن نفسها، إلا بعد قراءة المجموعة، شرط ألا يخبرنا أحد، أنها تزاوج بين السرد الرفيع، و الفكرة الممتعة، عدا ذلك تناص عجيب، مع أشهر قصص الرعب في العالم، لكن هذا التناص، يشبه أن تفتح نافذتك، و تسمح لكل رياح الأرض، أن تهب على بيتك، دون أن تأخذك، أو تتأثر أشياء بيتك، أو تهتز لها جذورك، لكن تلك الرياح تضفي على أجواء منزلك، نسيماً ساحراً، لا يشوه معالم البيت، بل يزيده بهاءاً، وبريقاً..
هذا النوع من التناص اسميه ” تناصاً متسامحاً”..
القصة الأولى في المجموعة، التي تضم 6 قصص، تحمل عنوان ” القطة سيدة البيت “، تذكرك بقصة شهيرة لأشهر كتاب الرعب، في العصر الحديث، هـ. لافكرافت، وتحمل عنوان ” الجرذان في الجدران”، و قد تبادر إلى ذهني، أن الكاتبة تعمدت ذلك، في الفكرة ذاتها، كونها تشكل قالباً يبدو مألوفاً للقارئ، سوى أن الاشتغال على القصة، اشتغال سردي رفيع، و ذو بناء رصفت أحجاره، بعناية وإحكام..
في القصة الثانية وقد حملت القصة اسم ” إنتحار شاب طموح” نجد أسطورة “إيكاروس”، فإيكاروس في الأساطير الإغريقية، يحاول أن يطير بجناحين من الشمع، تذيبهما الشمس، أثناء طيرانه، و بالمثل نجد بطل القصة لسارا، “هشام” يفعل ذلك، فتفضح طموحه فكرة الانتحار، و تتصدى لها عبر ” هندسة غير أرضية ” كما يسميها لافكرافت، و ” الدخلاء ” كما تسميهم الكاتبة سارا.
أما في قصة ” في غياهب الشهوة ” فكان الدخيل في هذه المرة مختلف، و يشبه أن يعيش أحدهم داخل سجن، فناء السجن محكوم بإضاءات وكاميرات عديدة، تجعل السجين يفكر فيها طوال الوقت، و بعد حين يصبح رقيباً على كل ما يفعله، فلا يفكر في الخطأ مطلقاً، فالرقيب يعيش في رأسه، و يلازمه، و حين يغادر السجن، تحاصره لعنة الكاميرا والإضاءات المتحركة، و في قصة سارا نجد أن الفتاة “هند ” تلاحقها لعنة الضمير، و العادات والتقاليد، و قد حددت الكاتبة موطن القصة، و هو شمال اليمن، كأكبر دلالة على أكبر مكان قد تسيطر عليه العادات و التقاليد، فيما يخص المرأة، في العالم، فحتى عندما لا يراقبها أحد لتفعل ما يحلو لها، تجد رقابة العادات والتقاليد، تفعل بها العجب، و تعيش معها في رأسها، و تعاقبها أيضا في غياب العائلة، و القبيلة، و بشكل لا يصدق.
و ربما كان الدخيل في هذه القصة، هو الشعور بالذنب، و الشعور بالذنب نوع من أنواع التحول، تحول الذهن إلى قاعة محاكمة، شرطة، و متهم، و نيابة، ولائحة إتهام، ومحامٍ، ومدعٍ، وشهود، وقضاة… أشبه برواية المحاكمة لـ ” كافكا”.
الرعب في هذه القصص ليس من أجل الإمتاع، بل يصور الحياة، و رعبها، بكل ما تحتويه من أفكار، أو اسميه بما تحتويه من كاتلوجات، للعادات و التقاليد، و الثقافة السائدة في المجتمعات العربية، سياسياً، و اقتصادياً، و إعلامياً، و ثقافياً، و اجتماعيا.
حين تكتب سارا، تلتقي في طريقتها السردية، مع الفلاسفة حين يذهبون من العام إلى الخاص، أو من الكلّي إلى الجزئي، و تشبه هذه القصص أيضاً في بناءها العام بناء القصيدة الجاهلية “المعلقات” لولا أن المعلقات لها وحدة عضوية و ليس لها وحدة موضوعية، في حين أن الوحدتان العضوية والموضوعية موجودتان في قصص سارا..
الدخلاء في قصص المجموعة الست، ليسوا سوى معادِلات موضوعية، فالرعب ليس غاية و إنما وسيلة، و بهذا يكون قد تحقق التجريب الأول للكاتبة، من حيث مزاوجتها بين إغناء المكونات الداخلية، لغوياً، و فلسفياً، ثم إضافة عنصر له عشاقه و محبيه، و هو ثيمة الرعب.
إيقاع قصص المجموعة السردي متناغم جدا، والحبكة مدروسة بعناية، أما الراوي فقد اتخذ عدة أشكال، و هو تجريب آخر إلى حدٍ ما، فحيناً تستخدم القاصة تقنية ” الراوي البطل/ السارد العليم” وحيناً تقنية ” the first observer “، و حيناً تقنية ” الراوي المشارك”، وحيناً “الراوي الراصد”، و حيناً تزاوج بين وظائف أولئك جميعاً في شكل واحد، يمتزج كلياً مع ثنايا اللغة، و مبنى القصة عموماً ليصنع هالة جمال وإدهاش واسعة و إلى حد الخوف.
تلك التقنيات السردية خاصة بالرواية الحديثة و التجريب الآخر للكاتبة عدا تجريب المزج بين تقنيات السرد هو الشكل السردي للقصة فهو يقترب إلى حدود الرواية بما تقدمه القاصة من تفاصيل في الجزء الأول من القصة لتنتقل بك بطريقة الرواية من ثم إلى عالم خاص يشبه أن يتحدث أحدهم عن أوهامه ويلزمنا جميعا أن نحترم تلك الأوهام، وقلّما تخلو بقعة من بقاع المعمورة منها و الشغف و الاستمتاع بها فحتى الأشياء التي لا يفهمها العالم يصفق لها.
لقد قدمت الكاتبة صورة كاملة للشذوذ النفسي الذي قد يعانيه الناس من خلال أبطالها الذين ليسوا سوى نموذج له امتدادات واسعة في الحياة و تمثّل هذا الشذوذ النفسي في عقدة المازوكية التي يعانونها، فلا أحد منهم ترك ما يؤرقه، بل كان متلذذا بما يعذبه و يرعبه، رغم رؤيته لعلامات كثيرة تحذره، كما في أول قصة ” القطة سيدة البيت ” وقصة إنتحار شاب طموح”، و هي ذاتها العقدة النفسية التي يعانيها قراء و عشاق أدب الرعب، فرغم خوفهم من عالم ” الدخلاء ” إلا أنهم لا يجدون اللذة و المتعة إلا في هذا العالم.
النهايات التي تختارها الكاتبة سارا لأبطالها متفائلة، و جميلة، و ليست مأساوية، كما هو حال أغلب قصص الرعب وأفلامها، فيبدو الأمر وكأن الرعب في القصة له مهمة إيصال رسالة فقط.
آخر ما يمكن قوله عن المجموعة الجميلة المرعبة ” الدخلاء” أن الجمال الذي وجدته فيها يشبه الجمال المخيف الذي تحدث عنه إيمانوئيل كانط حين قام بتصنيف طبقات الجمال ومراحله جانحاً بالنفسي مجنح الرياضي مصنفاً ” الحلو، الحسن، الجميل، الجليل”، الأول يُلِّذُ والثاني يُسرُّ و الثالث يبهج والأخير مخيف..
كيف يصبح الجميل مخيفاً؟!
يقول جوته :” ربما استطعنا أن نتحمل الجمال الذي يرعبنا بسموه وأبعاده”..!!
عندما نتأمل الجميل نفرح له، ونتمنى امتلاكه، لكنه عندما يكون كثيفاً، متعدداً، متنوعاً، فإنه يُشعرنا بالفوات، و العجز عن اللحاق به، فنأسى لأن الزمن، الذي هو عنوان الفناء، سيمحو الفرصة التي نعاود بها الجمال الجليل، فنشعر أن بيننا وبينه هوّة الموت .. فنرتعدُ فرقا..
*أديب وناقد يمني