السيمر / الجمعة 08 . 02 . 2019
رواء الجصاني
ليس بالضرورة ان تكون قراءة التاريخ، وتوثيقه، دعوة للثأر او الاثارة دائماً، ولكن ذلك قد يكون بهدف التنبيه والتأشيرعلى الاقل، لكل الذين لا يعون، او الذين لا يريدون ان يستفيدوا من تجارب ووقائع الحياة، واحداثها، بحسب الجواهري الخالد، في بيته المدوي: ومن لم يتعـظْ لغـدٍ، بامسٍ، وان كان الذكيّ، هو البليدُ ولا ندري – بل وربما ندري، ونتعمد خلاف ذلك! – كم نحتاج، وسنحتاج، اليوم لفهم وتبني تلكم الحكمة الجواهرية في عراقنا المعاصر، وثمة مخلصون و”طيبون” وغيرهم ممن يدعون – بدون ضوابط – للتسامح ونسيان الماضي، ولربما انهم ما برحوا مأخوذين بذلك الشعار الشهير: عفا الله عما سلف، الذي تبناه زعيم الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم، طوال تفرده بالسلطة، حتى راح من عفا عنهم يسوقونه اولاً، مع ابطال نجباء، الى محرقة البعث الاولى، يوم الثامن من شباط عام 1963 الذي نكتب هذه السطور بمناسبة ذكراه السنوية السادسة والخمسين التي تمر هذه الايام.. وان كانت الغرابة لا تثيرنا كثيرا حين يتحدث العامة عن “ضرورات التسامح” و”أهميات الالفة” و”حسنات النسيان” … دعوا عنكم الغفران . ألا ان الغرابة تثيرنا وبلا حدود حين يتحدث بذلك الاتجاه، سياسيون ومثقفون، ديمقراطيون – أو هكذا ينبغي- بطيبة مرة، وعن قصدية مبتغاة، لمرات ومرات، وبدعاوى “الوطنية” وشعارات مكرورة مثل: “الاهم قبل المهم” و”العدو الاشمل” و” المؤامرة ضد الامة” … و ما الى ذلك من مشابهات ومزايدات، لسنا في حال التصدى لها في هذه الكتابة على الاقل . وبذلك الاتجاه الذي تعمدته السطور السابقات، اي للوقاية والاحتراز من الطيبة الزائدة، نسعى هنا لتحفيز الذاكرة – وذلك اوسط الايمان – من خلال اجتزاء شهادات تاريخية وثقتها بلقيس عبد الرحمن، زوجة الشهيد العميد، وصفي طاهر، احد ابرز اقطاب ثورة / حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي اطلقت الجمهورية العراقية الاولى، وحتى اغتيالها في الانقلاب البعثي الاول في شباط الاسود عام 1963 (*). *عشية الانقلاب المشؤوم تكتب بلقيس، زوجة وصفي طاهر، وهي شاهدة عيان ما نصه: “بتاريخ الأربعاء 6/2/1963 اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم هاتفياً بوصفي طاهر، ليلا، وطلب حضوره الى مقره بوزارة الدفاع، فأسرع ليرتدي ملابسه، ويتوجه الى هناك على الفور، وبقي الى صباح اليوم التالي – الخميس 7/2/1963. وحينما عاد، قال لي: “لقد اطلعني الزعيم على قائمة بأسماء الضباط الذين يدبرون مؤامرة ضد الثورة، واكثرهم من البعثيين”… وقد أجابه – وصفي: “وماذا تريدني ان اعمل وانا ليس لي غير مسدسي؟! سأنزل الى الشارع مع الشعب واقاتل”… فردّ عليه قاسم: “لا تتكلم هكذا؟ فأنا سأسحق المتآمرين، ولن ادع اية مؤامرة تمر”. فقال له وصفي: “ليكن في علمك ان المعادين للثورة من الرجعيين وغيرهم، التفوا حول البعثيين، ومعهم اذناب الاستعمار، والقوة كلها سلمتها لهم، في ذات الوقت الذي جرى فيه ابعاد المخلصين من الضباط، وحتى الجنود، عن المراكز المهمة، وانا – وصفي – وغيري من محبيك، نتوقع كل ساعة ان تحدث مؤامرة، ولكنها ستكون هذه المرة حالة كبيرة لا نعرف نتيجتها، وربما تنجح، وعندها سينتقمون من كل مؤيديك والجمهورية”. … اما الزعيم فقد اجابه: “اطمئن، الجمهورية قوية والشعب قوي، وسوف ترى كيف سأقضي على المتآمرين”. فقال له وصفي: “انت المسؤول عن سلامة البلاد والشعب، ويجب ان تأخذ حذرك، ولا تصدق لاحقاً كلام المنافقين””… *صبيحة اليوم الاسود وتستمر “بلقيس” في ذكرياتها المخطوطة، فتقول: “في صبيحة يوم الانقلاب المشؤوم (الجمعة 8 شباط 1963) كنا نشاهد التلفزيون على الفطور، فاتصلت بنا احدى الصديقات لتنقل لنا بأن خبراً يُذاع من مأذنة جامع المأمون، غرب بغداد، التي تسكن قريباً منه، يقول بان هناك ثورة ضد الزعيم عبد الكريم قاسم… فأرتدى وصفي ملابسه فوراً، ليخرج الى حيث يقيم الزعيم، وكان معه 90 ديناراً أعطاها لي. ولما وصل الى هناك اتصل بنا وقال لا تبقوا في البيت، لأن المتآمرين هجموا على بيت العقيد فاضل عباس المهداوي (رئيس محكمة الشعب). وقد ذهبنا فعلاً الى بيت اقربائنا… وفي اتصاله الهاتفي الأخير معي، قال لي: نحاول السيطرة، وكوني شجاعة”. * الانقلابيون يستولون على السلطة في صفحات عديدة من ذكرياتها، تكتب بلقيس عبد الرحمن، خلاصات عديدة عن الانقلاب المشؤوم في ساعاته الاولى ومنه: “حين وصل وصفي الى بيت عبد الكريم قاسم، وكان قريباً من بيتنا، اتصلوا في الهاتف بمعسكر الرشيد، وطلب منهم الزعيم ان يخمدوا الفتنة، ولكنهم كانوا يسخرون منه ويشتمونه… وقال وصفي لعبد الكريم – بحسب شهود عيان – هذه نتيجة أخطائك وهذا ما كنا نتوقعه، فأجابه: “ليس الآن وقت ملامة يا وصفي، تعالوا معي الى وزارة الدفاع لنرى، ونتصل بالقطعات العسكرية الاخرى”، وهكذا ذهبوا جميعاً الى هناك، وقد كان في مقر الوزارة نفسها معادون، الى جانب الضباط والمراتب المخلصين هناك… وتضيف بلقيس: “كان وصفي قد أبعد العسكريين المعادين للجمهورية من كتائب الدروع، وعيّن المؤيدين بدلهم، احترازاً مما قد يحدث. فقد كان المتآمرون قبل ان يقوموا بأي شيء، يحسبون لقطعات الدروع الف حساب، لذلك اوهموا عبد الكريم قاسم بان وصفي، ومؤيديه، ومعه الحزب الشيوعي، سيقومون بانقلاب عسكري ضده، ويتسلمون الحكم. وقد صدقهم، بل راح يشكّ حتى بوصفي، فكلّف أجهزة الامن بمراقبته”. وفي سياق ذي صلة، تنقل بلقيس أيضا، عن وصفي طاهر ان العميد الطيار جلال الأوقاتي، قائد القوة الجوية، كان مراقباً أيضاً بحسب اوامر الزعيم قاسم، لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، ومن قبل قيام ثورة 14 تموز. وقد استقال من الخدمة العسكرية في العهد الملكي، وفي اول يوم من الثورة عيّنه عبد الكريم قائداً للقوة الجوية، باقتراح من وصفي، وقد كانا أصدقاء، ويحملان أفكاراً ديمقراطية، ولذلك فان المتآمرين وقبل ان يقوموا بأية خطوة ساعة انطلاق تحركهم في 8 شباط 1963، نفذوا عملية اغتيال جلال الأوقاتي، وقد كانت تلك ساعة الصفر للانقلاب المشؤوم”… * توثيقات عن الساعات الأخيرة مثلما كانت هناك العشرات من “الشهادات” و”الاجتهادات” و”التوثيقات” بشأن تأرخة شؤون التهيئة لثورة 14 تموز 1958 وتنفيذها، ومسيرتها، ومن ثم الاجهاز عليها في 8 شباط 1963… ظهرت “شهادات” و”اجتهادات” و”توثيقات” بشأن مصرع وصفي طاهر واستشهاده، مدافعاً عن قناعاته ومبادئه… وتكتب بلقيس في ذكرياتها – مذكراتها التي تركتها مخطوطة قبل رحيلها عام 2001: علمت بعد شهور من انقلاب شباط الاسود، ومن احد العسكريين المرافقين واسمه نعيم سعيد، بأن وصفي طاهر ذهب مع عبد الكريم قاسم الى مقر وزارة الدفاع في باب المعظم، وكان يعاتبه بشدة ويقول له، “هذا ما حذرتك منه”، وكان الأخير يردّ: “ليس وقت هكذا حديث الآن”. وحينما اشتد القصف على الوزارة، وكان وصفي يتصدى للانقلابيين، طلب من مرافقه وسائقه، ان يخلّصا نفسيهما ويتركاه لوحده، فهو سيدافع عن الثورة الى اخر قطرة من دمه، وذلك ما كان بالفعل. وبعد بضعة عقود، وفي 2007 تحديداً، يُعرض برنامج تلفزيوني ببغداد، بمناسبة الذكرى السنوية للانقلاب الفاشي، ويتحدث فيه أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، فيؤكد أن وصفي طاهر طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة، ونفاد الذخيرة، قائلاً لهما انه هو المطلوب أساسا من الانقلابيين، وحينما استدارا، وبعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلق ناري، انهى بها وصفي طاهر حياته. وهكذا يتخذ وصفي طاهر القرار، كما قرر، وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، بأنه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة، وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه… وبحسب المتحدث، نعيم، في البرنامج التلفزيوني الذي جرت الاشارة اليه في السطور السابقة، فانه، وفيصل، مددا وصفي طاهر، واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف والموثّق، كيف عرض تلفزيون بغداد، الذي سيطر عليه انقلابيو 8 شباط جثة وصفي طاهر، وبأسلوب حاقد ولئيم، لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين للانقلاب في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية. ——————————————- (*) شهادات بلقيس عبد الرحمن مستلة من مؤلًف: ” وصفي طاهر.. رجل من العراق” – كتابة وتوثيق: رواء الجصاني ونضال وصفي طاهر، الصادر عام 2015 بطبعتين عن: بابيلون للثقافة والاعلام – براغ، ودار الرواد المزدهرة – بغداد .