السيمر / الثلاثاء 12 . 01 . 2016
د . صادق اطيمش
في الحقيقة ينبغي تسليط الضوء بشدة على هذا القسم من الموضوع باعتباره يتناول الوضع المزري الذليل الذي تمر به المجتمعات العربية والإسلامية مما جعلها تلهث وراء فضلات الآخرين في كل ما يخص شؤون الحياة الحضارية في القرن الواحد والعشرين. وتتبلور هذه الأهمية من خلال الأحداث التي تشهدها مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، بل والعالم اجمع، والتي يشكل محورها الأساسي بعض التوجهات الدينية الإسلامية التي دخلت العمل السياسي بلافتات وشعارات ظاهرها ديني وباطنها سياسي، اي خليط سيا ـ ديني. لا ضير من ذلك إذا ما توفرت لدى هذه الأحزاب السيادينية سياسة واضحة مُبرمَجة تعكس بعض الواقع الذي تعاني منه مجتمعاتها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى دينياً. ولا ضير من ذلك ايضاً إذا ما انتهجت هذه القوى السيادينية الوسائل المُباحة في العمل السياسي المبني على القناعات الذاتية البعيدة عن العنف والتسلط الفكري. إلا ان الواقع المعاش اليوم في جميع هذه المجتمعات وما يرتبط به من وقائع تاريخية وما تمخض عنها من ممارسات جعلت القوى التي مارستها تواجه الكثير من الأسئلة التي يطرحها الإنسان المعني بالأمر والباحث عن الحلول الناجعة لمشاكله اليومية التي لم يتوقف ازديادها يوماً بعد يوم. وفي مقدمة هذه المشاكل الربط المحكم الذي بلورته بعض التوجهات الإسلامية بين الإسلام والعنف حتى اصبحت مفردة العنف والإرهاب وكأنها سمة الدين الإسلامي وتابعيه جميعاً دون إستثناء، إذ ان البعيد عن هذا الدين لا يمكنه ان يميز بين اطرافه المتناحرة التي يذبح بعضها بعضا. العنف الذي لا يمكن ان ينسجم مع اي خطاب يدعو إلى الحرية واحترام الراي الآخر، مهما كانت طبيعة هذا الخطاب الذي تبنته قوى الإسلام السياسي على مختلف فصائلها وبأساليب شتى.
لقد استطاع الإسلام السياسي من خلال استغلال وتوظيف المشاعر العاطفية لدى كثير من الطبقات الجماهيرية، التي لا ينقصها الخبز فقط، بل والعلم ايضاً ، من نشر فكرة الحاكمية الإلهية التي اراد بها الوصول إلى قمة السلطة السياسية والتحكم بمصير المجتمعات التي وعدها باللبن والعسل في الدولة الإسلامية المزعومة. وهنا بالضبط جرى، وعلى مر العقود من السنين، إستغفال المجتمعات بالتلاعب بالسياق اللغوي للنص الديني الإسلامي من خلال ما اطلق عليه فقهاء السلاطين آيات الحكم في سورة المائدة والتي تنص على ما يلي:
“سمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)”
يتعامل مشايخ التخلف وفقهاء الإسلام السياسي بغباء عميق وكذب مقيت مع هذه النصوص حينما يختلقون سياقات لغوية مظللة يصفونها بانها مستلة من السياق اللغوي الذي تتضمنه هذه الآيات. وقد ينسجم هذا الفهم مع ما اجاب به ذلك الإعرابي حينما سؤل : لماذا لا تصلي ؟ فأجاب ولماذا اصلي والله يقول في قرآنه ” لا تقربوا الصلاة ….” كما انه (اي الله) يهدد المصلين بقوله لهم ” ويل للمصلين … “. ومشايخ الإسلام السيسي وفقهاؤه يركزون على نهايات الآيات 44 ، 45 اعلاه مكررين الجزء الأخير منها فقط في كل مناسبة تتاح لهم والمتضمن ” …. ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ” “… وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.”جاعلين من انصاف الآيات هذه قواعد اسلامية تؤسس لطبيعة الحكم السياسي في الدولة الإسلامية التي ينشدونها، يعكسها شعارهم ” لا حاكمية إلا لله ” الذي اصبح من ثوابت اهدافهم في كل المناسبات التي يلتقون بها مع الجماهير. إنهم يتناسون او يتجاهلون عن عمد بأن هذه النصوص لا علاقة لها بالإسلام البتة، حيث ان سياقها اللغوي يدل على مخاطبة تابعي التوراة وليس تابعي القرآن. وحتى لو فرضنا بان ذلك ينسحب على تابعي القرآن ايضاً، فإن تلاعبهم بالمعنى اللغوي لمفردة ” الحكم ” في هذه النصوص يشير إلى الدجل والكذب الذي يمارسونه على التابعين لهم والجاهلين بمضمون نصوصهم المقدسة. فمفردة الحكم لا تعني هنا الحكم السياسي الذي تقوم عليه الدولة، بل انه يدل على الحكم القضائي بين الناس وليس حكم الناس الذي لم يتناوله القرآن على صيغة دولة في اي من نصوصه، كما يشير إلى ذلك كثير من بعض الفقهاء المتنورين.( من المفيد في هذا المجال مراجعة كتاب الإسلام السياسي للقاضي الأزهري محمد سعيد العشماوي، الصادر في القاهرة عن دار مدبولي الصغير عام 1996، وكتاب : الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة، للشيخ الأزهري جمال البنا، الصادر في القاهرة عن دار الفكر الإسلامي، عام 2003، وكتاب : الإسلام واصول الحكم ، للشيخ الأزهري علي عبد الرازق الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية ، عام 1988).
وهناك كثير من الأدلة التي تشير إليها نفس هذه الآيات والتي تبين ان المقصود بمفردة الحكم هنا هو الحكم القضائي وليس السياسي، ومنها :
“ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( المائدة42) ”
وهذا يعني الحكم بين الناس بالعدل وليس حكم الناس، مما يشير إلى الحكم القضائي وليس السياسي. كما يربط السياق اللغوي للآية 45 من الآيات اعلاه مفردة الحكم الواردة فيه بعقوبات قضائية كالعين بالعين والسن بالسن ليجعل هذه الأحكام القضائية قاعدة للكحم بين الناس في المنازعات الحقوقية. وهناك الكثير من الآيات القرآنية الأخرى التي تشير إلى القصد القضائي من مفردة الحكم هذه كالآيات : الآية 87 من سورة الأعراف، الآية 56 من سورة الحج ، الآية 69 من سورة الحج على سبيل المثال). كما اشار النص القرآني إلى معنى آخر لهذه المفردة حينما ربطها بإحكام الآيات القرانية التي ترتب عليها تصنيف آيات القرآن إلى محكم ومتشابه ، كما تشير إلى ذلك الآيات 52 من سورة الحج ، و الآية 1 من سورة المائدة.
واستناداً إلى تفسير وتأويل شيوخ الفتنة من فقهاء الإسلام السياسي صار توظيف العنف مرافقاً للشعارات التي ينادي بها هؤلاء امام جماهيرهم التي تصرخ ” لا حكم إلا لله ” كواحد من الشعارات الأساسية التي تبناها الإسلام السياسي للدعوة إلى دولته الوهمية المنشودة ( للإستزادة في هذا الموضوع يمكن مراجعة مساهمتنا المعنونة : رثاثة الشعار ووهم الدولة في فكر الإسلام السياسي، في كتاب ” الرثاثة في العراق … اطلال دولة … رماد مجتمع ” تحرير فارس كمال نظمي، الصادر عن دار ميزوبوتاميا ، بغداد عام 2015).
وحينما استطاعت بعض قوى الإسلام السياسي الإستيلاء على السلطة السياسية فعلاً في بعض المجتمعات الإسلامية، لم تجنِ منها هذه المجتمعات غير الدكتاتوريات السياسية في ايران والسودان والسعودية ونيجريا وصوماليا وغزة ومصر. اما في تلك المجتمعات التي فشلت فيها احزاب الإسلام السياسي من الوصول إلى السلطة او الإستمرار فيها، فإنها وظفت العنف والإرهاب لتنتقم من المجتمع الذي ابعدها عن كرسي السلطة كما في الجزائر وافغانستان ومصر مثلاً. بالمقابل من ذلك فقد فشلت القوى السياسية العاملة خارج اطارات تنظيمات الإسلام الساياسي في المجتمعات الإسلامية من تحقيق ما تتطلع إليه الجماهير من نقلة نوعية في الأوضاع البائسة التي تعاني منها على مختلف الأصعدة. والدكتاتوريات المتعددة التي نشأت من خلال توجيه هذه القوى لسياسة الدول التي تحكمها والتي تمثل الإستبداد من دكتاتورية العائلة الحاكمة، او دكتاتورية العسكر، مروراً بالدكتاتورية الدينية.
لقد اصبح توظيف العنف من قبل احزاب ومنظمات الإسلام الإسلام السياسي ليس فقط لتمرير تأويل النص كما يشتهيه فقهاء التخلف، حتى وإن خلى هذا النص من التصريح بالعنف، كما رأينا اعلاه في آيات الحكم، بل اصبحت مسألة إصرارهم على وجوب تنفيذ العنف شرعاً حينما يكون قد ورد فعلياً في نص من نصوصهم، بغض النظر عن السياقات التاريخية واللغوية وحتى الدينية التي كانت تقف وراء هذا النص ، اصلياً كان ذلك ، كما في النصوص القرآنية او فرعياً كما في تفاسيرهم وشروحاتهم التي تجاوزت حجم القرآن بعشرات المرات واصبحت المرجع ألأساسي، بل البديل للنص القرآني احياناً، كما في ممارسة عقوبة الرجم مثلاً التي لم تنص عليها اية آية قرآنية.
وللحديث صلة في القسم الرابع والأخير من هذا الموضوع.
مقال ذو صلة :
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الثاني
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الأول ـ