الرئيسية / مقالات / الجواهــري … ربع قـرن من اللواعج، والتصدي (1961-1985)

الجواهــري … ربع قـرن من اللواعج، والتصدي (1961-1985)

السيمر / فيينا / الاربعاء 14 . 08 . 2019

رواء الجصاني*

أحسبُ بأن الرؤية التي تقول بأن أذى وايذاء المثقفين والمبدعين في اوطانهم مؤشرٌ سوء لا يفحمُ على واقع وحال السطة الحاكمة، ومسار تلكم الاوطان، بل ومقياس لما هو كائن، وسيكون.. وأذا ما آمنا بذلك، فكيف ستؤول اليه الامور حين يُضطهد ويهضم، ويعاني رمز البلاد الثقافي، وأهم عناوينها الأبداعية، ونعني بذلك محمد مهدي الجواهـري (1899-1997) … مع اهمية الاضافة هنا الى الأدوار التي يتطوع لها، أو يكلف بها، وعاظ واتباع السلاطين، وصحفهم وكتبتهم ومرتزقتهم، وكذلك الحسّاد والمتربصون، وأشباههم وهم ليسوا قليلين كما نعلم، وكما يعلمنا الشاعر الخالد نفسه، في قصائده طوال ربع قرن ..

    قلنا ربع قرن ونحدد ذلك بالفترة التي جاءت في عنوان هذه التأرخة (1961-1985) وهي فترة “حفلت” بها البلاد العراقية، خلال عهودها المتعددة، باللاديمقراطية والعسف والعنف، وبالانقلابات الدموية، والارهاب، والحروب الداخلية والخارجية، بكل تفرد و”تميّز” وتنوع، مقارنة باوضاع بلدان عربية ومجاورة، وغيرها مما عُرف بـ” العالم الثالث” بشكل رئيس. ودعونا الآن نوثق، ونؤرخ ما زعمنا به، وما ثبته الابداع الجواهري، ومنجزه الشعري، وفي تسلسل زمني، لربع قـرن ..

* في رافديه بلا نصيبِ

مع تعاظم رفعة ومكانة الجواهري، عطاء ووطنية، وانتشار وترسخ رؤاه التنويرية ومنظومته الفكرية، تعاظمت لواعجه من الجحود والاسفاف، ومن مواقف وتجاوزات “النخب” الثقافية والسياسية المتعصبة والمدعية، في العراق وخارجه… مما اضطره لشدّ الرحال مغترباً عام 1961 إلى براغ هذه المرة، متوقفاً في بيروت ليشارك في مهرجان تكريم الشاعر الكبير بشارة الخوري ببائية فريدة لم يدع مناسبتها تفوت إلا وكشف بعض ما تعرض إليه في العراق الجمهوري “الجديد” آنذاك، ومن بين ذلك اعتقاله “لأسباب سياسية وثقافية” وان ليوم واحد، برغم رئاسته لاتحاد الأدباء، وتزعمه لنقابة الصحفيين في البلاد، فقال مخاطباً المحتفى به:

أبشارة وبايما شكوى اهزك ياحبيبي…
هل صكَّ سمعك انني ، من رافديّ بلا نصيب ِ
في كربة وأن الفتى الممراح، فراج الكروب ِ
وزعتُ جسمي في الجسوم، ومهجتي بين القلوبِ

* أوَ صقرٌ طريدة لغرابٍ؟!..

  وفي براغ التي وصلها حديثاً، وفي احتفال أممي مهيب يلقي الجواهري قصيدة جديدة يبارك فيها نضالات طلبة وشبيبة العالم من أجل التحرر والديمقراطية… ثم يشكو لهم ما أصابه من عقوق في بلاده، وبأمثلة ووقائع مباشرة، كما يبثهم بعض لواعج الغربة التي يعيـش، والتي حسبها البعض مراداً، واستجماما لا مثيل له:

يا شباب الدنى وأنتم قضاتي ، في شكاة وأنتم شهودي
أنا في عزة ٍ هنا ، غير أني ، في فؤادي ينز جرح الشريد ِ
لي عتاب على بلادي شديد ، وعلى الأقربين جد شديد ِ
أوَ صقرٌ طريدة لغراب؟! ونبيغ ضحية لبليد ؟!…
يا لبغداد حين ينتصف التاريخ من كل ناكر وجحود …
بخلتْ ان تفيء الظلّ منه ، وحنتْ فوق كل وغد ٍ وغيدِ

* عادى المعاجم وغــدُ يستهين بها

… وإذ تطول الغربة، فتتراكم المعاناة من الجحود، يصدح الجواهري عام 1962 برائعته الشهيرة “دجلة الخير”، التي وثقت للبلاد مجتمعاً وتأريخاً وواقعاً، ومن بين ذلك ما يعني الشاعر العظيم، ويعاني منه:

جبْ أربعَ النقد واسأل عن ملامحها ، فهل ترى من نبيغ ٍ غير مطعون ِ …
عادى المعاجمَ وغدٌ يستهينُ بها ، يحصي بها “ابجديات” ويعدوني
شُلتْ يداك وخاست ريشة غفلتْ ، عن البلابل في رسم السعادينِ

* ومنغولٍ من التتار وغـدٌ..

وفي عام 1967، وحيث يعيش الشاعر العظيم هموم وشجون الاغتراب الاضطراري، يصدر احد “المفكرين” البارزين من وجهة نظر البعض، والمشكوك في عروبته وأصله وصلاح أفكاره، من وجهة نظر آخرين، يُصدر مذكراتٍ عن تاريخه في العراق، أعاد فيها سموماً طائفية خبيثة كان قد تقيّح بها منذ نصف قرن، ذلك “المفكر” نفسه، ضد الجواهري، الذي تصدى مواجهاً المعنيين بكل عنفوان، فقال:

سهرتُ وطال شوقي للعراق ، وهل يدنو بعيدٌ باشتياق ِ …
احبتي الذين بمن امني ، بلقياهم اهونُّ ما ألاقي …
ابثكم شكاة اتقيها ، فتصرعني وتمسكُ من خناقي
اغمزاً في قناتي من عُداة ٍ ، تناهشني ، وصمتاً من رفاقي …

ثم تثور القصيدة فينال ذلك المتجاوز، وربعه، ما يستحقون من أوصاف، مبرزة “بعض” الحقيقة لا كلها، وإذ نمتنع حالياً عن التصريح باسم المعني، نشير إلى أنه يعد أحد رموز الطائفية المقيتة التي جرى تأجيجها أوائل القرن الماضي، ومنذ بدايات الحكم الوطني في العراق تحديداً… وما أشبه الليلة بالبارحة:

ومنغول ٍ من التاتار” وغْد ٍ ، تراضع والوغادةُ من فواق ِ
إلى “يمن” إلى “حلب” تسمى ، إلى “مصر” إلى درب الزقاق ِ
وكل ضاق بالملصوق ذرعاً ، وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟
أوجه القرد ، أم خلق البغايا ، أم النعرات ، أم نذر ِ الشقاق؟
أم النسب المؤثل بالمخازي ، أم الحسب المسلسل في رباق ِ
ولما حمت الأقدار ألقت ، به جيف البطون إلى العراق ِ …
ليجمع حوله سفلاً تلاقى ، كما التقت الخفاف على الطراق ِ …
“زنامى” يعطفون على زنيم ، كما عطف الجناس على الطباق …
وما برح العراق محك صبر ٍ ، يطاق بأرضه ، غير المطاق
كأن غرائب الدنيا تنادت ، على وعد لديه بالتلاقي

* ..ومن خَتل ٍ رُميتُ وما خَتلتُ

… وخلال عام 1972 يعود عدد من تجار الوطنية والثقافة ليغمز من قناة الجواهري، بأنه يفضل المغترب البراغي على بلاده، فيوسمهم الشاعر العظيم في جباههم، وبما هم أهل له كما يرى، خاصة وان بعضهم ممن تساقوا معه ، وتساقىَ معهم المودة، وذلك ما آلمه بشكل مضاعف:

تقوّل ما يشاء خبيثُ طبع ، بُلوتُ طباعه حتى مللتُ
بأني حُوَّل ان اعوزتني ، على الملاّت اعذار ، احلتُ
معاذ الله … والخلق المصفى ، وحرة طينة ٍ منها جُبلتُ
ولكني وجدت الودَّ سوقاً ، يراد بها تجاراً فاعتزلتُ
فمن خَتل ٍ رُميتُ وما خَتلت ، وعن جبن خُذلت ، فما خَذلت
خبرتُ الناس والأيام حتى يدايّ كليلتان بما نخلتُ …

* ومساومين على الحروف كأنها تنزيل ذكر

ويعود الشاعر الكبير عام 1975 مدافعاً عن الذات والمواقف ضد أحد المتطاولين، العرب هذه المرة، بزعم ان الجواهري “قد سقط” في “مساوئ” المديح لزعماء وغيرهم، فردّ عليه – وأضرابه- برائية قالت مقدمتها انها “نُظمت، اثر تحرش بعض الكتاب المأجورين” ومما جاء فيها:

آليتُ ابرد حرّ جمري ، وأديلُ من امر بخمر ِ …
اليت امضي بالعيون سواحراً ، نفثات سحري …
وأصب في الأنفاس من خضر الربى نفحات عطري …
آليت امتحنُ الرجولة ، يوم ملحمة وعُسر ِ …
ومساومين على الحروف كأنها تنزيل ذكر …
شتان أمركمُ وأمري ، أنا ذا أنوء بثقل وزري …
شاخ الجواد ولم تزل تعتامه صبوات مهر ِ
طلق العنان فان كبا ، نفض العنان وراح يجري …
سبحان من جمع النقائض فيّ من خير وشر ِ
عندي كفاف حمامة ٍ … فإذا استثرت فجوع نمر

… وتسترسل القصيدة لتتحدث عن ذلك “المثقف” العربي، والذي يظهر اسمه تورية بين الأبيات التالية:

ومخنث ٍ لم يحتسب ، في ثيّب ٍ خيطت وبكر ِ
أقعى … وقاد ضميره ، ملآن من رجس ٍ وعُهر …
غال ٍ ، كأرخص ما تكون أجور غير ذوات طهر ِ
لم يُعل ِ قدري مدحه ، وبذمه لم يُدن ِ قدري …
من ذا يخلص امة ً ، أُخذت على طوع ِ وقسر ِ
من نفسها ، من آمر ٍ فيها ، ومن خَدم ٍ لأمر
مثل الموالي شرفت نسباً إلى “مضر ٍ” و”فهر”
يتملكون رقابهم ، ملك الجزور ليوم نحـر ِ

* فرميّت في قعر الجحيم سلاحي

وإذ يحل عام 1977 يحـاول بعـض متنطعي السـياسة والأدب تجـاوز قـامـة الجواهـري وبأنـه لـم يعـد يخوض المعارك “الوطنية” ويتخذ السكوت موقفاً! فيلجمهم مخاطباً وموضحا مبادئ ومنتقدا وقائع واحداث :

قالوا سكتَّ وأنت أفظعُ ملهبٍ وعي الجموع لزندها ، قداح ِ …
فعلام أُبدل وكر نسر ٍ جامح ٍ حرد ٍ بعش البلبل الصداح …
فأجبتهم: أنا ذاك حيث تشابكت هام الفوارس تحت غاب ِ جناحي
لكن وجدت سلاحهم في عطلةٍ فرميّت في قعر الجحيم سلاحي

* … وكظم الغيظ غيظٌ

   وفي عام 1980 يكتب نقيب الصحفيين السوريين صابر فلحوط “أبو عمر” رسالة في قصيدة، أو قصيدة في رسالة، موجهة للجواهري يسأله فيها أن يقول شيئاً في الأوضاع العربية السائدة، وما آلت – وما برحت بتقديرنا الى اليوم- فجاءت ميمية شاملة، وفيها أبيات غاضبة، منها:

“أبا عمر ٍ ” وكظم الغيظ غيظٌ وحسٌ مرهف داء عقامُ
أقول وقد برمت بدار ذل ٍشريعتها تساوم او تسام
صميم الضيم ان تمسي وتضحي وانت ترى ملاييناً تضام

وأفظعُ منه أن يُلوى فيعيا بنجدة صارخ حتى الكلامُ

* ولن انوح على موتى بلا ثمن

ويتسلم الجواهري عام 1980 رسالة من صديقه، الشخصية السياسية والوطنية العراقية – الكردية البارزة جلال طالباني، حملت الكثير من العواطف والذكريات والتساؤلات، مع تمنيات بأن يعلو “غناء” الجواهري في نضالات الشعب… فردّ الشاعر العظيم بقصيدة أطرتها الاخوانيات، ولكنها بيّنت حرصاً، وتحريضاً بالغ الشدة والقساوة، والتأكيد على أهمية الوحدة النضالية في مقارعة الارهاب السائد في البلاد آنذاك، وانتقاص الفرقة والاحتراب بين القوى الوطنية العراقية، وما آلت اليه، ثم تضاعفت لاحقا، وكأني بالجواهري الخالد يتنبأ بها وبوقائعها اللاحقة، وربما الى اليوم… ومما جاء فيها:

… من ذا اغني أأشتاتاً موزعةعلى التمزق ِ والثارات والمحن ِ
أم صابرين على ضيم ٍ ومسكنة ٍصبر الحمار على مرأى من الأُتن
أم “الطلائع” مزعومين شفهم وجدَ التجار بسوق الربح والغبن ِ …
فلن أغني بأعراس مهلهلة ٍولن انوح على موتى بلا ثمن ِ

* يخشى اللصوص فيذبح العسسا

ومن جديد “تعوي” ذئاب في العراق عام 1984 على الجواهري، وهو في غربته فيتصدى لهم في قصيدة عنونها إلى صديقه صلاح خالص، مذكراً – عسى ان تنفع الذكرى!- ومن أبياتها التي تتحدث عن بعض الهموم بصراحة، ودون حاجة لمزيد من الشروح:

… عوت الذئاب عليَّ ناهزة  فرصاً تثير الذئب مفترسا
ينهشن من لحمي وكل دم ٍ فيه لخير الناس قد حبسا
من كل داج ٍ لا يحب سنى ً للصبح يطمس ليله التعسا …
“أصلاح” أنا رهن مجتمع ٍ يخشى اللصوص فيذبح العسسا …
يُزهى بفارسه اذا افترسا وبضوء نجم ساطع طمسا

* برئت من الزحوف مجعجعات

وفي عام 1985، وتحت عنوان “برئت من الزحوف” يكتب الجواهري مقطوعة جديدة وفيها الكثير الكثير من مكنونات العتاب والشجون، والانتقادات، لبلاده ومجتمعه، وجماهير محبيه بالذات، والتناقضات والأزدواجية، الفردية – الشخصية، أو المجتمعية العامة-، نستل منها الأبيات التالية:

وسائلة ٍ أأنت تسبُ جهرا ، ألست محج شبان ٍ وشيب ِ
ألست خليفة الأدب المصفى ، ألست منارة البلد ِ السليب …
أقول لها ألا اكفيك عبئاً ، ألا انبيك بالعجب العجيب
لقد هجت اللواعج كامنات ٍ ، وقد نغرت بالجرح الرغيب
برئت من الزحوف مجعجعات ٍ ، تخلف سكتة الموت الرهيب
مباحٌ عندهنّ دمي لذئب ٍ ، ولا أسدٌ يبيح دماً لذيب …
أينهضُ مقدمي ستين ألفاً ، ينط بها البعيد على الغريب ِ
تـُـلقـف ما أصوغ لها وقوفاً ، تصيخ إلى صدى الحرف ِ الذهيب
ويُعمل أن امسح عنه طفلٌ ، كما مسح المسيح على الصليب
وانبذ بالعراء بلا نصير ٍ ، نبيل أو اديب ٍ أو اريب؟

* وأخيرا..

… نصل إلى خاتمة هذه الخلاصات  التي، وثقت لبعض لواعج ومواجهات الجواهري العظيم على مدى ربع قرن، من العطاء والشعر والمواقف الوطنية والخصومات السياسية.. وأستبق هنا  ملاحظات متوقعة بضرورة تفاصيل هنا، وإيجاز هناك، وسواء في القصائد التي جرى التوقف عندها، أو غيرها، مثل “ديوانيّ”: “يانديمي” و”مرحباً أيها الأرق” وميمية “قلبي لكردستان” وبائية “عبدة الجبورية” وعينية “صاحِ قلها ولا تخف” دعوا عنكمُ الوجدانيات والاخوانيات، وما بينها من غزليات وعائليات وفي جميعها على ما نظن “لواعج” و”مواجهات” عديدة، وان تنوعت صورها وأغراضها… بل ثمة نواحٍ، وزوايا ومجالات أخرى عديدة كان ينبغي التوقف عندها، أو الاشارة إليها على الاقل..

اترك تعليقاً