السيمر / فيينا / الخميس 19 . 12 . 2019
د. نضير الخزرجي
للنفس البشرية إقبال وإدبار، يظهر مؤشر صعودها ونزولها على قسمات وجه الإنسان التعبيرية، فيعرف إقبالها ببشره وبالعبوسة يستبان إدبارها، فتشتغل في الوجه عند الإبتسامة من 5 الى 17 عضلة فيما تشتغل عند التجهم 47 عضلة، هي كل عضلات الوجه التي تشكل تعابير الإنسان في حالاته الإنسانية المتنوعة، ولهذا يشعر المرء عند الإبتسامة أو الضحك بارتياح لتمدد عضلات الوجه فيما يسيطر عليه التعب عند التجهم والعبوسة وذلك لتشنج عضلات الوجه، وفرق كبير بين التمدد والتشنج، فالأول باعث على الإنبساط والإنشراح والثاني باعث على الإنقباض والإنزياح.
ومن طبيعة النفس البشرية السوية الميل الى الإرتياح وتحقيق مستلزمات ذلك، لأن الحياة ملعب كبير فيه لاعبون كثيرون مختلفون في مشاربهم ومنازلهم وآمالهم، وكل يريد نيل المعالي وبلوغ قمة الأماني، فبعض يتخذ سبيل الرشاد فلا يميل عن الحق ولا ينزو على حق الآخر، وكثير منهم يميل كل الميل عن جادة الصواب فيحصد في طريقه ما له وما لغيره، وهكذا تتضارب المصالح وتتقاطع وتنشأ المشاكل بغض النظر عن كبر حجم المجموعة البشرية أو صغرها.
وفي زحمة الحياة حيث يواجه المرء ما يسرّه وما لا يسرّه، فينزع بشكل فطري إلى تحقيق حالة التوازن النفسي رجاء تحقيق جو من البشاشة يرفل فيه، لإن الإنسان بما هو إنسان يمثل قطب جذب أو دفع وفقا لوضعه النفسي ومزاجه الشخصي، فإن انقبضت نفسه قبضت على جوانحه فاعتزل الناس أو اعتزلوه، وإن انشرحت نفسه أفلتت قيود جوانحه فعاشر الناس أو عاشروه، وحيث الإنبساط والإنقباض أمران حياتيان ملازمان للإنسان شاء أو أبى، فإن الوازع الأخلاقي يدعوه إلى عدم إظهار انقباضه لمن حوله لئلا ينشر ذبذبات الدفع السلبي في وسطهم، ويظل ممسكا بخيوط الجذب الإيجابي، وهذه الخلة والسجية هي في واقعها جزء من عملية الإمتحان التي يتعرض لها الإنسان في كل يوم، فالأب الإيجابي يظل بشره في وجه حتى وإن تعلقت أذياله في وحل مشاكل الحياة وذلك من أجل المحافظة على سلامة الأمن الأسري، والمدير الناجح يواجه إساءة الآخرين بابتسامة ويحافظ على رباطة الجأش.
وهذه الخِلَّة الجميلة في واقعها هي صفة المؤمنين وقد ورد عن الإمام علي (ع) قوله: (الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ، أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً، وَأَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً، يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ، وَيَشْنَأُ السُّمْعَةَ، طَوِيلٌ غَمُّهُ، بَعِيدٌ هَمُّهُ، كَثِيرٌ صَمْتُهُ، مشْغولٌ وَقْتُهُ، شَكُورٌ صَبُورٌ، مغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ، ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ، سَهْلُ الْخَلِيقَةِ، لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ، نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ، وَهُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ).
ولأن الخروج من بحر الإنقباض إلى ساحل الإنبساط هو الآخر نزعة إنسانية فطرية، فإن الإنسان يبحث عن الوسائل الملائمة لنفسه، فبعض يتخذ لنفسه خليلا ونديما وسميرا، وبعض يمتطي صهوة السفر، وبعض يتخذ من رياضة المشي وسيلة للتنفيس عن الروح المتعبة، وبعض يرتاد نوادي الرياضة، وبعض يجالس رفوف المكتبات العامة ينتقي من الكتب ما يزيح عن نفسه ثقلها، وبعض يصب غضبه في الكتابة يحبّر بياض الورق بسواد المداد، ومن كان ينام على القراءة والكتابة ويصحو عليهما، يجد راحة ذهنه وأنامله في مطالعة كتب الفكاهة والعبر والقصص القصيرة بوصفها رياضة روحية.
بين يدي كتاب (المائة السفائف في البدائع واللطائف) الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 108 صفحات من القطع المتوسط، كتبه الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في أوقات استراحته ليكون أداة أخرى من أدوات الترفيه لمن أتعبته معاول الحياة ضمَّ مائة عبرة وقصة يغلب عليها طابع الفكاهة قدّم له الأستاذ علي التميمي.
سفيفة وشريط حريري
جرت العادة عند افتتاح مهرجان أو مشروع أو منشأة جديدة أن يتقدم من هو في سدة الريادة أو صاحب حظوة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إو علمية إلى قص الشريط تحت وقع التصفيق أو جوقة موسيقية بحضور جمهرة من الناس ووسائل الإعلام، فالشريط المزركش والمورَّد هو بمثابة الخط البرزخي الحاضر الفاصل ما بين ماضي المشروع ومستقبله، وقص الشريط دلالة على الإنجاز والنجاح.
وهذا الشريط يكون حضوره في المحافل في الأعم الأغلب علامة سرور، فشريط شعر الصبية مورد فخرها وبهجتها، وفي العادة فإنهن في المدرسة أو المحلة يتبارين بنوع الشريط ولونه وكيفية ربطه لخصال الشعر ويتغامزن على ذلك بروح شفافة طفولية، وعلبة الهدية صغيرة كانت أو كبيرة يبعث فتح شريطها على البهجة والسرور لدى متلقيها، وتحرص محلات بيع الهدايا على أن يكون الشريط الملون جزء من أي هدية يراد تعليبها لأنها تعطي للهدية قيمة اعتبارية إضافية بغض النظر عن القيمة المادية والشرائية لأصل الهدية المشتراة أو المهداة.
وهذا الشريط المبهج هو جزء من حياة الإنسان في كل مراحل حياته، يعود إليه عندما تهجم عليه لوابس الهموم والغموم، وكل يستخدم الشريط على شاكلته، وأصحاب القلم الذين يتعرضون كالبحر إلى مد وجزر في المزاج، عندما تضيق بهم سبل الحياة يلجؤون إلى ما في جعبتهم وصندوق حصالتهم من بديع القصص ولطيف الروايات يتسلون بها، وكتاب (المائة السفائف في البدائع واللطائف) هو جانب مما في جعبة المؤلف من قصص وحكم وعبر تجمعت لديه من قراءات لكتب ومؤلفات في أوقات مختلفة أو بعض مسموعاته وجانب من مشاهداته، لإيمانه وفقا لما ورد عن أمير الحكمة والبيان الإمام علي (ع): (إنَّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحِكَم)، ولذلك فإنه عليه السلام يحذرنا من حمل القلب على لا يرغب، ويؤكد: (إنَّ للقلوب شهوة وإقبالا وإدبارا، فآتوها من قِبل شهوتها وإقبالها، فإنَّ القلب إذا أكره عَمي)، ورغم التأكيد على النوافل في العبادات، لكنها هي الأخرى خاضعة للنفس البشرية وتقلباتها، ولهذا يضيف عليه السلام: (إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ)، لأن حمل القلب في غير الوجوب على ما يكره يؤدى إلى شرخ في النفس وعمى في القلب يعطي نتائج غير طيبة، من باب: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) سورة البقرة: 286.
وعن سبب التسمية يقول المؤلف في التوطئة: (تجمعت لديَّ كم من قراءات تلك الكتب، فسميته بـ: “البدائع واللطائف” ولكنني لدى الطباعة أضفت عليه: “المائة السفائف” ومن المعلوم أن السفيفة تطلق على الشريط الحريري ذي اللون الزاهي والذي يربط به الشيء الذي يُراد إهداؤه مزيدًا للزينة)، والعلة في طباعة هذا المصنَّف، يضيف المؤلف: (لعلَّني أتمكن بذلك أن أرفع بعض الحيف الواقع على الطلبة الذين لا يجدون متنفسًا إلا عبر هذه النكات التي لا تخلو من فائدة، رغم أن التلفاز وسائر وسائل التواصل الإجتماعي والمجلات والصحف في عصرنا الحاضر ربما توجب الإستغناء عن تلك الطريقة القديمة التي كان العلماء يستخدمونها).
والمؤلف فيما ذهب إليه واقف على التطور الذي حصل، رغم إيمانه والكثير من أرباب القلم أن ما بين الدفتين سيظل هو سيد الموقف مهما تطورت وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، لأن الكتاب هو الحافظ للكلام ومجمل العلوم البشرية، وهو مرجع الإنسان.
وتتنوع الشرائط والسفائف وتتطور مع الزمن، فنديم الملوك سفيفة، والعبرة سفيفة، والنكتة السياسية سفيفة، والحكمة سفيفة، والحكواتي سفيفة، والمنشد سفيفة، واللعبة سفيفة، والكتاب سفيفة، والقصة سفيفة، والملعب الرياضي سفيفة، والديوان والملتقى سفيفة، والأهزوجة سفيفة، فكل ما يسر النفس ويرفع عنها ضنكها من غير اعتداء على نواميس الطبيعة هي شريط حريري وسفيفة من سفائف البهجة، والكتاب الذي بين يدينا هو شريط من شرائط الأفراح يزين معصم الراح دونه معاقرة المدمن للراح الظان ظن السوء أن دوران الكأس في رأسه باعث على نسيان الأتراح.
من سفائف المائة
من لطيف السفائف أو الشرائط الحريرية المائة، أن أمام رتبة كان يؤم سكان بلدة في صلواتهم نظير أن يؤمِّنوا له وجبات الطعام اليومية، فكانوا يوفرون له كل يوم الخبز مع المخللات (الكامخ)، وكان في نفسه أن يأكل مما يأكلون في بيوتهم من لذيذ الطعام، ولأن مركزه الديني لا يتيح له الإفصاح عما في نفسه، فاستغل الإمامة لإيصال رسالته، فعندما وقف للصلاة وبدأ بالركعة الأولى قرأ بعد التوحيد قوله المعوي: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تطعموا إمامكم خبزا ولا كامخا بل أطعموه خبزا ولحما، فإن لم تجدوا لحما فدجاجا، فإن لم تجدوا دجاجا فبيضا مقليا، فإن لم تجدوا بيضا فحوتا لذيذا سمينا، ومن لم يفعل ذلك فقد خسر خسرانا مبينا)!، وعند حلول الركعة الثانية قرأ بعد التوحيد قوله البطني: (فإن لم تجدوا حوتًا فخبزًا وعسلًا سمينا، فإن لم تجدوا ذلك فثريدًا، ومن لم يفعل ذلك فقد ضل ضلالًا بعيدًا)!
ونال الإمام مبتغاه حيث تحملق حوله المصلون يمدون إليه يد الإعتذار عما بدر منهم من تقصير، وعندما سألوه عن الآية ونزولها ومكانها، أرجعهم إلى سورة المائدة، وبالطبع هو يعني سورة المائدة التي أنزلها شيطان معدته التي أتلفها دوام الخبز والمخللات.
ومما جرى بين سجاح بنت الحارث التميمية المدعية للنبوة وبين مسيلمة بن ثمامة الحنيفي الشهير بالكذاب أنها أتت إليه في زحمة الصراع بينهما على تسنم تقاليد النبوة الكاذبة طلبت منه أن يعرض عليها من الآيات المنزلة عليه، فقال بعد أن أدخلها خيمته واختلى بها أنه أوحي إليه: (إنكن معشر النساء خُلقن أمواجاً، وجَعَلَ الرجال لَكُنَّ أزواجاً، يولجن فيكن إيلاجاً، لا ترون فيه فتوراً ولا إعوجاجاً، ثم يخرجونه منكن إخراجاً)، ولما سمعت منه القول ذابت نفسها وصدِّقته النبوة، فعرض عليها الزواج فوافقته الرأي، حيث وافق شنٌ طبقه، فقال لها من الهزج:
ألا قومي إلى المخدعْ *** فقد هُيئَ لك المضجعْ
فإن شئت قلبناكِ *** وإن شئت على الأربعْ
وإن شئت بثلثيهِ *** وإن شئت به أجمعْ
فقالت: بل به أجمع، فقال مسيلمة: بذلك أوحي إلي!
وعلى سياق لطائف الآيات والسور، تأتي لطائف الأحاديث والروايات، حيث ينقل المؤلف عن صديق له في كربلاء المقدسة كان صاحب نكتة ولطيفة يُعرف بـ: “السيد النبوي”، إذ كان قد أباح لمقربيه أن يرووا عنه لطائف الأحاديث المبتدعة من كيسه، وإذا سألهم السائل عن الرواية وسندها قالوا: حديث نبوي، وهم يعنون في باطنهم السيد النبوي!
ومن لطائف الشعر بين الزوجين، التذرع بالأطفال، فالزوج إذا تاقت نفسه إلى عُرف الحبيبة وهو في سفر قال: اشتقت إلى رؤية الأطفال لكنه في الواقع اشتاق إلى أمهم بيد أن كبرياءه يمنعه عن الإفصاح عما في داخله، وإذا تاقت نفس الزوجة إلى عطر بعلها منعها خجلها من ذلك فتتحجج بالأطفال واشتياقهم لأبيهم، على أنَّ كلا منهما يعني صاحبه وإن ركبا خيل الكناية.
ومن ذلك أن أحدهم عزم على السفر فقال لزوجته (من الكامل):
عدِّي السنين لِغَيبتي وتصبَّري *** ودعي الشهور فإنهنَّ قصارُ
فأجابته على المنوال نفسه:
أذكر صبابتنا إليك وشوقنا *** وارْحَم بناتِكَ إنَّهنَّ صِغارُ
فرق لقولها وأناخ في بيته وقفل عن السفر.
وكل شريط فكاهي من السفائف المائة، فيها ما يريح النفس، وحسب تعبير الأستاذ التميمي في مقدمته: (وجدت في كتاب سماحة آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي الموسوم بـ: “البدائع واللطائف” ما يثلج الصدر، ففيه ما لذَّ وطاب من الحِكَم والألغاز والآثار الجميلة، كما أورد بعض القصص على الرغم من قصرها واختصارها لكن مداليلها جميلة ونافعة بل ومفيدة بكل ما للكلمة من معنى)، وبتعبير الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن الدهيني في مقدمة الناشر: (يحتضن الكتاب بين راحتيه مائة طرفة ولطيفة بديعة، في بعضها ما يضحك الناس ويرسم الإبتسامة على وجوههم، وفي بعضها – إلى جانب ذلك- العبرة والحكمة والموعظة والفائدة، والدعوة إلى الإصلاح)، والإنسان بطبعه تواق إلى السفائف ليرفع عن نفسه غائلة الأيام والسفاسف وسوء فعل الأنام في اليقظة والمنام.
الرأي الآخر للدراسات- لندن