السيمر / فيينا / الاثنين 27 . 01 . 2020
د. نضير الخزرجي
كلما ازدادت تعقيدات الحياة وتشابكت كلما انحصرت منافذ الكسب المالي الميسر لتوفير الأمن المالي والغذائي والترفيهي، بلحاظ أن الأمن المالي يمثل الركن القويم في هيكل البناء الذاتي والمجتمعي، ومع تشابك المصالح وتعارضها تزداد الهوة بين الغني والفقير، مثلها مثل الحفرة كلما أخذنا منها ازداد عمقها وارتفع ما حولها، فيرتفع الغني حيث يهوى الفقير، وهذه معادلة ظالمة تتعمق جذورها في المجتمعات مع مرور الزمن.
وفي مثل هذه الأجواء الغائمة فُقرا والصحوة غِنىً، تلح الحاجة على الفقير او أصحاب الدخل المحدود للبحث عن منافذ أخرى للكسب غير القادمة من كدِّ اليمين وعرق الجبين، ولما كان هذا الأمر ظاهرًا في وجوده ومحسوسًا في آثاره، تنوعت دوائر مالية في دغدغة مشاعر هذا الإنسان في الكسب السريع فكانت مراكز القمار التي تتنافس على استحصال ما في جيوب الناس واستنفاذها تحت بريق الربح السريع، وهو بريق أدخل الخراب في بيوتات كثيرة في شرق الأرض وغربها، بخاصة عندما تصبح المقامرة معاقرة كمعاقرة الخمور واعتيادا كتعاطي المخدرات لا يستطيع المرء عنها فكاكا.
وإذا كان القمار صريحا في الكسب المحرّم وإفقار الآخرين، فإن دوائر مالية أخرى وجدت طريقة مشابهة في الكسب السريع عبر ما يُعرف بـ “اليانصيب” أو “اللوتو” أو “اللوتري”، فالمقامر في اليانصيب يستصغر العملة التي يدفعها مقابل ورقة اليانصيب على أمل أن يضرب معه الحظ فيفوز بالجائزة الكبرى أو ما دونها دون أن يسأل نفسه أين تذهب بقية الأموال التي تستحصلها الجهة الكسبية وماهية هذه الجهة، فهو لا يسأل عن ذلك لأن همّه الأول هو الجائزة، وهذه العملية في واقعها لا تختلف عن القمار فهي تجلب عدوى اللعب مثلما هي عدوى القمار، وقد ذهب الفقهاء إلى حرمة اليانصيب بهذا الشكل لأن المستفيد جهة واحدة شخصا أو شركة، وهي مرابحة متراكمة على حساب المواطن.
ولإخراج اليانصيب من حالة الإحتكار عمدت الحكومات إلى استحداث شركات يانصيب معلومة الجهة والمصدر والصرف، وهي شركات وطنية أو قومية تطرح للسوق أوراق اليانصيب بأشكال مختلفة في مقابل مبلغ رمزي بسيط، وهي تهدف فيما تهدف إليه توزيع الأموال المتراكمة في مجال الإعمار وعلى هيئات غير ربحية في مجالات مختلفة رياضية واجتماعية وثقافية وطبية وتعليمية وغيرها، كما تهدف إلى خلق مليونير أو أكثر في كل أسبوع، وزجِّه طوعيا في مجال الإستثمار لخلق شركات صغيرة أو كبيرة وتشغيل اليد العاملة.
ولما كانت فرصة الفوز بالجائزة الكبرى في مثل هذا الحالات هي بنسبة واحد إلى أربعة عشر مليون، فإن الظفر في الجوائر المحرزة أمل بعيد الغور مثلما هو أمل إبليس بالجنة، ولهذا فإن اليانصيب الوطني يشترك مع يانصيب الشركات ومع القمار في قاسم الإعتياد المدمّر، فالقمار يدمر المقامر مالا ونفسا وجسدًا وأسرة، واليانصيب غير الوطني مع اليانصيب الوطني يحطم نفسية المعتاد على اللعب ويفرد له في ليلة السحبة شاشة بلازما عريضة من الأحلام الفنطازية التي لا تغني من فقر ولا تسمن من جوع.
الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي بحسّه الفقهي تناول مسألة اليانصيب من حيث الشرعية في كتيب “شريعة اليانصيب” صدر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة ضم 66 مسألة فقهية، مع تمهيد سلط فيه الضوء على مسألة اليانصيب من حيث الحرمة والحلية، إلى جانب مقدمة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري علّق فيها على المسألة وأفرد 24 تعليقة، فضلا عن مقدمة الناشر.
الحظ واليانصيب
اليانصيب كلمة رفيفة وجذابة لها أن تستميل الأحاسيس بشكل مباشر وخاطف بخاصة أصحاب الجيوب الخاوية على عروشها وما أكثرهم الذين يعبِّدون طريق الأمل بورود وهم الظفر بالجائزة الكبرى، فيا ترى من أين جاءت كلمة “اليانصيب”؟
اليانصيب كلمة مركبة من مفردتين، حرف النداء والنصيب، فنقول يانصيب، فالمفردة الثانية كما يشير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (بمعنى الحصّة أو الحظ، تقول هذا نصيبي أو هذه حصَّتي، والأول هو المراد، وحرف النداء إنما أضيف لأنَّ المشترِك ينتظر حظه في الفوز بالجائزة فيناديه يا حظِّي متمنِّياً الفوز، وأصبحت المفردة المركبة إسماً مستحدثاً تعني عملية التبرع بأمل الحصول على الجوائز).
فالهدف الأساس من اليانصيب كما يضيف الفقيه الكرباسي: (هو الحصول على المال وكسبه من خلال التبرعات من قبل الشعوب، وحتى يتم التبرع وضعت جوائز تشجيعية للمشاركة في مزيد من التبرعات).
فالمعيار في اليانصيب الريعي هو (التبرع) وهو ما يميزه عن اليانصيب الربحي والقمار ويخرجه من دائرة الحرمة، نعم تتحق الحرمة كما جاء في التمهيد في الأمور التالية: أن يكون الهدف محرَّماً، أن يكون الصرف محرَّماً، أن تكون المؤسسة وهمية، أن يكون قرضاً رَبَوياً، أن يدفع المال عوضاً عن المجهول، أن تكون العملية مقامرة.
وبمفهوم المخالفة فإنه إذا عُرف الهدف من التبرع لهذا اليانصيب أو ذاك، وعُرفت موارد صرف الأموال، وعُرفت هوية المؤسسة القائمة باليانصيب وسحبة الجوائز، وأن لا يكون بعنوان قرض ربوي، وأن يكون معلوم الحال، فعندها تخرج عن دائرة المقامرة وأصبحت الجائزة من نصيب من فاز بالقرعة الذي تبرع هو وغيره لهذا المشروع الخيري المعلوم في هويته وهوية القائمين عليه ومصارف الأموال المستحصلة.
وبمعرفة هذه الأمور ندرك أن اليانصيب متشكل من أضلاع ستة كما جاء في المسألة الثالثة من أحكام اليانصيب وهي: المشترك (المتبرِّع)، المال (التبرُّع)، المؤسسة (الجهة المانحة للجائزة)، القرعة (السحبة)، والجائزة.
رؤى في اليانصيب
للمال بريق نافذ لا يتوقف عند فئة عمرية معينة، فالصغير مثل الكبير له ولع بالمال بوصفه سلطة، والسلطة كرسي يتعارك عليه الصغار والكبار، وقد علق في الذهن منذ الصغر حرمة اليانصيب والتأكيد على الإبتعاد عنه بخاصة وهناك شركات نافذة همّها الربح وتفتقد للشروط الموجبة لليانصيب الخيري، على أن اليانصيب من وجهة نظر الشيخ الكرباسي: (في ذاته جائز)، إذ: (ليس اليانصيب بشكل عام محرّم، وإنما الأهداف والتركيبة تلعبان دوراً أساسيا في تحريمه أو تحليله، فإذا كانت الأهداف محرَّمة كان اليانصيب حراماً لا لذاته وإنما لاستخدامه فيما هو محرَّم، وأمّا في الكيفية فإنها تكون محرَّمة بذاتها لأنها بُنيت على أكل المال بالباطل)، فيحرم اليانصيب إذا افتقد إلى شرط من شروط الحلية، مثلا: (يُحرم إذا لم تكن هناك مؤسسة واقعية)، وكذلك: (يحرم اليانصيب إذا كان الجهة التي يُدفع لها المال تُعنى بمؤسسة محرّمة شرعا كالمخمرة مثلا أو مراكز البغاء)، وكذلك: (يحرم اليانصيب إذا صرفَ الأموال المتجمعة لديه فيما هو محرّم شرعاً)، أي إذا كانت الأموال المستحصلة من اليانصيب تذهب كلها إلى جهة محرّمة شرعا وبذلك تتحق الحرمة كما جاء في التمهيد: (أنْ يكون الصرف محرَّما).
وفي الغرب فإن اليانصيب الوطني الخيري يذهب بعض أمواله إلى مؤسسات يراها الشرع الإسلامي محرَّمة أو غير مرضية، ولكن اليانصيب الخيري لما كان في أصله حلال ومتوافق مع شروط وأركان اليانصيب غير الربحي أو الربوي فإن صرف بعض الأموال في مثل هذه المؤسسات لا يحرّم أصل الحلال والحلية كما يذهب إليه عدد من الفقهاء، وهذه المسألة تعيد بي الذاكرة إلى أيام رئاستي لمجلة الرأي الآخر الصادرة في لندن في الفترة (1996- 2001م)، في حينها توجهت يوم 13/9/1966م (28/4/1417هـ) إلى أستاذ الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي مرجع التقليد الراحل السيد محمد بن مهدي الشيرازي (قدَّس الله سرَّه) بمجموعة أسئلة عن اليانصيب الوطني أو (اللوتري) القائم في المملكة المتحدة وفي غيرها من البلدان، ومما سألت سماحته عن نية الفوز بالجائزة والعلاقة بين اليانصيب والقمار وصرف بعض أموال اليانصيب على مؤسسات لا يرتضيها الشرع؟ أجاب قدِّس الله سرَّه: (النية بوحدها لا اعتبار بها في هذا المجال وإنما الإعتبار بالواقع العرفي، فإن كان العرف يقضي بان ما يُعطى إنما هو جائزة، جاز شراء البطاقة لانه نوع معاملة عقلائية مشمولة لإطلاقات أدلة صحة العقود كقوله تعالى: “أوفوا بالعقود”، وإن كان الواقع العرفي يحكم بأن ذلك مقامرة لم يجز الشراء لانه مصداق القمار)، وعن موارد صرف الأموال أجاب رحمه الله: (لفظة “اليانصيب” ليست ملاكا للحكم وإنما الملاك عنوان المعاملة العقلائية وعنوان القمار عرفاً، لأنَّ الأحكام الشرعية تتبع موضوعاتها الحقيقية، وأما العلم بأنَّ ما يدفع للمؤسسة يصرف في الحرام فذلك لا يحرم الحلال، إلاّ مع انطباق عنوان “الإعانة على الإثم” عليه، والله العالم) (راجع: مجلة الرأي الآخر الجديد، العدد 2، 13/10/1996م).
ولما كان التبرع هو المعيار لدى الفقيه الكرباسي فإنه يرى: (إذا كان الهدف من شراء أوراق اليانصيب هو الحصول على الجائزة لا غير وليس التبرع للمؤسسة القائمة، فإنَّ ذلك غير جائز ويُعد نوعاً من انواع المقامرة، والمال الذي يحصل عليه يُعد من الأموال المحرَّمة)، ويعلق الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري على المسالة بقوله: “وهل يجوز جمعهما في يانصيب واحد كما إذا قصد الحصول على الجائزة والتبرع بها معاً، فالظاهر هو عدم الجواز إلاّ إذا كان الهدف الأصلي هو الثاني دون الأوَّل”، على أن الغديري يذهب مذهب الكرباسي في المعيار فعنده: (يظهر أن الذي يحرّم ويحلّل –اليانصيب- هو القصد الحدّي، فإذا كان قاصدًا للتبرع فهو حلال ويجوز التصرف فيه، وإذا كان قاصدًا للحصول على الجائزة فقط فهو حرام، ومنه يظهر حكم أصل العمل).
ثم يعود الفقيه الكرباسي ليؤكد: (إذا تبرع للمؤسسة القائمة بالفعل او بالقوة وكانت المؤسسة بذاتها غير محرمة بنفسها أو بصرف الأموال فيما هو محرّم فاليانصيب جائز، والمال الذي يحصل عليه المشترك بالقرعة حلال ويمتلكه).
وبالطبع فإن الفقيه الكرباسي وإن كان يرى التبرع هو المعيار فإنه يتفق مع أستاذه الشيرازي أنَّ: (الجائزة في اليانصيب الحلال حلال طيِّب لا إشكال فيه).
وإذا كانت الحكومات بشكل عام حددت في اليانصيب الوطني الفئة العمرية لمن يسمح له المشاركة وهو سن الثمانية عشر عاما فما فوق، فإن الفقيه الكرباسي كما في مسألة المشاركة السياسية في الإنتخابات التمثيلية النيابية وفي غيرها يرى أن الفئة العمرية غير قائمة في اليانصيب، فلكل له أن يتبرع ويشارك في اليانصيب الخيري، ولولي الصغير المشاركة، وإذا: (واشترى الولي من مال الطفل ورقة يانصيب فيما إذا كانت له مصلحة في ذلك وفاز، فلا يحق له أن يأخذ من الجائزة شيئا لنفسه).
ولكن ماذا إذا كان اليانصيب من نوع الحرام وحصل المسلم بطريقة ما على الجائزة فهل يرفضها؟
يرى الفقيه الكرباسي أنه: (جاز للمسلم التصرف فيما فاز به من باب استنقاذ المال كي لا يُصرف في جهة محرّمة أو كان المال ممن لا حُرمة له في الإسلام كالمُحارب)، بل ويزيد على ذلك أنه: (يجوز أخذ التبرعات من مؤسسة اليانصيب للمشاريع الخيرية والإنسانية والإسلامية، وإن كان نوع اليانصيب فيها محرَّماً).
وهناك مسائل عدة يتعرض لها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في “شريعة اليانصيب” الذي يعد واحدًا من ألف كراس في عناوين كثيرة، ولكن الكراس في محصلته يوجِّه دعوة تربوية إلى عدم الإنجرار وراء اليانصيب حتى المشتمل على أركان الحلية، لأنه يرفع من منسوب الأمل السرابي ويتحول إلى عادة واعتياد يشل من حركة تفكير الإنسان نحو العمل والسعي والحركة، وربما أضعف عنده اليقين بحكمة الله وقدره في الرزق، على أن يبقى شعاره في الحياة: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) سورة النجم: 39- 40.
الرأي الآخر للدراسات- لندن.