السيمر / الخميس 28 . 01 . 2016
صقر ابو فخر/ لبنان
قال لي أحد الأصدقاء إن الحرب في سوريا جعلته يحفظ جغرافيتها كلها تقريباً، ويكتشف معالمها التي ما سمع عنها من قبل، ويتنبّه لأمور كانت خافية عليه، وما كان في إمكانه أن يعرفها بحواس الزائر المؤقت أو السائح. استغربتُ هذا الاعتراف، فهو مدعاة للغرابة حقاً. فكيف لمن يقيم في بيروت، على مبعدة تسعين كلم من دمشق، ألا يعرف هذه الحاضرة الدهرية وهي أقدم مدينة مأهولة في التاريخ؟ كيف تغيب دمشق عن مخيلته أو بصره وهي أعظم مدائن الشرق؟ بيد أني كنت أعلم أن هذا الأمر ليس غريباً تماماً لأن كثيراً من اللبنانيين لا يعرفون حتى لبنان، وبعض مسيحيي الجرود المعزولة لم يرَ مسلماً إلا بعد نهاية الحرب الأهلية في سنة 1990. وكي أردم فجوة القلب بين بيروت ودمشق، ها أنا أهدي هذا النص إلى المدينة المخضبة اليوم بآلامها بعدما كانت مأوانا كلما شدنا الحنين إلى مساءاتها، أو ضافت أرواحنا في بيروت، أو عافت أنفسنا الحياة اليومية في زواريبها الموبوءة بالعنف والتعصب. آنذاك، كانت ليالي دمشق مضمخة برحيق الياسمين الذي يظلل حاراتها وأزقتها، وبعطر الورد الجوري المعرِّش على حوائط منازلها، وبنسيم أشجار البيلسان المزروعة صفوفاً في شوارعها الجميلة. وها هي اليوم صارت مغمورة بروائح البارود والدم والموت التي ما فتئت الهمجيات الجديدة تنثرها في كل مكان.
طواف الليل
كنا نطوف بهذه المدينة لنسأل عن مرقد معاوية وقبر أبي الدرداء ومثوى صلاح الدين وجثمان يحيى بن زكريا ورأس الحسين ومقام السيدة رقية وقبر الست زينب ومدفن يوسف العظمة، وعن المدرسة الظاهرية والمدرسة العادلية وجامع سنان باشا والتكية السليمانية والتكية السليمية.وكم ترنحنا في الليالي المنعشة مشياً من الصالحية نحو سوق النحاسين، فننتشي بترتيل الجوامع الأموية، أو ننعطف نحو دمشق العتيقة في صباحات راعشة لنسمع أصوات القداديس في هذه الديار العابقة بالقداسة، أو لننصت إلى أنين النهر الذي ما زال يتغرغر ببعض مائه.
كانت دمشق توقظ فينا طعم المريمية وزهور السواقي ولون السُمّاق الحارق ورائحة الوسائد وحبال الغسيل وغبار المنازل القديمة، والشبابيك المشرّعة على النساء الجميلات، ونقرات الدوري على صفيح المنازل، واجتماع اليمام في ساحات البيوت الفسيحة، والقناديل المضاءة في الغرف الشبقة. وكنا نجوس في الليالي المقمرة نلتمس متعة هنا أو لقاءً هناك؛ ففي مقاهيها التقيت مصطفى الحلاج بعد أن غادر بيروت ليموت محترقاً في شعابها، وفي جنباتها تلمست مقام مولانا محيي الدين بن عربي بعدما مات منذ زمن طويل، وحدّقت في وجه كوليت خوري، وصافحت محمدالماغوط، واختلفت إلى الأزقة التي سار عليها قسطنطين زريق في طريقه إلى مدرسة الأسية، ورأيت بأم العين بيت نزار قباني في مئذنة الشحم، والزقاق الذي درج فيه نقولا زيادة في باب مصلى، والمنزل الأول لميشال عفلق في الميدان، وأين سار بولس الرسول حين نزلت «بشارة الرب» عليه في الشارع المستقيم (شارع مدحت باشا). وفي شارع النصر (جمال باشا سابقاً) وقفت أتخيل الأمير فيصل وهو يدخل إلى دمشق يحف به العلم العربي الذي رفعه سلطان باشا الأطرش فوق سرايا الحكومة بعدما خاطته نساء بلدته «القريّا» وطرّزته زوجته بنجمة سباعية في المثلث الأحمر. وفي ساحة المرجة استعدتُ، عند النصب النحاسي، أسماء الذين شنقهم الأتراك في سنة 1916، وحادثة طرد آرثر بلفور من الفندق القريب الواقع عند جسر فيكتوريا بعدما رشقه السوريون بالحجارة في سنة 1925.
أمويون وعباسيون
دمشق هي المدينة العربية الوحيدة التي تستقبل زائرها من الغرب بساحة الأمويين، وتودعه في الشرق بساحة العباسيين. ودمشق هي الجنة بأنهارها السبعة الناحلة، ولا سيما بردى (باراديس) الذي لا تضيع نقطة واحدة منه على الإطلاق. دمشق عاصمة الآراميين القدامى، ولسان السريان الذي تكلم به المسيح ابن الجليل الفلسطيني، ومدرج بولس الرسول في شارعها المستقيم. هناك، في نقطة ما بين الباب الشرقي (باب جوبتير) خاطب الرب بولس مقرّعاً، وألجأه إلى بيت حنانيا الذي ما برح قائماً حتى اليوم في كنيسته التي يوزع شمامستها البخور على الحارات المجاورة.
من الباب الشرقي تدلى خالد بن الوليد، ودخل دمشق فاتحاً… هكذا تقول الروايات. أما أبو عبيدة بن الجراح فدخلها سلماً من الباب الغربي، ثم دانت لهما أبواب المدينة كلها أمثال باب كيسان وباب السلامة وباب توما وباب سريجة وباب الجابية وباب الفراديس (أو باب العمارة) والباب الصغير (في الشاغور) وباب الفرج وباب النصر وباب جنيق وباب البريد وباب الحديد، وهي كلها قائمة حتى اليوم يحوطها سور المدينة، وتحرسها القلعة المجاورة لسوق الحميدية الساحرة. وفي ظاهرها ترك النبي محمد آثار قَدَمِه فسُميت «القَدَم»، وصار الحج الشامي ينطلق من محطة الحجاز في وسط المدينة إلى القدم فمكة عبر طريق الحج العابر لحوران التي أفاضت المرويات في الكلام على نزيلها الراهب بحيرا وصومعته في بلدة نجران شرقي بصرى الشام. أما الحارس الأبدي لدمشق فهو جبل قاسيون الذي يطوي في شعابه مغارة الدم التي لجأ إليها قابيل بعد ما قتل شقيقه هابيل. وفي سفوح ذلك الجبل الدهري ثمة كهف أسطوري يُقال إن ثلاثة من البشر ورابعهم كلب ناموا في عتمته مئات السنين ثم انتبهوا.
الفردوس
دمشق هي الحَور والصفصاف والتين والزيتون والياسمين وزهر النارنج والختمية ومعقود الكباد وأوراق الميرمية التي يسمونها في جبل لبنان القصعين، وفي الجنوب العيزقان أو المريمية أحياناً. وهي المسك واللبان والزنبق البلدي وعرائش الياسمين والدار والفسقية والتوت وشراب الورد وأباريق الخشاف في باب توما، والعرقسوس والتمر الهندي في كل مكان، وبوظة بكداش وزنود الست وشفايف الست ودبوس القاضي وحلويات الميدان وتين الديماس وصبّار المزة الذي ما برح يُباع منتشياً بماء الفيجة في شارع أبو رمانة، وبائعو الذرة المشوية والفول النابت والحمص الأخضر الذي يسمونه في الشام «طقِّس فقِّش»، ويسميه اللبنانيون «أم قليباني»، وبائعو الفستق الحلبي على جدار جامع باب توما
دمشق هي سوق التنابل في محلة الشعلان، وأصوات الباعة في سوق الهال الذين يتفننون في ابتداع التوريات اللطيفة في نداءاتهم المشهورة مثل: يا محلّي الأرامل يا جزر؛ إلّي بدّو يصالح حماتو يا حلاوتو (الجزر)؛ للمفطوم دوا (الرمان)؛ ما شلّحتو شلّح حالو هالدراق؛ بتبل القلب يا مقتى؛ خاين يا طرخون بتزرعوا بدوما بيطلع بحلبون؛ فول يا ترمس؛ إصبر على الحصرم بتاكلو عنب. دمشق هي سيدات المطبخ الشامي اللواتي اخترعن نحو ألف «أكلة» وغزون بها بلاد الشام كلها، ونثرن، مع الحلبيات، طبيخهن وجمالهن في هذه البقاع التي تعلمت منهن كيف يصنع اليلنجي واليبرق (ورق عنب) وشلباطو (مسقعة ملفوف بائتة) ويهودي مسافر (مسقعة باذنجان بائتة) ومحنّي دقنو (قريشة مع عسل) وطباخ روحو (خضراوات ولحم) وشيخ وجماعتو (كبة مع شيشبرك) وشيخ ولفتو (محشي يقطين) وعلي للو (رشتة وهي فارسية) وكبة شخاخة (كبة بالدهن) وادنين الميت (شيشبرك). دمشق هي المكدوس وخبز الفقراء وشاي الصباح والفول باللبن وعرق الريان ونبيذ وادي النصارى وتفاح الجولان ومشمش الشام وتوت الأرياف والمدافئ التي يصطلي الناس بنيرانها في ليالي الصقيع. دمشق هي الفتيات اللواتي يتعلمن العزف على العود في منازل الأهل، وتزف الواحدة إلى عريسها مجهزة ببذلة الرقص الشرقي والعود معاً. دمشق هي غرام المحجبات في الحدائق العامة كالسبكي وتشرين والجاحظ والتجارة وابن عساكر، وهي سيران الجمعة إلى الغوطة ودمر والربوة والوادي الأخضر وصخرة أذكريني، وهي قطار المصايف الذي يخترق وادي بردى والجبال الجرداء والوديان المشجرة حتى عين الفيجة وبلودان والزبداني وسرغايا ومضايا، وهي الرحلات المتوهجة بالشغف إلى صيدنايا ومعلولا وجبعدين التي ما فتئت تتكلم باللسان الآرامي القديم كما نطق به السيد المسيح.
الفن والظرف والحياة
دمشق هي اللاتيرنا (القنديل) والهافانا والبرازيل واللونابارك (الرشيد) والروضة والطاحونة الحمراء وبيت جبري ومطعم العز ومطعم الكمال ومطعم النبلاء ونادي الشرق ومطعم الخوابي ومقاهي قاسيون والفول بالكمون، ومقهى النوفرة عند باب جيرون، ومقهى «خبيني» عند الحائط الشرقي للجامع الأموي في آخر سوق القباقبية، ومقهى «خود عليك» في الربوة، والحصان الجامح (كريزي هورس)، والمقاهي الشعبية في الحجاز، ودور السينما التي ما عاد يرتادها إلا الجنود والعاطلون عن العمل مثل الأهرام ودمشق والزهراء والسفراء والكندي وغازي وقطان. دمشق هي مكتبات الحلبوني وشارع سعد الله الجابري وبائعو الكتب العتيقة في الصالحية، وهي الحمامات العربية الدافئة والمبهجة، ونيران الأميمي في القرماني ونور الدين زنكي والقيشاني والنوفرة والبكري والمسك. ودمشق هي في مختصر الكلام، أزقتها التاريخية التي تتقاطع وتتداخل وتتواصل في متاهة هندسية غريبة عجيبة لا يعلم مداخلها من مخارجها، حتى القرد الذي أضاع ابنه فيها. دمشق هي رجالها المشهورون الذين نشأوا في جنباتها أمثال قسطنطين زريق وميشال عفلق وصلاح البيطار وهاني الهندي وجهاد ضاحي ويوسف العظمة وخالد بكداش وخالد العظم وفارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر وأديب إسحق وأحمد أبو خليل القباني ونزار قباني وفخري البارودي الذي منح اسمه لصباح أبو قوس فصار صباح فخري، وشفيق جبري شاعر الشام، وخليل مردم وجورج صيدح ونسيب عريضة وكامل عياد وسعيد جورانية وغريغوريوس حجار ودريد لحام ونهاد قلعي ورفيق سبيعي ومنى واصف وياسين بقوش ونجاح حفيظ (فطوم حيص بيص) وتيسير السعدي وصبا المحمودي (صابر وصبرية) وأنور البابا (أم كامل) وحكمت محسن (أبو رشدي) وفهد كعيكاتي (أبو فهمي) وسلامة الأغواني ورفيق شكري. ومن أفيائها هاجر جوزف شلهوب (والد عمر الشريف) إلى الإسكندرية، وهاجرت من دمشق أيضاً مطربة القطرين فتحية أحمد، وكذلك حسني البابا (والد سعاد حسني ونجاة الصغيرة): ووالد المخرج المشهور هنري بركات، وجميل عزت البارودي (والد شمس الملوك البارودي وهي أجمل ممثلة في السينما المصرية قبل احتجابها في جلباب ونقاب)، وإبراهيم ونجيب عربيلي اللذان أصدرا أول صحيفة عربية في المهجر الأميركي هي «كوكب أميركا» في سنة 1892، وماري منيب (والدها الدمشقي حبيب نصير) ووالد كل من ألبير قصري (من بلدة القصير) وروبير صولي (أو سولييه كما يسميه الفرنسيون) صاحب رواية «الطربوش». ومثلهم فعلت فايزة أحمد (والدها أحمد بيكو من دمشق ووالدتها من آل الرواس الدمشقيين المهاجرين إلى صيدا)، وفريال كريم (أو فيرا سمعان شقيقة المطربة السورية المحتجبة لمعان). وفي دمشق عاشت وأبدعت غادة السمان وكوليت خوري وخالدة سعيد وسنية صالح ومهى بيرقدار ولودي شامية وماري جبران (أروع من غنى «أصل الغرام نظرة» لمحمد المسلوب) وكذلك محمد محسن صاحب «سيد الهوى قمري» لفيروز، و «مظلومة يا ناس» لسعاد محمد، وعمر أميرالاي ومحمد ملص وأسامة محمد وغسان مسعود وخالد أبو النصر وزكية حمدان وسهام رفقي ونذير العظمة وصادق جلال العظم وزكريا تامر وشوقي بغدادي وياسين رفاعية ومحيي الدين صبحي وظافر القاسمي ويوسف إيبش وصلاح الدين المنجد.
دمشق هي ساحة المرجة وعمودها النحاسي المشهور الذي نحته الفنان الإيطالي بابلو روسيني في سنة 1907، والتي كانت تصدح في جنباتها حناجر الناس وهي تردد «زيّنوا المرجة والمرجة لنا/ شامنا فرجة ونحنا مزيينا» التي اختطفها الرحابنة ووضعوها في حنجرة غسان صليبا، كما سطوا على أغنية «يا هلا بالراكبين الخيل»، وهي لحن رقّاوي، وحوّلوها إلى «هلاّ هلاّ يا تراب عينطورة»، وعلى كلمات أغنية «دقوا المهابيج» وهي من التراث الرقّاوي أيضاً. إنها ساحة الأمويين وساحة العباسيين وساحة البرامكة وساحة الحرية وساحة الفردوس وساحة حسن الخراط وساحة جورج خوري، والسبع بحرات والحجاز والعمارة والقصور والقنوات والصالحية والمالكي والحريقة والروضة وأبو رمانة والقطاع. هنا اعتقل جورج حبش في سجن الشيخ حسن، وهناك حرره وديع حداد بعملية مثيرة، وهنالك أوقف رجال الأمن ياسر عرفات بعد نسفه خط التابلاين والذي كاد أن يتزوج شامية هي نجلاء ياسين (أم ناصر). وفي ظاهر البساتين (اليرموك اليوم) بدأ الفدائيون تدريباتهم الأولى قبل معسكرات الهامة ومصياف وميسلون وبساتين حرستا.
دمشق هي الجامع الأموي ومزار يوحنا المعمدان ومعبد زيوس وقصر العظم وخان أسعد باشا العظم وقصر النعسان وقصر الشيخ تاج والمتحف الوطني والمتحف العسكري ومتحف الطب (البيمارستان النوري) ومتحف الفنون الشعبية ومعهد الحقوق ومدارس التجهيز واللاييك (معهد الحرية) والفرنسيسكان (دار السلام) والأمسية في حارة النصارى، ومكتب عنبر في حارة المسلمين، والمحسنية في حارة الشيعة (حي الأمين أي محسن الأمين)، وابن ميمون في حارة اليهود وهي الحارة الوحيدة في المدائن العربية التي يتجاور فيها الفلسطينيون اللاجئون واليهود بلا ضغائن أو ارتياب؛ فقد كان كل يهودي يهرب إلى إسرائيل يُمنح منزله لفلسطيني.
أرض الحياة
دمشق مدينة للتجارة والسياسة، لكن زعماءها هم مالكو الأرض؛ مدينة الأشراف والأعيان والأغوات والأفندية، ومال قبان ومال فاتورة وشيخ الصاغة وشيخ شهبندر التجار وشيخ السروجية وشيخ الأرض وشيخ الجامع. إنها مدينة الدلاّلين الذين يتقافزون في أسواقها البهية ويعرضون بضائعهم الجميلة بجميع مصطلحات التجارة وبجميع اللغات، مع أنهم لا يقرأونها ولا يكتبونها. دمشق هي سوق الأروام وسوق الحميدية وسوق الحريقة (سيدي عمود) وسوق العصرونية وسوق القباقبية وسوق الصاغة وسوق المسكية وسوق الجمرك وسوق الخجا وسوق الهال وسوق ساروجة وسوق البزورية وسوق الجزماتية وسوق المناخلية وسوق النحاسين حيث يُصنع السيف الدمشقي، ويتفنن حرفيوه في الحفر والتنزيل وابتداع الخشب المرصّع بالأصداف.
متحف بشري
دمشق متحف بشري فيه عرب وكرد وشركس وشيشان وتركمان وأروام وأرناؤوط وأبخاز وهوارة وداغستان وأرمن وعجم ومغاربة وسريان وكلدان وأشوريون، وفيه سُنّة ومسيحيون وشيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون وأحمديون وإيزيديون ومرشديون ويهود. واليوم، يا للحسرة، ها هم الأوباش والرعاع والغزاة القادمون من بوادي الجراد وجحور الضب، والضباع المقروحة الخارجة من كهوف تورا بورا، واللصوص والعسس والشبّيحة والذبّيحة كلهم اجتمعوا واتفقوا وتواطأوا على تجريح وجه دمشق (حاضرة الشام) والفتك بها وتدمير معالم دولتها، وإهالة الركام على تاريخها العظيم.
من دون دمشق سنُمسي متروكين في العراء مثل خيمة في الريح، أو مثل كنيسة مهجورة، أو مثل منارة محطمة على شاطئ بعيد. ودمشق الجريحة هي تاريخنا المكلوم ونزيفنا الراعف وحاضرنا الراعب.
كانت دمشق شراعنا وخيمتنا وحارس الصباح المعتصم دوماً لحمايتنا مثلما يحمي الصفصاف جنائن الغوطتين، وكان ذرى الليالي فيها ينثال على أجسادنا كحرير النهدين، وكانت قطرات مائها في أفواهنا مثل أعسال الشفتين، وكانت العيون في الحدقات لا تستقر حين تجتاز فاتناتها دروبها الضيقة، وكثيراً ما اعتصمنا بها من نيران لبنان، وجعلنا من أرجائها كعبة وكنيسة، ورحنا نطوف حولهما، ونوقد شمعاً للعابدات المقدسات، ونهبُ النذور للكاهنات الجميلات في هياكلها البديعة. يُقال عنها: «حصباؤها جوهر ونسيمها عنبر، وماؤها رحيق وترابها عقيق»، وكان السوسن الربيعي يطرّز حقولها، ونرجس حرمون يتضوّع في رحابها. واليوم راحت الذئاب وبنات أوى تعوي في كرومها، والقبائل البدائية تتراقص في تلالها الزهرية، وتمحو رونقها وألقها. لنتذكر فيروز التي كان صوتها يصدح، عند الضفة اليمنى لبردى، بكلمات أبدعها سعيد عقل، وما عدنا نصدقها:
شآم يا ذا السيف لم يغبِ .. يا كلام المجد في الكتبِ
قبلك التاريخ في ظلمة .. بعدك استولى على الشهبِ
السفير