السيمر / الاثنين 21 . 03 . 2016
سامي كليب / لبنان
لو أن مفاوضات جنيف جدية لاختير لها رجل أكثر دهاءً من ستيفان دي ميستورا. فالديبلوماسي الإيطالي المولود في السويد قبل 69 عاماً اختير أصلا لـ «تمرير مرحلة وإبقاء الأمم المتحدة حاضرة في الملف السوري والحفاظ على الخيار السياسي»، وفق توصيف مسؤول في الاتحاد الأوروبي. لم يفكر أحد بأن يكون دوره بالتالي، اجتراح حلول لأسوأ حروب القرن في سوريا. هو يجاهد ويناور ويقول لكل طرف ما يرضيه، والجميع ينتقدونه. الواضح أن هذا النوع من «اللامفاوضات» في جنيف لن يُفضي الى شيء، وإن هو حقق أي إنجاز، فسيكون مجرد مبادئ عامة. لا بد من تمرير ما بقي من عهد باراك أوباما بأقل حرائق ممكنة.
ما هو المقصود إذاً؟
لنلاحظ الآتي:
ـ استقر التفاهم الأميركي الروسي على دعم مؤسسات الدولة السورية. المقصود اولا الجيش العربي السوري. قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صراحة في مقابلته مع قناة CBS الأميركية آخر شهر أيلول الماضي: «ليس في سوريا إلا الجيش الشرعي النظامي لمحاربة داعش». واشنطن اقتنعت. يقال إن معلوماتها ساعدت الجيش السوري مؤخراً على ضرب الإرهاب والتقدم في بعض المناطق.
ـ مجلس التعاون الخليجي شدد في بيانه الختامي الأخير على ضرورة «الحفاظ على مؤسسات الدولة». سبقهم الى ذلك وزيرا خارجية السعودية ومصر في أواخر العام المنصرم. أكد عادل الجبير آنذاك بحضور سامح شكري وجوب الحفاظ على «المؤسسات المدنية والعسكرية».
ـ صحيح أن أميركا والدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي، تُقرن الكلام عن المؤسسات، بضرورة رحيل الرئيس بشار الأسد، لكن الصحيح أيضا أن في كلامهم ما يبرئ الجيش السوري من كل ما حصل في سوريا. لعلهم أرادوا بداية تأليب المؤسسة العسكرية على الأسد. لكن هذا لم يحصل طبعاً، ولن يحصل على الأرجح. حل مكان ذلك القلق من أن يؤدي انهيار الجيش الى انتشار الإرهاب والفوضى وتسلل النار الى دول الجوار.
ـ معظم مراكز الدراسات الغربية شددت على ضرورة عدم تكرار «خراب» العراق وليبيا في سوريا. فاجتثاث البعث وملاحقة الضباط في العراق أحدثا الفوضى والإرهاب. صحيح أن الخراب كان هو الهدف وأن حماية إسرائيل كانت تقتضي تدمير جيوش الدول المجاورة أو إشغالها بدواخل دولها، لكن الصحيح كذلك هو أن الإرهاب خرج عن ضوابط المخططات.
ماذا في المعلومات؟
منذ اتفاق بوتين وأوباما بشأن سوريا، تلحظ الخطط العسكرية ضرورة تعويم الجيش السوري وتشكيل إطار سياسي له وتوسيعه ليضم فصائل مسلحة مقبولة.
ـ يُبدي مسؤولون أميركيون وأوروبيون منذ فترة إعجابهم بأداء الجيش العربي السوري في خلال السنوات الخمس الماضية ضد الإرهاب. يعتبرون أنه كان الأكثر صلابة على الأرض، فيما تقهقر الجيش العراقي، وتلاشى الجيش الليبي، وانقسم الجيش اليمني. ما عاد أحد يتحدث عن «مسؤولية هذا الجيش في الحرب والدمار».
ـ يقال إن اتصالات غربية تكثفت مع المؤسسات الأمنية والاستخبارية السورية في الأشهر الماضية، وخصوصاً بعد الانخراط الروسي العسكري، بغية «تبادل المعلومات حول إرهابيين». ساعد في فتح الخطوط، شبح الإرهاب الذي ضرب في أوروبا وتركيا. بعض المعلومات السورية ساهم في القبض على إرهابيين وتجنيب أوروبا كوارث محتملة.
ـ مع عودة بعض الأوروبيين الى دمشق علانية (الاتحاد الأوروبي) أو خلسة. يُنتظر أن تشهد الحركة الديبلوماسية انفراجات، إذا ما تقدمت مفاوضات جنيف (نواب فرنسيون يستعدون لزيارة دمشق الأسبوع المقبل). أوروبا بحاجة للتنسيق مع دمشق في مجالي الإرهاب ووقف تدفق النازحين واللاجئين وإعادة بعضهم وإيصال المساعدات الإنسانية. لا تعارض دمشق ذلك لكنها تشترط رفعاً علنياً لمستوى العلاقات الديبلوماسية وليس الكلام في الغرف السوداء وتحت الطاولات.
ـ في سعيه لتدعيم دور الجيش السوري، يسعى بوتين الى إشراك دول عربية في محاربة الإرهاب في مناطق يُتفق عليها لاحقاً وتكون بإشراف أميركا وروسيا. بحث الأمر أكثر من مرة هذا الاحتمال مع الملك السعودي سلمان والملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس التركي (قبل إسقاط الطائرة الروسية). جدد ذلك مؤخراً مع القطريين والملك المغربي محمد السادس.
ـ تسعى موسكو لتخفيف القلق من استعادة الجيش السوري قدراته بعد ضم فصائل مسلحة الى صفوفه. تقول إنه بعد انتهاء الحرب لا بد من تعزيز مناخات السلام بدل الحروب. يعتقد بوتين أنه سيكون الأجدر على لعب دور الوسيط، نظراً لعلاقاته الجيدة مع سوريا وإسرائيل.
هنا يبرز رأيان: يقول أولهما إن إسرائيل ستحاول قبل انتهاء ولاية باراك أوباما، ضرب «حزب الله» للحؤول دون خروجه مع إيران والجيش السوري منتصرين من الحرب، ولشل قدرته الصاروخية الاستراتيجية التي حصل عليها في السنوات الماضية ولمعاقبة أوباما نفسه على اتفاقه مع إيران. يعتقد ثانيهما بأن التدريب العالي للحزب والجيش السوري في خلال السنوات الخمس الماضية قد يدفع الإسرائيليين الى تفضيل التهدئة والميل أكثر صوب السلام.
ـ فكرة بوتين أنه كلما استعادت الدولة السورية دورها وموقعها، كلما انتفت الحاجة الى وجود أطراف أخرى على الأرض السورية مثل «حزب الله» أو قوات إيرانية وأفغانية وعراقية وغيرها.
في كل الأحوال، لم يعد سيد الكرملين بحاجة الى جهود كبيرة لإقناع خصومه السابقين بدعم الجيش السوري. أولوية محاربة الإرهاب تتطلب تقوية الجيش وتغطية النقص وتشجيع السُنَّة على الانضمام اليه (هذا ازداد فعلاً منذ أشهر).
تبيّن أن كل المحاولات الأطلسية وغيرها لإحداث اختراق جدي داخل المؤسسة العسكرية السورية وجذب أحد ضباطها الكبار للانقلاب على الأسد فشلت تماماً حتى في أوج لحظات الوهن والقلق. لا شك بأن حالات فساد وخيانات لأجل المال أو انحرافات لأسباب مذهبية حصلت في صفوف الجيش السوري، لكنه لا يزال يقاتل منذ 5 سنوات في أسوأ الظروف، ويستمر بالتقدم صوب تدمر وغيرها، وصار الناس في المناطق التي يسيطر عليها التكفيريون يريدون جيشهم أكثر من أي وقت مضى.
ـ في المعلومات أيضاً أن اتصالات جدية تجري لإعادة عدد من الضباط الكبار المنشقين (ربما بعضهم انشق علانية فقط لكنه بقي ينسق مع الجيش السوري) الى دمشق. يقال إن اتصالات حصلت بين بعضهم وموسكو منذ فترة. قد لا تكون واشنطن نفسها بعيدة عن الأمر.
ماذا عن الجيش اللبناني؟
ما سمعه الوفد النيابي اللبناني الذي زار واشنطن مؤخراً فاق توقعات أعضائه. الجيش موضع إعجاب وتقدير كبيرين. الطائرات التي يحتاجها والتي كان من المفترض أن تؤمنها الهبة السعودية قد تصل بطريقة أو بأخرى. أداؤه لافت. أحد كبار المسؤولين الأميركيين الذين التقوا الوفد أعرب عن إعجابه الكبير بشخص العماد جان قهوجي ودوره.
وصل الأمر بالسفير الأميركي في لبنان ريتشارد جونز الى شن هجوم لافت على قرار السعودية إيقاف هبتها الى الجيش اللبناني ومعاقبة لبنان بذريعة التضييق على «حزب الله». قال خلال غداء مع عدد من المسؤولين اللبنانيين: «هذه ورقة تمت كتابتها في إسرائيل».
في هذا السياق، برز مسعى أوروبي لإقناع السعوديين بعدم وقف الهبة المقررة للجيش اللبناني، محذرين من مخاطر شمول كل لبنان بالعقوبات السعودية.
وتزامن ذلك، مع خطوة لافتة للانتباه تمثلت بسعي كل من باريس ولندن الى عدم تحويل مجلس حقوق الإنسان في جنيف الى منصة للسعوديين من أجل فرض قرار جديد يصنف «حزب الله» بأنه «ميليشيا إرهابية» على خلفية مشاركته في القتال الدائر على الأرض السورية.
في التقديرات الغربية والروسية، أن الجيشين السوري واللبناني ضمانة مستقبل محاربة الإرهاب، وأميركا مستعدة لتقديم العون عند الحدود لحماية لبنان بكل ما تستطيع وبأكثر ما يطمح لبنان. أولا لأن تعزيز الجيشين يخفف من خطر الإرهاب ومن وجود ميليشيات مسلحة، وثانياً لا بأس إن كانت إيران أو «حزب الله» بصدد المساعدة في المرحلة الحالية فـ «اللحى الخفيفة تبقى أقل خطراً من اللحى الطويلة» على حد تعبير مسؤول أميركي للوفد النيابي اللبناني.
هل نعود الى منطق الجيوش؟
لمَ لا؟ يسأل مسؤول أوروبي، فبعد التخلي الأميركي والغربي عن فكرة الإخوان المسلمين، ما عاد ممكناً تأمين استقرار إلا عبر قوات برية، لا بد إذاً من تعزيز الجيشين السوري واللبناني ومساعدة الجيش العراقي والاستمرار بدعم الجيش المصري وإعادة صياغة أسس الجيشين الليبي واليمني، فعدم مساعدة أميركا للسعودية مثلاً في القضاء على الرئيس علي عبد الله صالح في اليمن كان أيضا لقطع الطريق على «القاعدة».
لكن هل يمكن دعم الجيش السوري بوجود الأسد؟ هذه نقطة الخلاف الحقيقية في جنيف وحولها. البعض يقول إن لا جيش بلا الأسد، والبعض الآخر يقول إن الجيش يضمن البديل. الباقي تفاصيل.